مجلة الرسالة/العدد 1001/سيادة الشعب
مجلة الرسالة/العدد 1001/سيادة الشعب
للأستاذ أبو الفتوح عطيفة
أقسمنا على أن نحرر أمتنا من الطغيان ومن المذلة والعار -
أو نموت دون ذلك
محمد نجيب
أفاق الناس كأنما كانوا في حلم مروع، وأنزاح عنهم كابوس ثقيل جثم على صدورهم ليلة كان طولها ستة عشر عاما!! سبحانك ربي تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير.
بلغ السيل الزبى وجاوز الطغيان مداه وبلغت القلوب الحناجر وراح الناي يتساءلون: أما لهذا الليل من آخر؟؟
وحار الناس في امرهم، وأشفقوا على مصير وطنهم: فحيثما نظروا وجدوا ظلما صارخا وفسادا قائما وفوضى لا أول لها ينظر ولا آخر لها ينتظر. أخلاق تنهار ونجتمع يضمحل وحكم فاسد وفساد يستشري. قتل للأبرياء الأحرار وسجن وتشريد ونفي وتعذيب. . . رشوة ومحسوبية، سرقة ونهب، ظلم وغدر: تلك هي قواعد الحكم.
وأشهد أني قرأت الكثير من كتب التاريخ ولكن ما شاهدته مصر لم تقرأ عيني له نظيرا!!
ويئس كثيرون ولكني كنت دائما أقول (إذا غفلت عين لإنسان فلن تتخلى عنا عناية الرحمن)
وأخيرا جاء اليوم المرتقب وأشرق العهد الجديد السعيد بمشيئة الله. وكان ذلك يوم 23 يوليو 1952.
أستيقظ الناس من نومهم واستمعوا إلى المذياع. أنه يتلو نداء جديدا. الله أكبر، هذا يوم كان الشعب ينتظره بفارغ الصبر.
لقد كان الجيش ينادي بزوال عهد الفساد والطغيان وبقيام الحكم الصالح في ظل الدستور.
وأشفق المصريون جميعا على رجال الجيش البواسل وانطلقوا يدعون الله أن يكلأهم بعنايته وأن يوفقهم في حركتهم.
وأشهد أن الناس قد أخذوا جميعا بحركة الجيش. لقد كان الملك السابق يعتمد على الجيش في إذلال الشعب وكان الشعب على أتم استعداد لمقاومة الطغيان لو ضمن حياة الجيش.
ونسى الطاغية أن الجيش من الشعب وللشعب وأن الولاء إذا قام حينا على أمل الإصلاح فلن يقوم دواما على الفساد.
وامتدت حركة الفساد إلى الجيش ونكل بالأحرار من رجاله وقتل بعضهم جهارا في شوارع العاصمة.
وكان ما لا بد أن يكون، قام الجيش في 23 يوليو يضع حدا للظلم، وللطغيان، والفساد.
وكانت الحوادث أسرع مما تصروا الناس. وجاء يوم 26 يوليو 1952 وجلست أستمع إلى المذياع وإذا به يذيع (انتظروا بيانا هاما في الساعة السادسة) وكرر المذيع ذلك النداء مرارا، وأشهد أن هذا التكرار قد أشاع القلق في نفسي ورحت أتساءل: ترى ماذا يكون هذا النبأ؟ وأخذت أحسب الثواني والدقائق حتى إذا كانت الساعة السادسة انطلق المذيع يتلو بيان اللواء أركان حرب محمد نجيب:
بني وطني
إتماما للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم قمت في الساعة التاسعة من صباح اليوم بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء وسلمته عريضة موجهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول تحمل مطلبين على لسان الشعب: الأول أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو ولي عهده قبل ظهر اليوم. والثاني أن يغادر جلالته البلاد قبل الساعة السادسة مساء.
قد تفضل جلالته فوافق على المطلبين وتم التنفيذ في المواعيد المحددة دون حدوث ما يعكر الصفو. .
استمعت إلى البيان وكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي ولم تصدق أذناي ما سمعت فانطلقت إلى الشارع أشارك الشعب سروره وابتهاجه ورحت أطوف بالشوارع والطرقات فوجدت الناس من فرط السرور لا يعرفون كيف يستقرون على حال.
لقد كان زوال الظلم والطاغية حلما ولكنه أصبح الآن حقيقة واقعة، وهكذا أدركت مصر عناية الرحمن وعاد لشعبها سلطانه وسيادته.
الثورة المجيدة
كنت أقرأ في كتب التاريخ قصصا خالدة كتبتها جيوش بعض الأمم حين وقفت تدافع عن حرياتها الداخلية وكنت أتساءل دائما: لم لا يقف جيشنا يدافع عن حريتنا الداخلية كما يدافع عن أرضنا ضد العدو الأجنبي وكما فعلت جيوش تلك الأمم؟؟ وجاء الرد يوم 23 يوليو المبارك.
وإني هنا أصف للقراء تلك المواقف. في 1688 كان يحكم إنجلترا الملك جيمس الثاني وكان كاثوليكيا متعصبا يؤمن بالحق الملكي المقدس ميالا إلى التسامح مع الكاثوليك ولذلك كرهه الشعب والبرلمان. وكان الشعب يمني نفسه بأنه عند انقضاء أجل جيمس الثاني ستعتلي العرش ابنته ماري وكانت بروتستانتية ولكن في 1688 ولد لجيمس ولد من زوجته الكاثوليكية وبذلك صار وارثا للعرش. فلم يطق الشعب صبرا وقار ضد جيمس وأستدعى ماري وزوجها وليم أورنج من هولندا للحضور إلى إنجلترا لتوالي العرش فقدما.
أرسل جيمس جيشا ليحول بينهما وبين النزول في أرض إنجلترا ولكن الجيش رفض أن يحارب الشعب وانظم إلى صفوفه في الترحيب بماري ووليم وأسقط في يد جيمس واضطر أن يغادر إنجلترا إلى فرنسا. وتعرف هذه الثورة بثورة 1688 المجيدة.
بعد فرار جيمس اجتمع البرلمان وقرر أن عرش إنجلترا خال ودعا ماري ووليم لاعتلائه، وكان هذا معناه أن الملك مولى من قبل الشعب وبذلك سقطت نظرية التفويض الإلهي واستقر الحكم الدستوري الملكي في إنجلترا.
وفي فرنسا قامت ثورة 1830 ضد ملك طاغية هو شارل العاشر. كان هذا الملك رجعيا ظالما لا يؤمن بحرية الشعب ومن ثم عمد إلى مقاومة الحياة النيابية وتعسف ضد أعضاء البرلمان ولكنهم قاوموه. فحل المجلس أكثر من مرة وعدل قوانين الانتخابات وقيد حرية الصحافة وضاق الشعب ذرعا به فقام بالثورة ضده في 26 يوليو 1830
وأمر الملك الجيش بمحاربة الثوار، ولكن الجنود رفضوا مقاتلة أبناء وطنهم الذين قاموا يدافعون عن حرياتهم وانظموا إليهم.
وأسقط في يد الملك وسقط عن عرشه وغادر أرض فرنسا إلى غير رجعه.
وتولى العرش بعده لويس فيليب وكان مفروضا أن تستقر الديمقراطية في عهده ولكن هذا الملك فشل في تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا فزيف الانتخابات واشترى ذمم النواب ووقف ضد رغبات الشعب فكرهه الشعب.
وزادت كراهية الشعب له بسبب ضعف سياسته الخارجية، ذلك أن فرنسا كانت تحب أن ترفع رأسها في أوربا وأن تكون لها الكلمة العليا في شؤون القارة كما كان الحال في عهد نابليون.
ولكن لويس فيليب كان ضعيفا متخاذلا ومن ثم عمل دائما على الخضوع لرغبات إنجلترا وكانت إذ ذاك أكبر أعداء فرنسا.
من ذلك أن فرنسا رفضت أن تعطي إنجلترا حق تفتيش سفنها بحثا عن العبيد المهربين، وكان ذلك في عهد لويس الثامن عشر وشارل العاشر، ولكن لويس فيليب وافق على ذلك، وكان في هذا إذلال الفرنسيين وجرح لشعورهم. من ذلك أيضاً أن فرنسا وقفت بجانب محمد علي أثناء الأزمة المصرية 1840 واعتقد محمد علي أن فرنسا ستقف بجواره في حالة قيام الحرب بينه وبين إنجلترا. ولكن لما أشتد الخلاف وأصبحت الحرب وشيكة الوقوع تخلى لويس فيليب عن حليفه محمد علي وتركه يتلقى وحده ضربات إنجلترا وحلفائها.
وأضعفت هذه السياسة المتخاذلة مركز لويس فيليب. وهكذا عجز لويس فيليب عن تحقيق الديمقراطية في داخل فرنسا وعن إحراز المجد لها في الخارج.
وأخيراً ثار الشعب ضده في فبراير 1848 وأمر الملك الجيش بمقاومة الثوار ولكن الجند رفضوا مقاتلة إخوانهم أنصار الحرية واضطر الملك أن ينزل عن عرشه وان يغادر فرنسا إلى غير رجعة أيضا.
تلك هي مواقف خالدة لبعض الجيوش الوطنية التي قامت لحماية حرية شعوبها.
ولكن حركة الجيش المصري الأخيرة كانت أروع الحركات التي سجلها التاريخ المعاصر.
مصدر السلطات
تذهب الدساتير حديثة جميعا إلى أن الشعب مصدر السلطات وهذه نظرية مقررة، ولكن أهم من تقريرها أن تكون نافذة وان يحرص الشعب فعلا على حقوقه فلا يتركها للمضللين والمفسدين.
وهذه النظرية ليست حديثة كما يعتقد بل إنها قديمة، وهي كذلك ليست نظرية مقررة في الغرب فقط وإنما هي نظرية مقررة في الشرق منذ جاء الإسلام.
واستمع إلى قول أبي بكر حين تولى الخلافة (أيها الناس: قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم).
وهكذا قامت الحكومة الإسلامية الأولى على أساس اختيار الشعب وحددت سلطة ولي الأمر، فإذا عصا الله وجب عزله، وكان خوف الخلفاء من الله أكبر عاصم لهم من الزلل.
وفق الله قادة العصر الجديد إلى ما فيه خير الشعب وسعادته، ورعى الله كنانته وحفظ لشعبها سيادته وبارك لها في جيشها الباسل.
أبو الفتوح عطيفه