مجلة الرسالة/العدد 1001/زعماء الحركة القومية
مجلة الرسالة/العدد 1001/زعماء الحركة القومية
السيد محمد كريم
للأستاذ عبد الباسط محمد حسن
- 1 -
يعتبر السيد محمد كريم أول زعيم من زعماء الحركة القومية. ظهر في مصر قبل أن يظهر فيها سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد عرابي. . فكانت حركته بذلك أول صفحة من صفحات الجهاد القومي في تاريخ مصر الحديث.
ولقد كان السيد محمد كريم شخصية فذة، وزعيما حقا من زعماء الوطنية المصرية. . فاستطاع بمفرده ان يبث الشعور القومي في نفوس أهالي الإسكندرية. . وجعلهم يواجهون جيوش الثورة الفرنسية في سنة 1798م.
تلك الجيوش التي كانت لا تزال في عنفوان قوتها ومجدها. . والتي كان يقودها نابليون بونابرت. . أعظم شخصية حربية ظهرت في أوربا خلال القرن الثامن عشر!
وبعد أن احتل الفرنسيون أرض مصر، لم يتوقف السيد محمد كريم عن الكفاح لحظة واحدة، ولم يخضع لمشيئة نابليون، ولم يطأطأ رأسه كما فعل كثيرون غيره. . بل أخذ يثيرون روح الكراهية في نفوس الأهالي ضد الحاكم الجديد. . الذي لم يرغب من نزوله بمصر إلا أن يستبدل حكما بحكم. . واحتلال باحتلال. . وظل السيد يوالي نشاطه واتصالاته بالبلاد التي تمر بها الجيوش الفرنسية. . في طريقها إلى مصر. . لتمنع الماء عن رجال الحملة. . ولتقابلهم بكل ما استطاعت من أنواع المقاومة.
ولما ضاقت القيادة الفرنسية بجهود السيد محمد كريم. . اتهمته بخيانته للجمهورية الفرنسية، وإثارته العصيان في نفوس الأهالي. . وحكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص. . وبذلك أصبح بجانب زعامته للشعب، أول شهيد من شهداء الحرية. . في عهد الحملة الفرنسية.
نشأ السيد محمد كريم في مدينة الإسكندرية نشأة عادية. . كغيره من شبان الثغر. . ولم تكن للإسكندرية قيمة كبيرة في ذلك الحين. . بعد أن تحول عنها طريق التجارة القديم، ففقدت بذلك مركزها التجاري العظيم.
وكان جمرك الإسكندرية في يد مراد بك. . يولي عليه من يشاء. . ويعزل من يشاء. . نظير إيراد معلوم.
فلما كبر السيد محمد كريم، ونما عوده، اشتغل قبانيا وكان مشهورا بالصدق والأمانة، والنشاط وخفة الحركة. . ولذلك سرعان ما عرف اسمه. . وذاع صيته. . حتى سمع به مراد بك. . حاكم مصر. . . وزعيم طائفة من أكبر طوائف المماليك. . فعينه مديراً للجمارك. . ثم حاكما عاما لمدينة الإسكندرية. . وقد استطاع السيد محمد كريم - بعد أن تسلم مهام منصبه الجديد - أن يحكم البلاد بحكمة وحزم. . وأن يعامل الأهالي معاملة طيبة. . ولذلك احترمه الناس وأحبوه.
وفي شهر يونيه سنة 1798م. . وصلت الأخبار إلى أهالي الإسكندرية. . بأن حملة أوربية تعتزم احتلال مصر.
وكان المصريون في ذلك الوقت. . لا يزالون يحملون في أنفسهم تلك العقيدة المتوارثة عن عظمة السلطان. . وقوة المسلمين.
ولذلك عقدوا العزم على محاربة الجيش الأجنبي، والوقوف في وجهه. . مهما بلغت قوته.
ومن سوء الحظ أن وصل الأسطول الإنجليزي الذي كان يتعقب الفرنسيين - إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الحملة بأيام. . وحاول نلسن قائد الأسطول البقاء في مياه الإسكندرية في انتظار الحملة الفرنسية. . وعرض على السيد محمد كريم أن يسمح بإمدادهم بالماء والمؤونة اللازمة لمقامهم. . لكن الحاكم رفض طلبه. قال الأستاذ عبد الرحمن الرافعي:
(ولعل السبب في رفضه أنه أساء الظن في مقاصد الأميرال نلسن لأن الإشاعات التي كان الناس يخوضون فيها ذلك الحين، تنبئ أن (الإفرنج) يعتزمون احتلال مصر. . وكلمة (إفرنج) كانت تتناول الفرنسيين والأوربيين على السواء. . فخشي أن يكون طلب الأميرال نلسن خدعة لها صلة بالحملة المقبلة).
ولم يكتف السيد محمد كريم بالرفض، وإنما أعطاهم مهلة قصيرة لكي يبرحوا المياه المصرية، وإلا أطلق عليهم النيران.
وعبثا حاول الإنجليز أن يفهموه خطر الحملة القادمة. . فقد وجدوا منه إصراراً وعناداً شديدين.
ولم ير (نلسن) أن يضيع وقته في مناقشات لا فائدة منها. ولذلك قرر الانسحاب عن الشواطئ المصرية.
يقول الجبرتي:
(وفي يوم الخميس الثامن شهر المحرم عام 1213هـ، الموافق 1798م. . ظهرت في ميناء الإسكندرية عشرة مراكب حربية. . وأرست بعيدا بحيث يراها أهل الثغر. . ولحق بها خمسة عشر مركبا أخرى. . وأرسلوا بعض الجنود إلى الشط في قارب. . فاستقبلهم كبار البلد، وعلى رأسهم السيد محمد كريم. . وسألوهم عن شأنهم. . فقالوا إنهم من الأسطول الإنجليزي حضروا للتفتيش عن مراكب الفرنسيين. . فقد علموا أنهم خرجوا في جيش كبير إلى جهة لا يعلمونها. . فلا تقدرون على دفعهم. . فلم يقتنع السيد محمد كريم والذين معه بصحة ما يقولون، وقابلوهم بجفاء فقال لهم الإنجليز:
- سنقف بأسطولنا في عرض البحر لنحافظ على ثغركم ولا نطالبكم إلا بالماء والزاد بالثمن الذي ترضونه. . فرفضوا طلبهم وقالوا:
(هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا غيرهم علينا سبيل فاذهبوا لشأنكم)
ولم يكد السيد محمد كريم يتخلص من الحملة الإنجليزية حتى أخذ يفكر في الخطر الجديد الذي بدأ يلوح في الأفق. . فالحملة الفرنسية التي وصلته أخبارها قد تأكدت لديه قدومها، بعد أن سمع حديث الأميرال نلسن. وعلم بنشاطه، وأصبح من الواجب عليه أن يعد للأمر عدته، وإلا سقطت الإسكندرية في أيدي المحتلين الأجانب. . وكان عليه أن يسرع بالعمل قبل أن يضيع الوقت، وتفوت الفرصة.
فبادر بالاتصال بمراد بك، وبالعرب المجاورين للثغر. . طالبا منهم المعونة. وأمر بتحصين أسوار المدينة. . كما طلب من الأهالي حمل السلاح. . استعدادا للكفاح القريب.
وباتت الإسكندرية كلها تترقب قدوم الحملة الفرنسية. حتى رأت وجه البحر وقد تغطى بالمراكب. . فعلمت حينئذ أن وقت الجهاد قد حان. . وان ساعة الكفاح آتية لا ريب فيها.
للكلام بقية عبد الباسط محمد حسن