انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 1004/أقلام الثورة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 1004/أقلام الثورة

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 09 - 1952



عمر عودة الخطيب

مهداه إلى صاحب العلم الثائر الأستاذ سيد قطب

ضاقت الكنانة ذرعاً برعايا الشيطان، الذين تربعوا على عروش الظلم والطغيان، وعاثوا في الأرض الفساد، وأذلوا رقاب الناس، واحتكروا أقوات الشعب، وكمموا الأفواه الثائرة، وحطموا الأقلام الطاهرة، فأرسلتها صرخة مدوية قوية زلزلت الأرض تحت أقدام الحاكمين، وقوضت دولة الفساد، وأفزعت هذه الحفنة من العبيد الجلادين، فطرد ملك مستبد، لينعم الناس بالحرية، وألغي البوليس السياسي ليتحرر الشعب من الخوف، وستوزع الأرض على هذه المواكب التعسة الكادحة لتشبع البطون الخاوية وتكتسي الأجسام العارية، وكانت - والحق - ثورة تليق بمجد مصر وشعب مصر

وإذا كان لا بد للثورة من عقول حازمة، وقلوب مؤمنة، وعزائم قوية، لتطهر الحكم من الفساد، وتنقذ الشعب من الشقاء، وتحرر البلاد من الأعداء، فهي أشد ما تكون حاجة إلى أقلام ثائرة، مدادها الإخلاص، ورائدها الحق، لتطهر النفوس من الضعف والخنوع، وتحرر العقول من الغفلة الركود، وتأخذ بيد هذا الشعب إلى ذروة عالية هو بها جدير

تريد الثورة أن يكون القلم جندياً شريفاً، يوقظ الأفكار الهاجعة، ويحرر القلوب الخانعة، ويخط رسالة المجد، ويكتب سطور القوة، ويلهب بكلماته حماس الشعب لكل إصلاح، ويقر بصيحاته الآذان الصم، ويفتح القلوب الغلف، ويبعث بصرخات الضمير الميت، ويبني بمداده حصن الحرية المكين، وصرح الخلق المتين

تريد الثورة أن تسكت هذه الأقلام الفاجرة، التي تغذت من الفساد حتى ترهلت، ورضعت من الإثم حتى ارتوت ومجدت الطغاة والمفسدين، وحاربت الهداة والمصلحين، وانغمست في التحلل والضلال، وماتت عندها الكرامة والرجولة؛ وفقدت معاني الشرف، وخانت أمانة الله والوطن. . . نعم تريد الثورة أن تسكت (أقلام الترفيه الماجن)، التي تتملق الغريزة الجنسية وتتلف أعصاب الشباب بسم الإباحة. . . هذه الأقلام التي كانت تجول في معارك الرقص مع حبائل الشيطان، والشعب يخوض معارك النار مع الأعداء؛ وكانت تنفق على غانيات باريس وفي نوادي لندن ونيويورك ألوف الجنيهات، والشعب يجود من ما لأبط التحرير في فلسطين والقنال بثمن اللقيمات. . . ثم تعود هذه الأقلام الرفيعة إلى مصر من رحلاتها الفاجرة، لتقص على هذا الشعب المسكين جمال الباريسيات وعناد الألمانيات وطيش الأمريكيات، وتقول له - بوقاحة سافرة - هات ثمن هذه الزاد الفكري القيم، الذي أتعبنا به أنفسنا، وأرهقنا بسببه أعصابنا وتكلفنا في سبيل جلبه، إليك وعثاء الطريق، وتكبد نفقات السفر!!. . ويصدق الشعب المسكين هذه الأكذوبة ويعطيهم بغير حساب، ويقبل على ما يكتبون، فلا يجد به سوى دعوات الفجور بأسلوب تفوح منه ورائح الإثم

تريد الثورة أن تسكت الأقلام المأجورة التي اشتراها الدولار وغذاها الاستعمار، وأمدها فلم المخابرات لتسبح بحمد الدخلاء وتروج لسياسة الأغراب، وتنشر على الناس أساطير الديمقراطية وأكاذيب الأهداف الغربية. . . هذه الأقلام التي ولدت في مصر وشربت من نيلها الصافي وعاشت من خيرها العميم. . استهواها السين وبرح بها هوى التايمز، فأنكرت قوميتها وجحدت شرقيتها، وكفرت بالأمة وسخرت من الشعب، وألقت في النيل بأحجار المقت والكفران. . فهي تتحدث - بإكبار - عن الإنجليز في بلادهم، وتنسى الحديث عن الإنجليز في مصر والشرق، وهي تعشق فرنسا بلد النور والحرية والإشعاع، وتعمى عما تعمله فرنسا من وحشية واستبداد في بلاد المغربي العربي. ثم تبلغ بها الوقاحة منتهاها حين تزعم أنها تدافع عن حق الشعوب المضطهدة، بمثل هذه الأساليب الرخوة المتهافتة، التي لا تصدر عن ضمير حر وقلب متأثر. . . والعجيب في هذه الأقلام أنها إذا ما رأت طلائع الثورة، ولمحت أشعة الفجر، وعرفت أنها ستفضح وينكشف عورها، خرجت من الظلام، وطامنت من كبريائها؛ ونزلت من أبراجها، وأدلت بدلوها، وبرزت أمام الناس أقلاما حرة نظيفة، بسطور من النفاق تزخرفها، تضحك بها على الشعب الذي خذلته في أيام المحنة، وسخرت منه حين كان يطال بالحربة والاستقلال

تريد الثورة أن تختفي من السوق بضاعة الأدب الأسود، أدب الميوعة والمجون، والنفاق والتهريج، ليحل مكانه أدب قوي رصين يستمد أصوله من الماضي التليد والحاضر المجيد، ويبني بحكمة وقوة حضارة مصر والشرق، ويؤيد بحرارة وإيمان آمال العروبة والإسلام. . . وأصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أن الشرق العربي والعالم الإسلامي يعاني أزمة خانقة، يثيرها أعداؤنا في كتلتي الشرق والغرب؛ ويرون فينا لقمة سائغة تبتلعها أفواه المدافع، وهم لذلك يعدون لنا - ولنا وحدنا - وسائل التدمير والخراب، وأسلحة الحديد والنار. . ثم يضحكون لنا، ويزينون للمخدوعين منا مبادئهم، ويظهرون بأثواب الحملان الوديعة، التي تريد بنا الخير وتتمنى لنا السعادة والطمأنينة. . فمن واجب الأقلام هنا أن تنزل إلى الميدان، لتحذر الشعوب الغافلة من مكائد الاستعمار وأذنابه، وتنقذ المخدوعين من أنياب الذئب وأظفاره

ثم إن أصحاب الأقلام يعرفون قبل غيرهم أنه يجثم على صدورنا كابوس ثقيل من الفقر والجهل والمرض. . . كابوس صنعه هؤلاء المترفون الذين يعيشون في قصورهم الكبيرة، وينفقون الملايين الكثيرة، ويأكلون فلا يشبعون، ويشربون فلا يرتوون، ويرون بأعينهم الكافرة صوراً شاحبة حزينة لأناس معروقة العظام، بادية السقام، تهيم في الأزقة المظلمة الحقيرة، لتربض عند أكوام من (القمامة) تبحث فيها عن الفتاة الذي ركله السادة المبطلون يرون هذا من خلف أسوارهم المنيعة فلا يرحمون، ويسمعون الأنات الشاكية تنبعث من صدور الجائعين فلا يشفقون، إن أصحاب الأقلام يعرفون كل هذا فعليهم أن يدركوا بأقلامهم الثائرة أسوار الجلادين، ويبعثوا بأضوائهم الباهرة إلى أكواخ البائسين، لتحقق العدالة الاجتماعية، وتعم الأخوة الإنسانية، ويعيش الناس في أمن وسعادة ووئام

هذا ما تريده الثورة العاقلة التي خلعت ملكاً ظالماً، وأنقذت شعباً مظلوماً، وطهرت حكما فاسداً، وأيقظت شعوراً راكداً، وبدأت تبني للأمة مجتمعاً فاضلاً، وتهيئ لها مستقبلاً رغداً، وهي تهيب بالأقلام أن تسير مع القافلة نحو القوة والعزة والمجد. فهل تستجيب

عمر عودة الخطيب