انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1024/في سنن الله في الاجتماع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1024/في سنن الله في الاجتماع

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1953



للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

الإسلام دين الفطرة. بذلك شهد الله سبحانه إذ يقول في سورة الروم (فأقم وجهك للدين حنيفاً، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم) فأحكام الإسلام إن هي إلا تطبيق محكم من الله للسنن التي فطر الله عليها الناس في الاجتماع.

والناس في اجتماعياتهم لم يهتدوا بعد إلى قوانين الفطرة وإنما يحدسون ويظنون. فنجاحهم في الكشف عن سنن الفطرة في المادة لا يعادله إلا فشلهم في الكشف عن سنن الفطرة في الروح، روح الفرد وروح الجماعة. وهم أنجح في تفهم روح الفرد في علم النفس منهم في تفهم روح الجماعة في علوم الاجتماع. وآية ذلك الاختلاف السائد في هذه العلوم في حين أن لا اختلاف هناك في العلوم الطبيعية، علوم المادة والطاقة، لا في قوانينها ولا في وقائعها وإن كان هناك طبعاً اختلاف في الفروض والنظريات المتعلقة بما لا يزال منها قيد البحث والنظر والتمحيص. فعلوم الاجتماع في كثرة اختلافها وقلة اتفاقها تشبه العلوم الطبيعية في جزئها المجهول وما تعلق به من فروض، أي أنها لا تزال في دور التكوين، دور الحدس والتخمين.

ودور الحدس والتخمين دور ضروري يمر به كل علم في بحث ظواهره قبل أن يصل فيها إلى يقين. لكن علوم الاجتماع يعوزها ما ليس يعوز العلوم الطبيعية من معيار يفصل به بين الحق والباطل، ونميز به بين الخطأ والصواب. فالعلوم الطبيعية تحتكم إلى التجربة العلمية في الفصل بين الفروض المختلفة التي يؤتى بها لتفسير الظاهرة الواحدة، أي تحتكم في الواقع إلى الفطرة نفسها التي تجيب دائماً نفس الجواب عن نفس السؤال كلما أحسن العلم الطبيعي توجيهه. وهذا إن هو إلا مظهر لاطراد الفطرة في سننها، ونتيجة لازمة لذلك الاطراد. لكن العلوم الاجتماعية لا تملك ما يملك العلم الطبيعي من التجربة العلمية التي يتحكم العالم في إجرائها بالصورة التي يرى أنها أدنى أن تؤدي إلى الكشف عن الحق في موضوعها. صحيح أن علماء الاجتماع يستعينون أيضاً بنوع من المشاهدة، ولولا ذلك ما كانت هناك علوم اجتماعية قط. لكن شتان بين المشاهدتين: بين مشاهدة يكيفها ويضبط ظروفها المشاهد كما في العلم الطبيعي، وبين مشاهدة لا يكاد يكون هناك سبيل إلى التحك فيها أو ضبط ظروفها وتكيفها كما في العلم الاجتماعي. وهذا الفرق الأساسي هو سبب نهوض العلوم الطبيعية، وقعود العلوم الاجتماعية عن أن تبلغ من الدقة والإصابة المبلغ الذي يليق.

هذه النتيجة ليست راجعة إلى فضل فريق من العلماء على فريق، وإنما ترجع إلى طبيعة الموضوع في كل علم. فموضوع العلم الطبيعي هو المادة والطاقة والحياة في غير الإنسان. وما نفقد أو نخسر من ذلك أثناء التجارب لا يكاد يهم لأنه ممكن تعويضه. كلما تلفت أثناء التجربة الفاشلة كمية من المادة مثلاً أعدنا التجربة بكمية جديدة في ظروف جديدة حتى نهتدي إلى ما نريد. لكن مادة العلم الاجتماعي هي الإنسان متفرقاً أفراداً أو مجتمعاً بطوناً وشعوباً. ومن المحظور أن تعرض الفرد أو الجماعة إلى تجربة تؤدي إلى التلف أو حتى إلى ضرر ملحوظ، بل نفس احتمال الضرر في التجربة يكفي لمنعها وتحريمها قانوناً. فليس أمام العالم الاجتماعي إلا أن يشاهد ما يجري في حياة الجماعات من غير أن يكون له سلطان على تكييف ظروف الحياة تكييفاً يصل من خلاله إلى ما يريد من اختبار فرض أو اختيار الأرجح من رأيين والأصح من نظريتين. وهذا معناه أن سيطول الأمد على العلم الاجتماعي أو الفلسفة عموماً قبل أن يصل أو تصل إلى إثبات سنة من سنن الفطرة في الاجتماع كما قد وصل العلم الطبيعي إلى إثبات الكثير من سنن الفطرة فيما هو موضوعه من مادة الكون عدا الإنسان من حيث هو إنسان.

وعجز العلم الاجتماعي عن الوصول إلى الحق، مهما تكن أسباب ذلك العجز، لن يعفي أحداً من عواقب الخطأ أو التخبط في الحياة الاجتماعية نتيجة لجهل سنن الله التي طبع عليها الفطرة في الاجتماع. فليس ميدان الروح والحياة الإنسانية بأقل خضوعاً لنواميس الفطرة من ميدان المادة والطاقة، وليست نواميس الفطرة في ناحيتها الإنسانية الاجتماعية بأقل دقة وصرامة من نواميس الفطرة في ناحيتها المادية وإن خفي ذلك على الأكثر الأغلب من الناس. فالفطرة في حقيقتها كل شامل متصل وإن جزأه الإنسان ميادين وعلوماً متباينة لعجزه عن دراسة الفطرة دفعة واحدة. إن الإنسان مضطر إلى التحليل أولاً ليتوصل بعد إلى التركيب؛ مضطر إلى دراسة الجزء قبل أن يستطيع إدراك الكل في أمر من الأمور. فإذا قدر للإنسان في علومه المختلفة أن يحيط بالفطرة أجزاء منفصلة فسوف يستطيع إذا اهتدى إلى فلسفة غير فلسفته الحاضرة أن يبصر الطريق إلى ضم بعض تلك الأجزاء، على تباينها، إلى بعض ضماً يجعل منها كلاً متصلاً تتجلى فيه الفطرة وحدة موحدة يجلوها علم عام جامع لشتات العلوم كلها هو علم الفطرة. عندئذ يرى الإنسان أن سنن الله في الكون واحدة في اطرادها وتناسقها، وفي دقتها وصرامتها، لا سبيل إلى تغييرها ولا إلا لإفلات من عواقب مخالفتها سواء في ذلك ناحية المادة والطاقة منها وناحية النفس والروح في الأفراد والجماعات.

ومهما عذر الناس في جهل أن الفطرة وحدة واحدة في طبيعياتها واجتماعياتها فالمسلمون من بينهم لا عذر لهم؛ لأن كتاب الله فاطر الفطرة قائم بينهم يخبرهم من ذلك بما جهلته الفلسفة ولم يدركه العلم، في آيات هي في أيدي المسلمين وا أسفاه كالمصابيح في أيدي العميان، من نحو قوله تعالى من سورة تبارك (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ومن سورة فاطر (فهل ينظرون إلا سنة الأولين! فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً).

والعجيب أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن لم تنزل في سنن الله في المادة وإنما نزلت في سنن الله في الاجتماع لتنذر الناس عواقب كفرهم إن كفروا بالدين الذي هو دين الفطرة، وليبين لهم أن لله في هذه الناحية سنناً لا تتخلف جرت في الأولين بالإهلاك حين عصوا واتبعوا أهواءهم، وهي جارية لا شك في الآخرين إن هم عصوا أيضاً وخرجوا عن سننه سبحانه التي فطر عليها الناس، سواء أكان خروجهم ومخالفتهم عن جهل أم عن عناد.

ولقد بين الله سبحانه هذه الحقيقة في كتابه الكريم بشتى صور البيان. فتارة يجمل كما في نحو قوله تعالى من سورة الحج (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير. فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها). وتارة يفصل ثم يدل على موضع الحجة والعبرة في التفصيل كما تجد في سورة القمر مثلاً إذ قص سبحانه ما جر التكذيب بسننه ورسله على قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون، حتى إذا بين سبحانه من ذلك ما شاء تفصيله التفت إلى كفار قريش مخاطباً بقوله (أكفاركم خير من أولئكم؟) فدل بذلك على أن سنته في الكافرين المكذبين بكتبه ورسله سنة عامة لا استثناء لها ولا منجى منها إلا بالإيمان والعمل بالدين الذي تتمثل فيه قوانين الدين في الفطرة، وتتضمن أحكامه التطبيق المحكم لسننه سبحانه في الاجتماع؛ تلك السنن التي علم الله أن السبيل إليها وإلى تطبيقها غير ميسور للناس على الزمن ولا مضمون خلافاً لسننه سبحانه في المادة والطاقة وما إليهما فأمرهم أن يطلبوا هذه بأنفسهم ومن عليهم بتلك مطبقة محكمة في أحكام الإسلام.

ونحن اليوم نرى صدق عموم تلك السنن رأي العين فيما حاق بمخالفيها في الغرب وفي الشرق؛ فالغرب قد نال من العلم الطبيعي عن طريق البحث التجريبي ما نال حتى ظن أنه قد ملك الأرض يفعل فيها ما يريد غير مراقب في الناس إلاً ولا ذمة، ولا مراع في اجتماعياته شرعاً لله ولا سنة. فإذا بنفس علوم المادة تنقلب عليه نقمة، وإذا بأمواله تتحول بتلك العلوم مناجل وقنابل تحصد أهله، وتمزق شمله، وتترك دياره العامرة بلاقع ومدنه الزاخرة حطاماً (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد) وسيان أن يهلك العاصون لله وسننه بحجارة من سجيل يمطرونها على أيدي الملائكة، أو بقنابل زرية وغير ذرية يمطرونها على أيدي أمثالهم من الناس مصداقاً لقوله تعالى (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون).

ومن عجب أن الغرب لاقى ببغيه ومعصيته حربين هائلتين أنسته أولاهما حروب التاريخ، وأنسته أخراهما أهوال الأولى، وكان في كل منهما يبكي ويستبكي، ويدعو ويتضرع، ويعد ويمني؛ حتى إذا خرج من الأولى نسي ما عاهد عليه الله ونقض ما عاهد الناس فأذاقه الله بالثانية لباس الجوع والخوف فلم يعتبر ولم يرتدع ورجع إلى بغيه الذي ألف كما تشهد أعماله في مصر وفلسطين، وفي المغرب الأقصى وإيران وفي كينيا وكوريا وما إليهما. فلم يبق إذن إلا الثالثة تأتيه فلا تبقى منه ولا تذر. وأنى له أن يتجنبها وهو ينحدر إلى هاويتها بالاستعداد لها - زعم - كالمنزلق من جبل لا يستطيع إلا أن يزداد انزلاقاً حتى يهلك. فكان الغرب في ماضيه وحاضره مثلاً آخر مرعباً مؤسفاً للمكذب المغتر الظالم لنفسه ولغيره؛ فهو يوشك أن تحق عليه كلمة الله فيلقى ما لاقاه قوم قال الله فيهم (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين).

وأعجب من أمر الغرب أمر هذا الشرق الإسلامي الذي لا يزال يتخذ الغرب في اجتماعياته إماماً، كأن فشلها وخطلها لم يثبت بما أشاعت في الغرب من فرقة وبغض، وما جرت عليه من ويل وحرب. أو كأن هذا الشرق ليس بيده نور الله يهديه ودين الله يعتصم به. فلئن لم يتدبر قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) وقوله سبحانه (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) فيسمع لأول كل منهما ويطيع، ليوشكن أن يحق عليه سائرهما؛ فإن رأس سنن الله أن يطاع، وأن من لا يطيع يهلك. وسنن الله لا تتخلف كما يشهد به العلم في المادة، وكما يشهد به القرآن في الاجتماع.

محمد أحمد الغمراوي