انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1022/طرائف وقصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1022/طرائف وقصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1953



شيء كالربيع

(إلى الباحثين عن حقيقة الفن وعشاق الجمال)

للأستاذ محمد أمين (البندقي)

كان (المطعم الروماني) في ذلك اليوم غريب الزحام، وما ذاك إلا لأن أوليفيا الحسناء كانت منذ أيام قد راحت تتردد إلى زبائنها الكثيرين ووعدتهم بأشهى طبق من طيور الصيد، تقدمه إليهم بغير زيادة على ثمن الوجبة المعهود، إذا ما عاد زوجها من رحلة الصيد في السبت، وكان ذلك اليوم هو يوم السبت. وإذن فقد كان علي أن أرضى ويرضى معي زميلي زوراي بتلك المائدة المهجورة عند باب لا يكاد يقفل حتى يفتح من جديد. وكان علنا أن نروض النفس على الصبر. فالخادم الكهل جيانينو بعد أن جاء بالنبيذ قد شغله الزحام مرة أخرى، فما عاد يستجيب لندائنا عليه بأكثر من (نعم يا سيدي. حاضر.).

على أن الانتظار في الحق لم يكن يضنينا. فقد كان صاحبي يتسلى بأن يرسم على ظهر قائمة الطعام صورة بارعة لذلك المتسول الشيخ الذي جلس على مقربة منا وهو يعزف أنغام الفرح الصاخب على (الفيزارمونيكا). وأما أنا فقد كنت أقلب النظر إلى ذلك العالم الصغير الغريب فأكاد أنسى كل شيء.

كان هناك فيردينيو المثال وقد رأيته يطلب اللتر الكامل من جيد النبيذ، فقلت لنفسي أنه لا ريب قد أخذ عربونا على تمثال للعذراء علم الله على قبر أي تعيس من التعساء يوضع.

وكان هناك توبي الرسام، وكنت أراه يقنع في ذلك اليوم أيضاً بشرب الماء القراح وفي وجهه الصلابة والعزم، وأفكر في الصعاب التي يصادفها كل عبقري يأتي بالجديد.

وكان سوزي هناك أيضاً؛ وجدته ضاحك الوجه لم تمنعه سنوه الخمسون من أن يضع في عروة سترته تلك الوردة الحمراء الملتهبة، فلم أشك في أن علاقته مع تلميذته الصغيرة في الأكاديمية لم تزل على ما يرام.

وأظل أتنقل بالنظر من مائدة إلى مائدة، حتى ينتهي صاحبي وهو يهزني من ذراعي هزاً:

- فيرا الرسامة! أتعرفها؟ فأقول وما زلت شارد الذهن:

- كلا. ولكن يخيل إلي أن هذا الاسم قد سمعته من قبل.

- هي من أبرع الرسامات اللاتي عشن في روما.

وكان هذا الإعجاب الذي يبديه صاحبي - وهو الذي يبخل دائماً بالمديح - جديراً بأن يثير انتباهي. ولكن شيئاً غريباً في تلك المرأة هو الذي جعل نظري يتعلق بها وهي تبحث هنا وهناك عن مائدة خالية.

كانت ترفع رأسها كأنها ملكة. ولكن وجهها كان هادئاً صاخباً حتى كأنها شاعرة. ولكن شعرها الغزير الذهبي يترسل ليلاً على كتفيها فيوحي إلى النفس معاني الهدوء واللطف والبساطة.

وقد وقفت آخر الأمر عند عمود مغطى بخشب الجوز القديم فاطمأنت وحدها إلى مائدة. ولم يتأخر عنها جيانينو بربع اللتر المعهود. وأما صاحبي فقد عاد يقول وهو يراني أطيل إليها النظر.

- ألا تجدها غريبة؟ إنها لأعظم امرأة عرفتها وإن لها لقصة.

ولم يجعلني ألح عليه في الرجاء كيما يقص علي ما كان يعلمه، فقد كان يحس من نفسه كل الرغبة. وقال:

(كانت فيرا تعمل كنموذج للفنانين قبل أن تتوفر بنفسها على الرسم. وكان ينبغي لك أن تراها في ذلك الحين، أعني قبل عشر سنين، فقد كانت رائعة الحسن. وكان جسمها الذي رأيته في أمسيات كثيرة، عارياً يشتعل تحت النور القوي في نادينا القديم في شارع مارجوتا، شيء يفتن العين والقلب. ولعل لا تلقى في كبار الفنانين في روما من لم يوحي إليه هذا الجسم بعمل يعتز به فوق اعتزازه بأي شيء آخر. حتى ليقال إن الأستاذ (ف) باع رسوماً رسمها لزوجته وبناته وهن عاريات أتم العري قد أبى أن يفرط في رسم لها ود الكثيرون شرائه بأغلى ثمن. وهو يقول أنه يريد أن يأخذه معه إلى القبر، لأنه كل ما ظفر به من دنياه.

(ولم يكن الأستاذ (ف) في ذلك الحين هو صاحب ذلك الرسم الكبير الذي يرتفع حتى يبلغ ثمانية أمتار ويزيد، بل كان واحداً منا نحن الذين كنا نتردد على النادي كل مساء لكيما نرسم النموذج الحي لقاء صولديات قليلة، لعلك تعلم كيف كنا نقتطعها من حاجات العيش اقتطاعاً.

(وأقول أنه لولا ذلك لما استطاع الأستاذ (ف) أن يظفر بذلك الرسم الذي يعزه فوق إعزازه لأي شيء آخر؛ فقد كانت تيرا تأبى أن تعرض فتنتها على شيوخ الفن في المراسم الكبيرة الجافية، وتؤثرنا وحدنا بنعمة الإلهام من جسمها العجيب. فقد كنا شبعتها التي تلتف حولها في خضوع وعبادة.

(نعم كنا أتباعاً لجمالها. وكانت تصطفي من جمعنا من تشاء. على أنك لم تكن تعلم ما الذي يدنيك منها وما الذي يقصيك عنها. فقد كنت أن تقرر أن بعض الحسن أولى أن يستميلها، وأن بعض الشباب أحق أن ينال رضاها؛ ولكنها كانت تعرض عن هذا وذاك، وتقبل وأنت حائر والكل حيارى على القبح الذي كان يخطر لك أنه أشد ما ينفر، والشيخوخة التي لم تحسب لها أي حساب.

(غير أنها كانت تعود فتستبدل الحسن بالقبح والشباب بالشيخوخة، فلا أحد يتولاه اليأس من أن يفوز بمتعة ليلة. وهي كانت ليلة مفردة فلا يطمع أحد في أكثر منها. والويل لمن علل النفس بالآمال وطمع في دوام الحب. أنه كان يضيع قلبه ويتلف روحه.

(وظلت فيرا على هذا النحو نموذجاً لحقيقة الجمال وصورة لإحدى ربات الأقدمين غريبات الأطوار، حتى بدا لها في أمسية من الأماسي أن تجول بين أشتات اللوحات بعد جلستها الأولى لترى كيف رسمها الرسامون ووقفت عند لوحة فوقفت تضحك.

لم يكن هناك رسم ولا شيء يشبه الرسم في تلك اللوحة وإنما كان هناك على الأصح تراب الفحم امتزج به العرق الكثير، فنشأت منه بقع سود كبار، وإذا كان تحتها شيء فهو خيال امرأة لا يظهر للعين إلا على جهد.

فقالت فيرا، إذن فالرسم سهل يسير. فما يعجزني أن أرسم شيئاً كهذا.

ونظرت إلى صاحب اللوحة، وهو فتى غض الإهاب من طلاب الأكاديمية فإذا هو يستند إلى الحائط وهو يبتسم وكأنه يدافع عن نفسه بذلك الابتسام، فقلت لنفسي أنه مسكين، وإن أمره لم يكن عن جهل بالفن. وكنت على يقين؛ فقد جرى لي نفس ما جرى لذلك الفتى يوم أن رأيت جسم فيرا العاري لأول مرة. ولكن العرق الذي تصبب مني كان أقل. ولعل هذا لأن حظي من فورة الشباب كان أيضاً أقل. إلا أنني تمنيت أن لو قد أصابني كل ما أصابه أو أكثر. فقد وقع عليه الاختيار في تلك الليلة؛ ثم كان هو المختار أيضاً في الليلة التي بعدها، وفي الليلة الثالثة، وفي ليال أخرى متعاقبة. ثم بدأ نادينا يقل رواده لأن فيرا لم تعد تظهر. والشاب أيضاً لم يعد يظهر. ثم علمنا أن الاثنين طارا إلى عش على سطح دار صغيرة قي (مونت ماريو).

وكف صاحبي عن حديثه لحظة، فصب لي ولنفسه جرعة أخرى من نبيذنا القليل الذي كاد ينفد. وبحث في كل جيوبه عن شيء يعطيه لذلك العازف المسكين. ثم وصل الحديث فقال:

لم تعد فيرا تعمل كنموذج. وكان يقال أنها أحبت عيشة البيت الساكنة المطردة، أكثر مما أحبت عيشة الملاذ الطليقة المنوعة، لأنها أحبت رجلها. ولم تحبه فحسب بل كانت تعبده عبادة صادقة، وكان يخيل إليك بأنها كانت ترد إليه بهذه العبادة كل العبادات التي أسلفناها لها.

كانت تقاسمه حياته الصعبة؛ بل كانت تأخذ لنفسها وحدها من حياته الوجه الصعب. وتبذل قصارى الجهد كيما تتيح له الهدوء واليسر والدعة.

كانت تطحن الألوان، وتعد له التيل، وتصلح له الإطارات إلى جانب ما تقوم به من شؤون الدار.

وكانت تقطع شارع (ميداليا دوزو) الطويل في كل صباح على قدميها في ذهابها إلى السوق وعودتها، لتقتصد (الصولديات) القليلة، ولا تنفقها على الترام. والشراء من السوق وحده كان كلفة صعبة. فقد كان عليها أن تمر بالباعة كلهم فتستعرض ما لديهم في دقة وعناية، قبل أن تقدم على شيء. وكانت تلتفت حولها في كل لحظة، وتأخذ حذرها، حتى لا تراها جارة من جاراتها الكثيرات. فقد كان يعز عليها أن يعلم الناس أن فيراري الأستاذ الجميل الفتى يعاني شظف العيش، حتى لتشتري امرأته أرجل الدجاج وأوراق الخص (المفرطة) والبيض المكسور.

(ولكن شيزارينا الرسامة، صديقتها وخليصتها، قد اطلعت على سرها وجاءت تقص علنا النبأ في المقهى اليوناني فأحسسنا مرارة الأسف. إلا إن فيرا نفسها لم تكن تأسف. وكنت إذا قابلتها في بعض الطريق صدفة وما كنت تلقاها إلا صدفة، حيتك وعلى ثغرها ابتسامة حلوة، يتجلى فيها الرضا. فإن أطلت النظر إلى وجهها الذي بدأت تتغير قسامته بعض الشيء من أثر السنين في حياتها الجاهدة، أو تأملت في ثوبها البسيط الذي حاولت بذوقها العالي أن تجعل له رواء، أو تطلعت إلى شعرها الذهبي الذي لم تحسن ترجيله لعجلتها في الصباح ردتك في لطف كما ردتني مرة بقولها وهي تضحك: سيدي الأستاذ! لا تنظر إلي هكذا! إني امرأة صالحة، وإني لا أسمح. .

(وكان إيمانها بفتاها كإيمان الشهداء لا حد له. فإذا قال لها قائل لماذا يتمسك فيراري بذلك المذهب الغريب في الرسم والناس لا يفهمونه ولا يرون فيه جمالاً أجابته قائلة: إن فيراري نابغة يجهل الناس قدره، ولا ضير عليه أن يلقى الصعاب، فكل نابغة قد تعب قبل أن يدرك غايته.

(وقد لقيتها بعد معرض عرض فيه فيراري بعض رسومه فحمل عليه النقاد حملة قاسية. وسألتها ماذا قال فيراري حين سمع ذلك النقد فقالت، وهي ثائرة النفس:

ماذا يعلم النقاد من حقيقة الفن؟ إن الفن لا يعرفه إلا من عاش فيه. وقلت أني لا أحسبهم قد بعدوا عن الحق. فقالت وهي تبدي المزاح وتخفي الجد: سيدي الأستاذ أليس من الجائز أن تكون غيوراً؟)

إن اللواتي يشبهن فيرا ندرة بين النساء، أو ما علمت أن زوجتي حين ساءت حالي زمناً قصيراً لم يزد على شهر سعت إلي مرة بكل ما في المرأة من اللين كيما تقول إنها عثرت لي على عمل آخر أهون علي من الرسم وأكثر ربحاً وهو وظيفة بواب؟

(لقد كانت فيرا في الحق كنزاً عظيماً. إلا أن ذلك الفتى الغرير لم يقدرها قدرها. فقد أخذ بعد فترة من الزمن يميل عنها ويكثر السهر خارج الدار متعللاً لذلك بشتى العلل. وكانت فيرا تظن كل شيء إلا أن يكون الفتى قد مل عشرتها. ولكنها علمت مرة بطريق الصدفة أن للفتى خطيبة من بنات (تراستفري) الغاويات أبوها صاحب مطعم وأن الفتى يقضي مع الصبية في المطعم وعلى شاطئ التيبر شطراً من المساء وشطراً من الليل.

لم يكن في إصبع فيرا (دبلة) كالتي تلبسها كل حليلة لأنها لم تكن حليلته. ولكنها كانت في واقع الأمر زوجاً كأفضل الأزواج. وإذن فقد كان لها أن تثور أو تبدي الغضب أو تصب على صاحبها اللوم، ولكنها لم تلجأ إلى شيء من كل هذا.

وعاد الفتى ذات ليلة، فوجد عشاءه ساخناً مهيئاً كما اعتاد أن يلقاه في كل يوم، ووجد معه رقعة صغيرة، تقول فيها أنها لن تعود.

وما فعله الفتى بعد ذلك تستطيع أن تدركه بالبداهة تزوج بطبيعة الحال من ابنة صاحب المطعم. ولكن الرجل الغليظ لم يكن يؤمن بشيء غير الحقائق البينة، فما زال بالرسام المسكين حتى أقنعه بالعدول عن الرسم وجعله يرضى بوظيفة صغيرة يأتيه منها مرتب ثابت، فاطمأن بذلك على مستقبل ابنته، أما فيرا. . .

ونظر كلانا إلى فيرا فإذا بها تنادي على جيانينو بإشارة هينة، وتدفع إليه ثمن النبيذ وحده، لأنها كانت مثلنا لم تذق طعاماً ثم تنهض.

ومرت بصاحبي فحيته بابتسامة عذبة، وخرجت وهي خفيفة كالنسمة.

وقال صاحبي:

إني لأعلم أين وجهتها. ستذهب في كعادتها في مثل هذه الساعة إلى مقهى صغير أمام قصر الدمغة فتجلس هناك قرب النافذة، لتختلس نظرة إلى فيراري عندما يخرج. وبعد ذلك تمضي إلى بيتها كدأبها كل في يوم لترسم لوحة أخرى من لوحات الزهر.

رسمها ما أعجبه! يجب عليك أن تراه، فما أكثر ما فيه من الشعور وما أكثر ما فيه من السحر! أنه شيء كالربيع.

المنصورة

محمد أمين البندقي