مجلة الرسالة/العدد 1012/شلر
مجلة الرسالة/العدد 1012/شلر
للكاتب الكبير توماس كارليل
ترجمة الأستاذ يوسف عبد المسيح ثروت
اعتبر المزاج في الشعر أول دليل من دلائل عذوبته ولطفه وخفته. والذي يعوزه هذا، ولو كان يمتلك جميع المواهب الاخرى، يمتلك نصف ذهن لأن نظره لا يفارق الأشياء العلوية ليرى الأشياء الدنيوية المحيطة له. وينفرد شيلر من بين جميع الشعراء العباقرة بمثل هذا القصور. لأنك لن تجد في كل كتاباته دليلاً واحداً على هذه الروح ولا حتى محاولة في هذا الاتجاه. لأن طبيعته نفسها خالية من ذلك. وكانت مشاعره جدية لدرجة لا تسمح لنفسها باتخاذ أي أسلوب في أي نوع من المرح أو المزاح. وهكذا لا يمكن الكشف على أي نوع من الهزل أو الكاريكاتور أو السخرية. هذا الأشياء التي هي جوهر المزاح - في أي شيء كتبه شيلر. فمؤلفاته مفعمة بالجد المكدود ولذا يعتبر أرصن كاتب. ولكننا مع ذلك نجد في بعض بحوثه النقدية وخصوصاً كتابه (الرسائل الجمالية) ما يدعي (بالنازع الرياضي) وهو يعتبر أعلى هدف في ثقافة الإنسان. وهذا يدل دلالة بينة على أنه عرف معنى الهزل وأهميته بالنسبة إلى فكره، ولو أن ذلك كان غريباً عنه وبعيداً منه. . . ومع ذلك فهو لم يدرك هذه الذروة التي رآها بكل هذا الوضوح والجلاء. فالروح الرياضية ظلت معه مجرد نظرية إلى الأخير. وباستثناء كتابه (ولنشتاين لاغر) - الذي يظهر فيه الهزل باهتاً ضحلاً - فإن محاولاته في هذا الخصوص - على قلتها - كانت ثقيلة جامدة. وميزاته في كل شيء كتبه لا تعدو الشدة الصارمة والغيرة الحماسية الجدية، والفخامة البعيدة عن الرشاقة، بينما نرى الخفة والمرح الرياضية معدومة فيه تماماً. وربما يرجع ذلك إلى إخلاصه واستقامته في استخدام فطنته، وانصبابه على تبيين العلائق العميقة بي الأشياء بدلا من ملاحظة تصادماته الوقتية. زد على ذلك أنه كان يقصد (الإثبات) لا (النفي) - أي أنه كان يعتبر ما هو موجود أنه احسن ما هو موجود - وفي النفي وحده يظهر عامل الفطنة الهازلة، لقد وضعنا هذه الملاحظات للإشارة إلى حدود عظمة شلر والفرع الذي اختص به. وهذا لا يعني نكران حقيقة هذه العظمة. أما شعوره بالحقيقة تأملاً وعملاً وإدراكه البهيج العميق للطبيعة والانسجام الحي الذي بواسطته يتمكن من تصوير ما هو جليل وعظيم في الطبيعة، فأمور يعرفها كل من قرأ كتبه، وعليه فليس من حاجة لتذكيرهم بها. وهو يعد في طليعة الشعراء الذين كتبوا في البطولات التراجيدية الشجية، إذا لم يكن أعظمهم إطلاقاً. وهناك أما دارسي شلر المثابرين جهاد شاق قبل التعرف على آرائه، لأن الكنوز الخفية من الفكر الشعور لم تزل مغطاة بغطاء النسيان. وهناك غمة في بعض كتبه الأخيرة فيها لحن العوالم العليا مجسداً في الفن. وعليه فليست النواقص الطبيعية والعرضية التي عرضنا لها في عبقريته، بمانعة من اعتباره من أعاظم الشعراء، وهذا ليس غريباً في شيء لأن كثيراً من الشعراء العظام كانت لديهم هذه الهنات. ولنضرب لذلك مثلاً، ملتون، فهو يقاسمه في كثير من معايبه، لأنه كان يركن إلى الجزالة في اللفظ والفخامة في الاداء، ويتطلع إلى الأعلى والى كل شيء جدي، أما ما يخص شؤون الحياة الأرضية فتراه قاصراً على فهمها وإدراكها. وهو كذلك ليس لديه من المزاح إلا القليل. وأسلوبه خشن في الهجاء مع توكيد على السخرية والتهكم وابتعاد من المرح والروح الرياضية اللعوب. أما من الناحية الإيجابية فهناك تشابه اكبر بين هاتين الشخصيتين، ولو أن شلر عاش في ظروف اخرى، ولم يمتلك تلك القوة الروحية العنيفة ولا تلك القابلية الضخمة، ولكنه كان يشبه ملتون في شدته وتركيزه على ما هو سام في الطبيعة والفن. وقد عشق - كل على طريقته الخاصة - ذلك السناء السماوي - وعبد عبادة قلبية صادقة. ولكن طبيعة شلر يعوزها الانسجام الفني الذي امتاز به ملتون. وقد عرف ملتون بعقمه وعذوبة موسيقاه المترابطة. ومع ذلك، فعند شلر شيء من القوة النقية المتفجرة والنغمات العذبة التي تشبه في جلالها وعمقها وفخامتها نغمات ملتون الخالدة.
امتاز شلر في العالم كمؤلف دراماتيكي، وغالباً ما نشعر بأن القدر وليس الميل الطبيعي هو الذي قاده في هذا الاتجاه، لأن موهبته كانت غنائية أو بطولية اكثر مما كانت دراماتيكية. لقد عاش منطوياً على نفسه، وهذا ما جعل عمله في تصوير العالم الخارجي أمراً صعباً. لا بل إن كثيراً من شعره - كما أشرنا من قبل - هو خطابي اكثر مما هو شعري. ومع ذلك، فالنار النقية الوهاجة ظلت مستعرة في أعماق روحه، هذه النار التي لا تجد متنفساً إلا في الشعر. أما بقية سجيته فكانت أميل إلى الصرامة العادية، مما جعل تطور قابليته الشعرية أمراً في غاية الصعوبة والإجهاد. فهذا العنصر المسيطر النقي لم يكن يتطور التطور المطلوب، لأنه كان كالنهر البطيء الجريان في وسط صخور ناتئة كبيرة. لقد تكلمنا كثيرا عن حمية شلر غير المجزأة في التثقيف الذاتي وفي التقدم الذي أنجزه بالرغم من الصعوبات التي تخطاها. يتجلى لنا ذلك بكل وضوح إذا نحن قارنا بين مؤلفاته المبكرة والمتأخرة. وبهذه الواسطة سنقدم لقرائنا الذين لم يتعرفوا على شيلر فكرة واضحة عن شخصيته الشعرية، لأن الوصف وحده غير مجد في ذلك. دعنا نأخذ (اللصوص) لأنها أول إنتاجه، هذا الإنتاج الذي يدعوه شيلر (بالعملاق الذي ولد في التزاوج غير الطبيعي بين العبقرية والعبودية)؛ ولا شك في أن النار المتأججة في هذه القطعة حتى في الفقرات المنفصلة. وللمنظر الآتي معجبون حتى في ترجمتنا الإنجليزية العادية المائعة وهي المنظر الثاني في الفصل الثالث.
(اللصوص)
منظر ريف على الدانوب
اللصوص مجتمعون في المرتفع تحت الأشجار الوارفة؛ الخيل ترعى في سفح التل.
مور: لا اقدر على السير اكثر (يرمي بنفسه على الأرض). إن أطرافي تؤلمني وكأنها سحقت سحقاً. إن لساني لافح من العطش (يتسلل شفارز خلسة). ارجوا أن تجلبوا لي قليلاً من الماء من الساقية؛ ولكنكم متعبون حتى الموت.
شفارز: وكذلك الخمر موجودة في الأدنان.
مور: انظر ما أجمل موسم القطاف! إن الأشجار تتكسر تحت أثقالها التي تنوء بها. والأمل في الكروم كبير.
كرم: إن السنة سنة خير.
مور: أتظن ذلك؟ وإذن فمتاعب الإنسان في هذا الموسم ستجازى. ومع ذلك فقد تدهمنا عاصفة برد فتدمر كل شيء.
شفارز: هذا محتمل تماما. قد يدمر كل ذلك قبل الحصاد بساعتين.
مور: وهكذا أقول أنا. سيتدمر كل شيء. لماذا الإنسان. فيما يتعلمه من النملة، بينما هو يفشل فيما يجعله بالآلهة. أهذا الهدف الحق من مصيره؟ شفارز: أنا لا اعمل ذلك.
مور: لقد قلت حسناً، وأجدت عملاً، إذ انك لم تحاول أن تعرف ذلك! - أخي - لقد نظرت إلى الناس ومخاوفهم التافهة ومشاريعهم العظيمة وخططهم الإلهية ومشاغلهم الوضيعة ومسابقاتهم المدهشة لإدراك السعادة؛ فمنهم من يعد على قدميه، وفلك الحظ دائر بسرعة جنونية، ومثل هذا الذي يقرر مصير كثير منهم. كل يسعى لاهثاً للحصول على الجائزة ولكن البطاقات كلها فاشلة. إنها، يا أخي، مأساة تستحق الدمع الدامي ولو أنها تستثير الضحك.
شفارز: أن غروب الشمس رائع جداً.
مور: (متوارياً عن الأنظار) وهكذا يموت البطل.
كرم: يظهر إن هذا أثارك.
مور: عندما كنت صبيا، كانت فكرتي الحبيبة أن أعود كذلك وأموت كذلك (بألم دفين) لقد كانت فكرة صبى.
كرم: آمل أن يكون ذلك حقا!
مور (ينزل قبعته على وجهه) يوم كنا ولا تسل كيف كان دعوني. وحيدا، أيها الرفاق.
شفارز: مور! مور! ماذا؟ يا للشيطان! كيف تغير لونه.
كرم: ها! ماذا يؤلمه؟ أهو مريض؟
مور: مرت أيام لم اكن أستطيع أن أنام فيها إذا أنا نسيت صلاة المساء. . .
كرم: هل أنت مجنون؟ هل تترك مثل هذه التخيلات والوساوس لتهذيك من جديد!؟
مور: (يضع رأسه على صدر كرم) أخي! أخي!
كرم: تعال! لا تكن طفلا، أستعطفك بالله. . .
مور: آه لو كنت طفلاً! آه لو كنت وحيداً!
كرم: بوه! بوه!
شفارز: مرحى. تطلع إلى المنظر البديع والمساء الجميل.
مور: نعم أيها الأصدقاء، إن هذا العالم بديع حقاً.
شفارز: نعم، هذا حق.
مور: إن هذه الأرض رائعة.
كرم: حقا، حقا، وهو كذلك.
مور: (مستلقياً على ظهره) ولكني بشع الخلقة في هذا العالم الجميل وغريب الشكل في هذه الأرض الرائعة.
كرم: دعنا من ذلك.
مور: سذاجتي! سذاجتي! انظر، إلى الأشياء كيف تضحي تحت أشعة الربيع الهادئة: لم يجب علي أن أتنشق عذاب الجحيم من مسارب مسرات الحياة؟ والناس كلهم مسرورين تربطهم رابطة الإسلام؛ والعالم عائلة واحدة ترعاها عين الأب الحدب في الأعالي، ولكنه ليس أبي! وأنا وحدي طريد شريد، وبعيد عن مجتمع الاخيار، ليس لي ولد يلغ باسمي، وليس لي أمل في نظرة واهنة. ممن احب، ولا رجاء في عناق صديق حميم. أنا محاط بالقتلة، والأفاعي تفح حولي، أنا مندفع إلى خليج الفناء على تيار الإثم المتدفق
شفارز: (إلى الآخرين) ما هذا؟ لم أره هكذا قبلا أبداً.
مور: (بحزن مثير) آه، لو كان في إمكاني الرجوع إلى بطن أمي! - آه، لو ولدت متسولاً! كلا! أيتها السماء أنا لا اجرؤ أن اصلي كي أكون واحدا من العمال حتى اعمل طول نهاري.
اعمل حتى يتفطر صدغي دماً، لأشتري لنفسي راحة نوم ظهيرة واحدة. وعزاء دمعة واحدة.
كرم: (إلى الآخرين) صبراً لحظة واحدة، لأن النوبة عابرة.
مور: لقد فات الزمان الذي كنت أتمكن من البكاء فيه.
آه على أيام السلام، يل قلعة والدي، أيتها الوديان الخضراء! واها على مناظر طفولتي! ألا تعودين إلى مرة أخرى بتأوهاتك المسكرة العاطرة لتهدئ روع قلبي المستعر. اندبي معي أيتها الطبيعة. إن هذه الأيام لن تعود مطلقاً لتطفئ النار المشتعلة في صدري. إنها ذهبت! ذهبت! ولن ترجع.
(أو خذ مثلاً مناجاة مور في موضوع الانتحار، في غابة في منتصف الليل بين اللصوص الراقدين).
(يترك القيثارة جانبا، ويسير صعودا ونزولا في تفكير عميق).
للكلام صلة
يوسف عبد المسيح ثروت