انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1012/هل كان النبي يعلم الغيب؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1012/هل كان النبي يعلم الغيب؟

مجلة الرسالة - العدد 1012
هل كان النبي يعلم الغيب؟
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1952



للأستاذ احمد محمد جمال

هل كان النبي محمد عليه السلام يعلم (الغيب) كلياً، ومطلقاً، ودائماً؟

أما أنا: فأقول: لا. وإنما كان يعلم (الغيب) بإيحاء الله له - متى شاء - في أزمنة، وأمكنة، وقضايا محدودة غير مطلقة. وليس الحجاب مكشوفاً له دائماً، بحيث يرى (غيب) ملكوت السموات والارض، ويعلم كل ما حدث أمس، وكل ما يحدث بعده. . وإن لم يرهما.

ولكن الأستاذ ناصر سعد - من العراق - كتب في مجلة الرسالة الغراء (العدد - 998) مقالا يجزم فيه بقوله: (إن النبي - ولا شك - كان يعلم الغيب فيخترق بعقله أو بروحه الحجب، ويعرف حقائق أسرار الكون. . . ولا مجال لتكذيب هذا الأمر اليوم، بعد أن اقر علم النفس الحديث قراءة الأفكار وإحضار الأرواح ومحادثتها) الخ.

وذهب الكاتب الفاضل يضرب الأمثال على ما زعم فذكر:

(1) إخبار النبي عليه السلام لعمار بن ياسر (إنما تقتلك الفئة الباغية).

(2) تحديثه بأشقى رجلين: أحمير ثمود عاقر الاقة، وعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

(3) تحديثه عمير بن وهب بما جاء من اجله إلى المدينة، وهو ما تآمر عليه هو وصفوان بن أمية، في الحجر باليمامة، من اغتياله عليه السلام.

(4) إخباره لعمه العباس يوم أسر في واقعة بدر، بما خبأه عند أم الفضل بمكة من مال.

(5) ما حدث به سلمان الفارسي أثناء حفر الخندق، عنده لمعت برقات ثلاث تحت معوله - عليه السلام - الذي كان يضرب به صخرة اعترضت الخندق، فقال عن الأولى إنها بشار فتح اليمن، والثانية فتح الشام والمغرب، والثالثة فتح المشرق،

وقد صحت هذه البشريات، فتمت هذه ألفتوح.

(6) حديثه عن العاصفة التي هبت في طريقه إلى غزوة بني المصطلق، بأنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما وصل المسلمون إلى المدينة وجدوا رفاعة بن زيد اليهودي قد هلك في ذلك اليوم. . .

(7) قصة حاطب بن أبي بلتعة، وعلم النبي بالمرأة التي حملت حاطب رسالة إلى مشر قريش ينبئهم فيها بمقدم النبي إليهم.

(8) إخباره لوفد أهل جرش - باليمن - بما أصاب قومهم من تقتيل صرد بن عبد الله لهم.

إلى غير ذلك من الحوادث - ذكرها الكاتب أم لم يذكره - مما اتخذها أدلة على علم النبي (بالغيب)، وهي - إن كثرت أو قلت - لا تغني في تقوية ما زعم، ولا تكفي لتصحيح ما ادعاه.

وأول ما نريد نقضه من قواعد زعمه ما زين له من الاحتجاج بما اقره علم النفس الحديث من (قراءة الأفكار) و (إحضار الأرواح ومحادثتها).

فليس ما كان يوحى إلى النبي عليه السلام من (غيوب محدودة معدودة من قبيل قراءة الأفكار، وإحضار الأرواح. وإن فما الفرق بينه وبين الناس العاديين الذي يحترفون هذين العملين الوهمين - على الصحيح -؟

إن الحجة يجب أن تكون من جنس المحتج عليه. وعرف النبي ببعض (الغيوب) كان وحياً إلهياً، لا أكثر ولا أقل وهذان العلمان أو الوهمان ليسا كذلك بلا مراء، ثم إن علم النبي ببعض (الغيوب) لا يصححه لدينا أو يصوبه ويؤكده لنا شيء من هذه التجارب والمعارف الحديثة؛ وإنما نؤمن به، كما نؤمن بالقرآن الذي يذكر لنا أن محمداً عليه السلام أوتى بمعجزات عديدة، كما أوتى النبيون من قبله معجزات أيضاً. ولا نزيد.

وهذا (القرآن) الذي نؤمن به، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونؤمن بما ذكره عن معجزات الأنبياء جميعاً - يذكر في آيات صريحة فصيحة مكررة مؤكدة: أن النبي عليه السلام كان لا يعلم الغيب كلياً، ومطلقاً ودائماً.

- (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله).

من سورة النمل

(قل لا أملك لنفسي نفعاً أو ضراً إلا ما شاء الله، ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء. .)

من سورة الأعراف

- (قل ما كنت بدعا من الرسل، وما ادري ما يفعل بي ولا بكم. .) من سورة الأحقاف

- (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب. .) من سورة الأنعام

اجل لو كان النبي عليه السلام يعلم الغيب كله، لاستكثر من الخير، ولما مسه سوء أعدائه ومكائدهم، ولاتخذ من كل أذى حمى، وحسب لكل هزيمة من المعارك التي هزم فيها المسلمون حساباً، ولما أسف على كفر من كفر، وما حزن على مسارعة من يسارع إلى الكفر، أو على قول من يقولون له لست مرسلاً. . أو من يطلبون منه مطالب الإعجاز والإعنات، لأن من يعلم ما سيحدث له لا يبالي به إذا حدث، لأن نفسه قد استقرت على تلقيه استقباله. .

ولكن النبي - كما يذكر القرآن في عدة مواضع - كان بأسف وكان يحاول أن يبخع فسه، وكان يضيق صدره، بما يفاجأ به من أحداث.

وبعد فما كان همي أن اقرر ما قررت من عدم علم النبي بالغيب مطلقاً، في ردي من زعم هذا العلم. فذلك واضح في القرآن والسنة، ولكن همي أن افرق بين علم النبي ببعض الغيوب، وبين قراءة الأفكار وإحضار الأرواح وغيرهما من تجارب العصر الحديث، التي لم تصل بعد إلى درجة اليقين، أو التي لا تعد علما بالغيب - بالمعنى الصحيح - وإنما تعتبر من قبيل التفهم والتفرس واشتداد قوتهما عند بعض الأذكياء من الناس.

وهمي كذلك ألا يتخذ بعض المحترفين ما زعمه الكاتب حجة لهم فيما يحترفون من قراءة أفكار، وإحضار أرواح. . .

وشتان بين معجزات الأنبياء، وترهات الأدعياء.

مكة المكرمة

احمد محمد جمال