انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1024/شعراء الوطنية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1024/شعراء الوطنية

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 02 - 1953


3 - البارودي

(1840 - 1904)

للأستاذ عبد الرحمن الرافعي

محمود سامي البارودي هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وأول من نهض به وجارى في نظمه فحول الشعراء المتقدمين؛ فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود.

كانت نشأته علمية حربية. تخرج من المدرسة الحربية وبدت عليه سليقته الشعرية وهو بعد في عهد التلمذة وانتظم بعد تخرجه في سلك المناصب المدنية ثم العسكرية وخاض غمار الحروب في ثورة كريد سنة 1866. وفي الحرب بين تركيا والروسيا سنة 1877، فصقلت المعارك مواهبه الشعرية.

وكان من زعماء الثورة العرابية. وتولى رآسة وزارة الثورة سنة 1882. ثم كانت الهزيمة. ونفي مع زملائه إلى جزيرة سيلان (سر نديب) وظل في منفاه نيفاً وسبعة عشر عاماً. وأسبغ عليه المنفى سمات التضحية والبطولة.

الحنين إلى الوطن

كانت حياة الزعماء في منفاهم حياة ألم وحزن. إذ انقطعت صلتهم بالناس. وطال اغترابهم عن أرض الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهليهم ومواطنيهم. ولم يكترث لهم أحد. ولم يعطف عليهم أحد (والناس مع الغالب!) وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن. والحزن على فراقه، مما يعد آية في البلاغة. وبلغت سليقته الشعرية في منفاه ذروة العظمة والجلال.

قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:

محا البين ما أبقت عيون المها مني ... فشبت ولم أقض اللبانة من سني

عناء ويأس واشتياق وغربة ... إلا شد ما ألقاه في الدهر من غبن

إلى أن قال: ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن

أهبت بصبري أن يعود فبزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن

وما هي إلا خطوة ثم أقلعت ... بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن

فكم مهجة من زفرة الشوق في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن

وما كنت جربت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن

ولكنني راجعت حلمي وردني ... إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن

ولولا بنيات وشيب عواطل ... لما قرعت نفسي على فائت سني

الصبر على الشدائد

وتجلت في منفاه صفاته العالية من الشمم وعلو النفس واحتمل آلام النفي بشجاعة وإباء. وصبر وإيمان. وله في ذلك شعر يفيض بهذه المعاني السامية.

قال وهو في سر نديب (سيلان):

لم اقترف زلة تقضي علي بما ... أصبحت فيه فماذا الويل والحرب

فهل دفاعي عن ديني وعن وطني ... ذنب أدان به ظلماً واغترب؟

فلا يظن بي الحساد مندمة ... فأنني صابر في الله محتسب

أثريت مجداً فلم أعبأ بما سلبت ... أيدي الحوادث مني فهو مكتسب

لا يخفض البؤس نفساً وهي عالية ... ولا يشيد بذكر الخامل النشب

وقال مشيراً إلى مصادرة أملاكه:

يا ناصر الحق على الباطل ... خذ لي بحقي من يدي ما طلى

أخرجني عما حوته يدي ... من كسبي الحر بلا ناطل

من غير ما ذنب وى سمنطق ... ذي رونق كالصارم القاطل

فإن أكن جردت من ثروتي ... ففضل ربي حلية العاطل

وقال من قصيدة أخرى في مقاومة الظلم والصمود أمام المحن والخطوب:

إذا المرء لم يدفع يد الجور أن سطت ... عليه فلا يأسف إذا ضاع مجده

ومن ذل خوف الموت كانت حياته ... أضر عليه من حمام يؤده

وأقتل داء رؤية العين ظالماً ... يسيء ويتلى في المحافل حمده علام يعيش المرء في الدهر خاملاً ... أيفرح في الدنيا بيوم بعده؟

عفاء على الدنيا إذا المرء لم يعش ... بها بطلاً يحمي الحقيقة شده

ومن قوله في الحنين إلى الوطن والصبر على الشدائد:

فيا دموع القطر سيلي دماً ... ويا بنات الأيك توحي معي

وأنت يا نسمة (وادي) الغضا ... مري برياك على مربعي

وأنت يا عصفورة المنحني ... بالله غني طرباً واسجعي

وأنت يا عين إذا لم تفي ... بذمة الدمع فلا تهجمي

أبيت أرعى النجم في سدفة ... ضل يها الصبح فلم يطلع

فهل إلى الأشواق من غاية ... أم هل إلى الأوطان من مرجع

لا تأس يا قلب على ما مضى ... لابد للمحنة من مقطع

يتمنى أن يرى مصر

وقال في منفاه يتمنى أن يرى مصر:

يا حبذا جرعة من ماء محنية ... وضجعة فوق برد الرمل بالقاع

ونسمة كشميم الخلد قد حملت ... ريا الأزاهر من ميث وأجراع

يا هل أراني بذاك الحي مجتمعاً ... بأهل ودي من قومي وأشياعي؟

وقال في هذا المعنى:

أبيت حزيناً في (سر نديب) ساهراً ... طوال الليالي والخليون هجد

إذا خطرت من نحو (حلوان) نسمة ... نزت بين قلبي شعلة تتوقد

شباب وأخوان رزئت ودادهم ... وكل امرئ في الدهر يشقى ويسعد

وقال أيضاً في منفاه:

ردوا علي الصبا من عصري الخالي ... وهل يعود سواد اللمة البالي؟

ماض من العيش ما لاحت مخايله ... في صفحة الفكر إلا هاج بلبالي

أدهى المصائب غدر قبله ثقة ... وأقبح الظلم صد بعد إقبال

لا عيب في سوى حرية ملكت ... اعنتي عن قبول الذل بالمال

قلبي سليم ونفسي حرة ويدي ... مأمونة ولساني غير ختال بلوت دهري فما أحمدت سيرته ... في سابق من لياليه ولا تالي

حلبت شطريه من يسر ومعسرة ... وذقت طعميه من خصب وإمحال

لم يبق لي أرب في الدهر أطلبه ... ألا صحابة حر صادق الخال

وأين أدرك ما أبغيه من وطر ... والصدق في الدهر أعيا كل محتال

لا في (سر نديب) لي إلف أجاذبه ... فضل الحديث ولا خل فيرعى لي

أبيت منفرداً في رأس شاهقة ... مثل القطامي فوق المربأ العالي

إذا تلفت لم أبصر سوى صور ... في الذهن يرسمها نقاش آمالي

علام أجزع والأيام تشهد لي ... بصدق ما كان من وسمي وأغفالي

راجعت فهرس آثاري فما لمحت ... بصيرتي فيه ما يزري بأعمالي

فكيف ينكر قومي فضل بادرتي ... وقد سرت حكمي فيهم وأمثالي

أنا ابن قولي وحسبي في الفخار به ... وإن غدوت كريم العم والخال

ولي من الشعر آيات مفصلة ... تلوح في وجنة الأيام كالخال

ينسى لها الفاقد المحزون لوعته ... ويهتدي بسناها كل قوال

فانظر لقولي تجد نفسي مصورة ... في صفحتيه فقولي خط تمثالي

ولا تغرنك في الدنيا مشاكلة ... بين الأنام فليس النبع كالضال

إن أبن آدم لولا عقله شبح ... مركب من عظام ذات أوصال

ومن قصيدة له يتشوق إلى مصر:

خليلي هذا الشوق لا شك قاتلي ... فميلاً إلى (المقياس) إن خفتما فقدي

ففي ذلك (الوادي) الذي أنبت الهوى ... شفائي من سقمي وبرئي من وجدي

وقال في هذا المعنى:

طال شوقي إلى الديار ولكن ... أين من (مصر) من أقام (بكندي)

حبذا (النيل) حين يجري فيبدي ... رونق السيف واهتزاز الفرند

تتثنى الغصون في حافتيه ... كالعذارى يسحبن وشى الفرند

قلدتها يد الغمام عقوداً ... هي أبهى من كل عقد وبند

كيف لا تهتف الحمام عليه ... وهي تسقي به سلافة قند كلما صورته نفسي لعيني ... قدح الشوق في الفؤاد بزند

وإلى العدد القادم حيث أتم الحديث عن البارودي وشعره الوطني.

عبد الرحمن الرافعي