مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/الأميرة الصغيرة
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 58/الأميرة الصغيرة
بقلم الكاتب الروائي ولاند برتوي
عربها عباس حافظ
قال ملك تيرانوفا - مملكة الأرض الجديدة في جنوب أمريكا - لفتاه وولي عهده: أي بني وددت لو أنك تركت فرق فروع شعرك وإرسالها تتدلى على أذنيك. فإن هذا لا يجمل بك وليست هذه زينة الأمراء وولاة العهد.
فرد عليه الفتى بهزة من كنفيه وراح يقول: أما عن الاحتفاظ بزينة الإمارة وتجمل الأمراء فذلك أمر لا رغبة لي فيه وشأن ولا أحبه.
فسقطت لفافة التبغ من يد الملك عجباً ودهشة ومضي يقول: يحزنني أن أرى أولياء العهد وفتية الإمارة وأبناء الملوك اليوم قد طلعوا مودة جديدة وهب التلون بلون الاشتراكية والظهور في أردية الاشتراكيين وأصبحوا يميلون إلى الفرار من الواجبات التي فرضتها عليهم منابتهم ووراثتهم وأعراقهم والبيوت التي منها نشأوا.
فاحتد الفتى ايفولت وقال: ان واجب الأمير. . . . .
فقاطعه الملك قائلاً: أن يكون بمظهر الإمارة كما أن واجب حمال الفحم أن يحمل فحماً.
فأجاب الفتى خائفاً: أني لأود أن أكون حمال فحم من أكون أميراً وولي عهد الملك.
فبتسم الملك وقال: اني لأذكر أنك حاولت أن تكون يوماً فحاماً عندما كنت تزور مقاطعة المناجم وقد نشرت تلك الحادثة في الصحف السيارة على أنني ووالدتك الملكة لم تكن تظن أنك لم تظهر أي براعة يومذاك في حمل الفحم كما برع فيه حمالوه.
فتوردت وجنة الفتى خجلاً وقال: إنني أريد أن أقول أن الملوك والأمراء ليسوا إلا لعباً أشبه بلعب ألف صنف وليسوا أناساً من لحم ودم لأن حركاتهم وسكناتهم وغداوتهم وروحاتهم بالأمر والنظام. فهم لا يخطون إلا بقيد ولا يسيرون إلا والحراس حولهم حافون والعسكر حاشدون مزدحمون والكواكب قريبون محتاطون بل أنهم لا يستطيعون كذلك أن يعيشوا في المنازل التي يحبون أن يختاروا الدور التي يسكنون والصحب الذي يعاشرون. فلم ذلك؟ لم ذلك.
قال الملك بكل رفق وأدب: انني منتظر منك أن تخبرني عن السبب.؟ فإذا أتممت الشرخ أنبأتك بالسر وبسطت لك الباعث.
فأجاب الفتى اسمع إلي يا أبتا - لنتكلم بصراحة تامة ولندع طريقة المعاجم في البحث ونترك جانباً شأن العلماء في المحاجة والجدل. إنني متألم متبر مملول. هذا كل شيء.
فأجاب الملك - إذا كنت يا بني تتألم من اسلوبي الفلسفي في الحديث. وطرقيتي المدرسية في المناقشة فلنتحدث بلا تكليف ولنتكلم بلا تحشم شأن أهل القربى ولعلني خشِن الحديث غير مصقول الكلم. ولكني محاول جهدي أن ألين حديثاً وأنعم لهجة فما بك. نبئني ماذا يؤلمك.
قال الفتى - إنني أكره هذه الفكرة العفنة والطريقة الصدئة السقيمة في الزيجات المرتبة المقررة والمقيدة، إني أراها سيئة شريرة. غير طبيعية.
قال الملك مترفقاً في كلامه - نعم قد يلوح عليها ظاهراً أنها عقيمة صدئة_وهنا تمهل الملك وأمسك بلحيته مفكراً ثم عاد يقول - ولكنني أعلم انها ليست كذلك في حقيقتها ولبها - إنني محدثك حديثا لا أظن هذا الشعب الذي يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا مستطيعاً أن يعتقد صحته ويؤمن بحقيقته ذلك انني ما زلت حياتي كلها ولا أزال في حب شديد وأمك الملكة ولو أنني كنت رجلاً من عامة الناس لما وجدت ولا أظنني واجداً رفيقة غيرها تستطيع أن تجعل أيامي في الحياة هانئة رغيدة هذا حديث يجب أن لا يتعدى غيرنا نحن الاثنين فإنني رجل شيح ولا أحب أن أتراءى مضحكاً متخلعاً متظرفاً أمام الناس.
فأجاب ولي العهد: هذا حظ جميل، ولكن لعل غيرك من الأمراء وأهل بيت الملك غير مصيبيه. ألا أسمع إلى يا أبي. ان مبدئي في الحب. . . .
وإذ ذاك قاطعه الملك فقال: أن لا يكون مقيد بالمراتب والألقاب وأن يتنزل إلى العامة ويساوي بين الكبير والحقير.
قال الفتى - ولم لا؟
فاجاب الملك الشيخ ليس ثمت خطأ أكبر من الذهاب إلى الحب لالذة فيه إلا حيث يكون ممنوعاً أو صعب الوصول إليه فإنك لو قلت ذلك فكأنك تريد أن تقول أن الإنسان لم يصل إلى قمة جبل مونت بلانكالجبل الأبيض لأنه صعد إليها بقطار النفق - ولم يبلغها سعياً على القدم.
فقال الفتى - ولقد لمعت عيناه كأنما تخيل حلماً معسولاً ذهبياً: إنني أريد أن أعيش عيشة طليقة حرة على هواي ومبتغاي.
فأجاب الملك في رفق. أعرف ذلك. وهذا ما سيكون لك يا بني العزيز وأنت تعلم يا ايفولت أنني أحبك الحب كله. ولكنني أود لو أنك تركت فرق جدائلك بحيث تتدلى على أذنيك.
فقال ولي العهد: إنك يا ابتا رجل خير حنون. ولكنني لا أعرف. . . .
فرد عليه الملك قائلاً: كلنا لا نعرف في المبدأ ولكننا جميعاً نحن بني آدم ننهى بالمعرفة، والآن لنعد إلى أحاديث المملكة وشؤون السياسية. هل أعددت العدة لهذا المساء؟ فأطرق لفتى برأسه يأساً وتبرماً وأنشأ يقول: نعم فسأكون في المحطة في لباس الكولونيل وسأخطو في اللحظة المعينة فألثم يد الأميرة وهي تنزل من القطار.
قال الملك: بديع للغاية. ولكن لا حاجة بك إلى التحدث معها حتى حفلة المساء فأجاب الفتى. يلوح لي إذن أنه سيكون زواجاً أخرس صامتاً وسأمشي بها إلى الهيكل كما تساق الشاة إلى المذبح.
قال الملك. هذه هي آداب الأعراس الملوكية. ومع ذلك سنرى. . . . . وهنا ابتسم ومشى منصرفاً من الحجرة.
هناك في حجرة الزهر وجد الملكة.
قال الملك. ألم تعلمي يا عزيزتي الخبر - أن فتانا قد أصبح متمرداً. فنظرت إليه الملكة نظرة جزع وقالت - واها للفتى المسكين. ولكنها فتاة بارعة الجمال ولو لم تكن كذلك لما اخترته له عروساً. ولكن لا تنزعج ولا تتألم.
قال الملك: يالك من زوجة كريمة. وهنا طوق خصرها بذراعه كما لو كان مثلك أو مثلي.
وكان سلوك الأمير في المحطة بديعاً للغاية إذ خطا في اللحظة الواجبة فلثم يد الفتاة العروس ومشى بها إلى مركبة الإمارة وركب هو جواده وجعل يعدو به جانب المركبة وجعل الشعب في الطريق والجماهير الحاشدة على الأفاريز يهتفون ويلوحون بمناديلهم في الهواء. ولم يبق منهم أحد إلا وافق على أن هذه الزيجة ليست إلا زواج حب من النظرة الأولى.
فلما بلغت المركبة بالعروس القصر. تلفت الملكة العروس وأخذتها إلى مائدة أعدت لتناول الشاي لتحتسي العروس قدحاً قبل أن تخلع عنها أثوابها.
أما الأمير ايفولت فما كاد يفرغ من توصيل الأميرة حتى صعد سلم القصر وانزوى في مخدعه وطح جسمه على فراشه وجعل يتململ ويتلوى - وقد برقت في عينيه لمعة ذكرى قديمة وراء أفق بعيد وراح يقول: لماذا لم أولد فتى من عامة الناس؟ لم لم أكن من السوقة والصعاليك؟. . . . . ولبث كذلك في سريره ثم نهض فصاح بغلام من غلمة القصر فجاء الغلام فخلع عنه نعليه وقال ماذا يرتدي صاحب السمو؟
قال الأمير - الثوب المزركش
فابتسم الوصيف وقال - هذا هو الثوب الذي أعددته لسموكم من قبل
فنظر الأمير في أنحاء الحجرة فأبصر الثوب يلمع في صندوقه فقال:
أتراني أبدو جميلاً في هذا الثوب؟
قال الغلام: إنك لتبدو. . . . . ولكنه لم يستطع أن يتم قوله إذ ابتدره الأمير. إنني أريد جواباً أميناً صادقاً لا رياء فيه. . . . فتمهل الغلام ثم قال. . . . إنك في لباس تود لو أنك لم نشتمل به. . . . قال الأمير أصبت؟
- * *
فلما انتهى المدعوون من العشاء، لبث الفتى يرتقب العروس، في حجرة أعدت لخلوتهما. وإذ ذاك أقبلت والدته تتقدم الأميرة.
وهي تقول. . . لتسمرا هنا بعض السمر حتى يحين وقت الحفلة والمرقص ولمست آنذاك براحتها خد الفتى ووجنة الفتاة وفي ذلك معنى لا يدركه إلا الأمهات. وابتسمت وانطلقت تمشي إلى الحفل.
فأمسى العروسان في خلوة
نظر كل إلى صاحبه، فأطرقت هي حياء، ووضع هو يده على مكان فؤاده
وبدأ الفتى الحديث فقال. . . . إنك أيتها الأميرة جئت كغريبة لتسودي كملكة في قلوبنا وقلوب. . . . . .
فقاطعته العروس قائلة. . . أعرف ذلك. فقد قرأته في الصحف. . . إلا إذا كنت تريد أن تسترسل في مبادئك.
فأجاب الأمير شاكراً كلا لا أريد.
قالت العروس. . . . ماذا ترى في زواجنا هذا.
فأجاب الأمير يبعث الإنسان على السرور
قالت العروس كلا إنني لست مسرورة
وإذ ذاك أشرق وجه الأمير، وقال. أحقا
فأجابت. وكيف به أسر، ألسنا في القرن العشرين
ولم تكد تتم قولها حتى ارتفع صوت جرس البهو معلنا ابتداء الرقص
ولما صدحت الموسيقى وأقبل الراقصون يريدون رقصاً قال الأمير لعروسه هلمي بنا فنحن مضطرون لفتح الرقص
فوضعت يدها فوق ذراعه وانطلقا إلى قاعة الرقص
قال الأمير للعروس. مالك مترددة
فابتسمت قائلة، إن هذا أمر فوق الطاقة.
فأجاب الفتى بتنهدة طويلة. ما أفسد كل هذه الرسوم. فأومأت العروس إيماءة الإيجاب وعاد وهو يقول. لماذا نكره على الرقص. ألسنا بني آدم لحماً ودماً، ولماذا يريد القوم منا أن نهتز وندور كلعب الأطفال.
فنظرت إليه طويلاً. وقالت: إنني أشد الناس لهذا الرقص كرهاً
فأجاب الأمير: اجل تكرهينه بلا ريب ليس كل هذا إلا أكذوبة ظاهرة أيكون في الدهر ليلة ألعن من هذا العشاء والاحتفاء. ثم آخر الأمر هذا ارقص الطائش المجنون؟ يالله. ما أجمله لو أنه كان على بساط سندسي في حقل بعيد عن هذه المدينة. وأرض خضراء في قرية من قرى الريف. وسط الفلاحين والقرويات أما هذا الرقص فما معناه عمرك الله. لا شيء مطلقاً. أكذوبة وحق السماء!
أطرقت قائلة: هو ذلك. ب هو أقل من لا شيء إذا أردت الحق!
قال الأمير: هذا ما أشعر به. ثم تمهل واستطرد يقول: إنك لم تحسني هذه الخطوة. إن ضربة الرجل يجب أن تكون مماثلة والموسيقى.
فأجابت الأميرة: أخطأت لك الحق.
قال: الآن قد أجدت الخطوة. هذه هي المشية الامريكية كما يسمونها.
وهنا وقفت الموسيقى عن الصياح.
قال الأمير: الحمد لله. هيا بنا إذن إلى الحديقة.
قالت العروس: أتحب أن نذهب؟
فأجاب الفتى: أظن ذلك فنحن مكرهون بحكم الرسميات على الذهاب.
قالت الفتاة: إذن فدعنا نذهب.
قال الأمير: إننا نستطيع هناك أن نخلو إلى حديث طويل.
قالت العروس: إذن هلم بنا
فلما بلغا الحديقة وجدا عندها رجلاً وسيدة من المدعوين، فلما شهدا العروسين انحنيا انحناءة بأدب، وانطلقا مبتعدين وهنا جلست العروس في مقعد طويل وراحت تقر عينيها عليه.
وبدأت الأميرة بالحديث.
قالت: بخت سيء. كم عمرك؟
قال - اثنان وعشرون
قالت_وأنا في التاسعة عشر.
قال_ونحن مكرهان على أن يزوج بعضنا بعضاً. سواء أردنا أم لم نرد.
فنظرت إليه نظرة سريعة وقالت: إذن لا تريد أن تتزوج بي.
فأجاب - أنني أريد أن أشرح لك أمري ولكن يلوح لي أنك مدركة الغرض نعم. لا أريد.
قالت: هل تحب أحداً؟
قال: نعم. عشيقتي الحرية.
قالت: متسائلة_الحرية فقط؟
فأطرق رأسه شأن التلميذ في المدرسة عندما يكره على الاعتراف بذنبه.
قال: بل لقد أحببت منذ كنت في الربيع السادس عشر، فهل تحبين أن تسمعي قصة حبي.
فأجابت نعم
قال - اتفق أنني مرضت ذات يوم فنصح لي الأطباء بالنقلة إلى الريف أمضي فيه صيفاً كاملاً فسافرت أنا ومعلمي فقط ولم يكن في خدمتنا إلا خادمان وبضعة وصائف وساسة خيل وطاهيان، وكانت سفرة غاية في البساطة، لا زهو فيها. ولا أبهة. ولا إمارة. فوقع لي إذ ذاك أول بوادر الحب.
قالت الأميرة_وكبف كان ذلك.
قال الأمير_نزلنا بضيعة بعيدة عن مدائن الحضارة. وكان هناك دجول يجري في الحديقة منسربا في منافسها متلألي. الصفحة. بالله لقد كان مصطافاً يانعم ذاك المصطاف. وكنت أتلقى الدرس في الصباح ساعة أو ساعتين ثم أقضي بقية النهار طائفاً الغابة متجولا في الأجمة تارة طالباً صيدا - وطوراً مطالعاً في كتاب على حافة النهي. وكان معلمي وهو رجل إنكليزي بل لعله اسكوتلندي يدعى مستر جرين لا يفارقني في تلك الطوفات، ولعل ذلك كان من تعليمات شديدة، تلقاها من الملك أبي وكان رجلاً أعمى أصم في انفاذ الأوامر. نعم لقد كان رجلً طيباً وكنت أحبه، ولكن كان يحدوني الشوق دائماً إلى أن أكون وحيداً منطلقاً إلى حيث أنطلق وحدي دون صحبته.
فأطرقت الفتاة قائلة: أعرف ذلك
فعاد الفتى إلى قصته فقال: ووجدت بعد مدة أنه ولوع بالاغفاء بعد الظهيرة فأردت أن أنتهز إغفائه فرصة للنزهة وحدي ولكنه جعل يتألم ويرغي ويزيد عند رجوعي على أنني لم ألبث أن جعلته يرى ذلك مني صابراً لا لائماً ولا عاتباً ففي ذات يوم أجمعت النية على نزهة بعيدة على مسافة أميال خمسة من الضيعة وكان الجو جميلاً والنسيم سجسجاً فلم أشعر بتعب المسير حتى بلغت جدولاً ذا خرير ونغم جميل فلما أشرفت على عدوته ألقيت ببصري فيما حولي من الأشجار وفارع السرح فوجدت هناك بين الدوح. . . . .
فأكملت الأميرة قوله فقلت: فتاة: أليس كذلك. فأجاب. أجل. فتاة. فكيف عرفت ذلك، قالت العروس، لا بد أن يكون كذلك.
ثم ماذا
قال: وكانت جالسة القرفصاء. أمام ذلك الجدول تغسل ثوباً لها، تلقيه في الموج ثم ترفعه وكان الثوب الذي تغسله ولا ريب قميصها، لأنها كانت عارية الذراعين ليس على بدنها إلا غلالة رقيقة وحل عنقها شبيكة مما تلبسه القرويات، وكانت صغيرة الدن قليلة اللحم بالنسبة إلى سنها، وكانت في الربع الرابع عشر، ولها جدائل صفر كالذهب، مرسلة على ظهرها مطلقة، أما وجهها، كلا. كلا. إنني غير مستطيع أن أصف تلك المحاسن، لقد كانت كلها جمالاً حياً حتى إنني لم أشعر كيف اجترأت فمسيت حتى جلست بجانبها فوق العشب - قالت: يالله، من أنت؟
قلت: أنا لست إنساناً مذكوراً، بل وجدتني بحاجة إلى إنسان أحادثه فجئت وجلست.
قالت: ماذا أحدثك عنه؟ إنني أغسل ثوبي كما ترى.
فاستأذنها في المكث بجانبها لأرقب كيف تغسل ثوبها فأذنت لي ولا أذكر فيم جعلنا نتكلم وإنما كل ما أذكر أنني علمت منها أن لها خالاً يحرث أرضاً قريبة وقد علاني الخجل عندما سألتني عن صناعتي ولم أجد ما أجيب غير أنني لا أعرف إلا الكتب وكانت في حياتها لا ترى للرجال ولا للفتيان عملاً إلا الكدح بأيدهم لاكتساب خبزهم.
وهنا أشعل الأمير لفافة تبغ ورمى بعود الثقاب مشتعلاً على الأرض ومضى يقول:
وكنت أرى انها على حق.
وقالت الأميرة ثم ماذا
قال: ثم علقت الثوب الأزرق فوق غصن شجرة ومكثنا ننتظر أن يجف على حرارة الشمس فسألتني على اسمي فأجبته: برنس: فضحكت للاسم فرأيت ثم أسنان صغيرة بيضاء كالعاج ولا اعلم كيف قلت لها أنني أحبها واضطررت إلى زيادة الشرح ولكنها لم تفهم.
قالت الأميرة: وكيف شرحت ذلك
قال الأمير بقبلة
فراحت العروس تسأله. وعند ذلك فهمت أليس كذلك؟
قال أجل
فقالت الأميرة: وماذا كان بعد ذلك؟
فعاد البرنس يقول: وقلت لها أنني غير تاركها وأمسكت بيدها وأمسكت براحتي حتى هجمت جيوش الظلام ولا أذكر الآن الكلمات التي دارت بيننا وإنما لا أزال أذكر أنني أنبأتها أنني سأرى خالها اليوم التالي وأطلب إليه عملاً في حقله وكنت أشعر إذ ذاك بسعادة لا توصف أما العقل فقد عاد في طي تلك السعادة ونمت تلك الليلة مختبئاً في مخزن التبن في بيتها فلما هدأت الرجل فيدارهم تسللت في جنح الظلام فجاءت إلي ولبثنا ساعات نتهامس والفيران حولنا تجري هاربة وقد اجتمعت نيتنا على أن أكون زوجاً وتكون هي زوجتي فلما طلع الصبح جاءت تحمل لبناً وبيضاً وقبلتني ووقفت تنظر إلي ولكن لم نلبث أن سمعنا صوت خالها في فناء الدار ممتزجاً بصوت معلمي مسترجرين وكانت الأصوات حادة كأنما كانا في غضب ومناقشة حارة.
وسمعت معلمي يقول لصاحبه وهو يحاوره لا بد أن يكون هنا لقد دلنا كلبه على هذا المكان.
وفي الحال أبصرت بالكلب قد وثب فكان على مقربة منا وجعل ينبح نباحاً طويلاً وصاح المستر جرين لقد كنت واثقاً من ذلك وصعد يريد مكمنناً ولكن خال الفتاة كان أسبق إليه وهو يقول: إذا لم تصدقني فسنجد المكان خالياً.
ولكنهما وجدانا مشتبكين متعانقين تحت ظل تعريشة في الركن.
قال معلمي ببرود: ما شاء الله
ودنا خالها مني فألقي يده على كتفي كأنها من حديد وقال أيها الكلب الصغير سأعلمك كيف تختبئ مع العذارى الساذجات ورفع عصاه يريد أن يهوي بها على رأسي.
فصاح به مستر جرين مستوقفاً وألقى في ذاته بضع كلمات فتراجع فتراجع الرجل مذعوراً وقال:
ماذا تقول: الأمير. . . وجعل يكررها وقد رفع قبعته عن رأسه وقال للفتاة وصوته يرعش رعباً ودهشة أيتها الحمقاء حيي التحية الملوكية.
وإذ ذاك رأيت الفتاة ترفع مئزرها وفي عينيها نظرة ذهول كأنما لم تدرك شيئاً وأدت التحية.
وقال المستر جرين تفضل يا صاحب السمو فمشيت في أثره وخرجنا من البيت.
وهنا قالت الأميرة: ثم لم ترها بعد ذلك اليوم.
قال الأمير بل إنني لأراها كلما أردت. ليس عليَّ الآن إلا أن أغلق عيني فأراها ولا ريب في أنها أصبحت الآن فتاة جميلة ولكن قدر علي أن لا أكون رجلاً.
وهنا التفتت العروس وقد شعر بالدهشة من جرأته على قول ما قال. وراح مستطرداً يقول.
لم يعرف أحد هذه القصة إلا أنت فقط. ولم يفه معلمي بكلمة عنها. أنني متخيل إليًَّ أنه لم يكن ينبغي أن أخبرك بهذه القصة.
فأجابت الأميرة. يلوح لي ذلك. إلا إذا. . . وأمسكت عن الكلام. فقال الأمير إلا ماذا؟
قالت: إلا إذا سمحت لي أن أخبرك بسري كذلك. .
قال ايفولت - ليس أبدع من ذلك تكلمي. فبدأت الفتاة حديثها. فقالت - لقد كان أشجع رجل رأيته في حياتي.
قال - عمن تتكلمين
قالت عنه. .
فأجاب. آه. لقد فهمت. ثم ماذا.
قالت - رأيته لأول مرة وهو يروض جواداً من خيل أبي المعدَة للسباق لقد كان الجواد شكا شامسا جموحاً وقد وقف على ساقيه المؤخرتين وساقاه الأخريان في الهواء. وكانت عيناه حمراوين وأنفه قانياً.
قال البرنس وكان قد عمي عنه الغرض. تمهلي لحظة عمن تتكلمين الآن.
قالت الفتاة عن الحصان وقد علاه وامتطى صهوته وجعل يبتسم وقد وقفت أرقبه عند باب الاسطبل - وأنا في اشد الخوف ولبث القتال بين الجواد وبين الرجل مدة وكان هو المنتصر على الحيوان، إذ ترجل عنه وأمسك بعنانه ومشى به إلى سائس هناك فأسلمه زمامه. ثم دنا مني فقدمت يدي أصافحه ورحت أقول. إنني لا أعرف من أنت ولكني أراك أروع رجل رأيته في حياتي. .
وهنا سألها الأمير. متى وقع هذا؟
فأجابت الأميرة منذ ثلاث سنين
قال أيفولت - انهي الحديث.
قالت - فابتسم وقال أتظنين ذلك يا آنسة. . . وسألته عما إذا كان يعرفني فهز رأسه نفياً فخلعت عليه جميع؟؟؟ وقلت له: أتخاف من ذلك قال لست أخاف شيئاً.
قال الأمير مضطرباً مندهشاً - ومن هو ذلك الرجل؟
قالت الأميرة: سائس في الاسطبل. وأخطر رجل رأيته. ولعل اكبر ما أجللت منه إنه كان لا يحفل أكنت مليكة أم صعلوكة متكففة. وإنما كان يبتسم ويطرق برأسه ولقد خلتني سأذهب إليه فأرمي بنفسي عند قدميه صاغرة مذعنة له.
قال الأمير - كلا. لم أفعل. لقد كنت لا أزال تياهة العطف. بل كنت أريد أن يعترف بي. أردت أن أملكه وأهزمه. فقلت له أخشى أن تكون خائفاً مني. ورحت أنظر إلى عينيه فأخرج القش من فمه ونظر حوله كأنما أراد أن يستوثق مما حوله وقال: هل إذا قبلتك ترفضينيي. قلت لك أن تفعل، ولكن لا ينبغي أن يكون هنا. لنتواعد الليلة إلى الغابة في منتصف العاشرة. إذا كان لديك شيء من الشجاعة. فقال. إني فاعل ذلك. وانطلقت خافقة الفؤاد.
قال الأمير: وهل توافيما إلى الموعد المضروب.
قالت الأميرة - لقد حاولت ولكني لم أنجح. فقد تعقبتني سيدة من وصائف والدتي الملكة، وجاءت إلى حيث كنا واقفين، وهو يهم بتقبيل يدي وكذلك لم يقبلني الرجل الذي كنت أحب. ولن يستطيع ذلك.
قال الأمير. وهل علم أحد بأمركما
فاجابت - نعم. لقد علم أبي وكان أمراً شنيعاً.
لقد طردوه. لقد طردوه
قال الأمير: ولم تنظريه بعد ذلك اليوم؟
قالت الأميرة كلا. بل لقد علمت بعد ذلك أين يسكن ولكني لم أتمكن من لقائه: وها نحن غريبان يراد بنا أن نكون زوجين. أي ايفولت انه لا يشعر أحدنا نحو الآخر بعاطفة الحب: أليس كذلك. تكلم.
قال الأمير. هذا ما أتبينه الآن.
قالت - إنني لا أريد أن أكون ملكة وأنت لا تود أن تكون ملكاً
فقال الأمير بحدة البتة
فعادت تقول. وإنما نريد أن نكون ناساً عاديين كخلق الله
قال. هذا ما نبغي.
قالت_وماذا يمنعنا أن نكون كذلك فنظر إليها متحيراً وقال. الحكومة والدولة.
قالت الأميرة وقد أدنت مقعدها منه قليلاً. استمع إلي. . . . وراحت تصب في مسمعيه كلمات في همس ورفق. وجعل هو يطرق أولا برأسه علامة الشك ثم لم يلبث أن لمع ذلك البريق في عينيه. وما كادت تتم همسها حتى أخذ يدها متأثراً وقال. إنك لفتاة قوية الإرادة. شهمة جريئة.
وإذ ذاك كان الملك مقبلاً نحوها.
وأقبل الملك فجلس يقعد ومضى يقول. . . . أرى أن تتكلم كلمة او كلمتين في برنامج حفل الغد.
فتردد الأمير ونظر إلى العروس ليسألها نجدته واسعافه على القول ثم عاد يقول إن الأميرة تشعر بالتعب. ونرى أن الأفضل أن نلغي حفلة الغد إذا كان ذلك ميسوراً.
قال الملك. ونقصر همنا على مرقص الليلة. ليكن ذلك. فأجاب الأمير، أخشى أن يكون المرقص متعب لنا. إذ سنضطر إلى التسليم على ألفي إنسان وتخلق عند التحية لكل إنسان كلمة أو كلمتين تناسبان المقام.
وإذ ذاك نهض فقدم ذراعه للملكة العروس. ورأى الشيخ ذلك منهما فقال في صوت رقيق يحدث نفسه. انه لفتى طيب جميل ولكن يميل إلى ترك فروع شعره متدلية على أذنيه.
- * *
في الساعة الرابعة من السحر. وقد هدأت الرجل في القصر. وقام أهلوه. كان الأمير أيفولت يمشي على أطراف أصابعه متسللاً في ردهة القصر حتى وقف باب الأميرة فلم يكد يمكث بالباب لحظة حتى فتح الباب وطلعت الفتاة من خدرها مشتملة بمعطف طويل وقد غطت رأسها بقبعة من الفرو وتقنعت بقناع كثيف فاشتبكت أيديهما في الظلام اشتباكة تأثر وعزيمة غريبة فمشيا حتى بلغا نافذة صغيرة تشرف على حديقة القصر والأرض منها تبعد بنحو أقدام قلائل.
قال إيفولت إنها لمخاطرة كبيرة ولكننا إذا حاولنا الخروج من أبواب القصر اعترضنا الحراس والحفاظ ولا بد لهم من السؤال فنظرت الأميرة من النافذة وقالت اغمض عينيك إذا كنت تشعر بالاضطراب.
فلم تكد تمضي لحظة حتى وثب من النافذة. فإذا هو في أرض الحديقة واقفاً.
قالت الأميرة. هل أثب؟
قال_نعم
ووثبت. . . . .
وجعلا يمشيان حتى بلغا سوراً غير متعال فقال الأمير: ليس لنا سبيل إلى الخروج إلا بالوثوب على هذا السور خمسة أقدام.
قالت الأميرة. مستضحكة. ومن ذا الذي لا يلبث خمسة أقدام في سبيل الحرية!.
قال الأمير إنك لمدهشة.
قلت - هلم
فقال هلمي
ووثب وطفرت بعده فتلقاها إيفولت باليمين. والتقيا خارج السور وأحسا قلبيهما ينبضان أشد النبض.
قال. لا تبعد السيارة عنا إلا مسافة دقيقتين!
فانطلقا يعدوان حتى بلغا السيارة
فطارت بهما في جنح الظلام
قال الملك الشيخ لكاتم سره صبيحة اليوم التالي، أرجو أن تبلغ تهنئتي للأمير وتقول له أنني أريد أن أراه.
فمضى كاتم السر ولكنه لم يلبث أن عاد وهو يقول. أي صاحب الجلالة إن الأمير غير موجود في القصر كله.
فرفع الملك رأسه وقطب جبينه وقال. ادع لي وصيف الأمير ودعه ينتظر أمري لدى الباب.
وإذ ذاك دق التليفون. وكان المتكلم الملكة فالتقط الملك السماعة في اللحظة التي خرج فيها كاتم السر من الحجرة.
قالت الملكة في التليفون. لقد ذهبت الأميرة. يلوح لي أنها لا بد من أنها تركت الحجرة حوالي الساعة الرابعة فجراً وقد عثرت إحدى وصيفاتها على ساعة معصم ملقاة على الأرض في الردهة محطمة وقد وقف عقرباها على الرابعة.
قال الملك لا تنزعجي. سأكون لديك في الحال فوضع السماعة وفتح الباب وإذ ذاك دخل وصيف الأميرة فابتدره الملك قائلاً. أي الأثواب ارتدى لأمير في هذا الصباح؟
قال الرجل - لباس السيارات يا صاحب الجلالة فأمسك الملك بلحيته مفكراً ثم قال. أغلق أبواب حجرات الأمير. وصندوق هذا الحديث الذي جرى الآن. ولا تقل لأحد شيئاً.
وأشاح عنه بوجهه فدق الجرس وفي الحال كان كاتم سره في حضرته. انشر في صحائف الملكة كلها خبراً مؤداه انه يخشى أن يكون الأمير وعروسه قد أصيبا بوعكة البرد وقد وصى طبيب القصر بأن يبقى العروسان في حجرتهما لا يخرجان منها حتى يتماثلا للعافية، قال كاتم السر، وماذا نصنع بالمرقص الذي سيقام يا صاحب الجلالة.
قال الملك بلهجة العزيمة الصارمة سيقامن، وانطلق الملك يريد حجرة الملكة.
قال: لقد هربا معاً.
قالت الملكة - مبهوتة - ايقولت كذلك؟
قال: نعم - لقد ذهبا هما الاثنين.
قالت. ولكن لماذا؟
فأجاب الملك - وقد سقط في مقعد متعباً - ومن أين لي أن أعلم؟
وظلت السيارة تعدو بالعروسين الهاربين حتى قطعت مائتي ميل. وإن ذاك لاحت لهما عن بعد قباب قرية ذات سوق ومتاجر.
قال الأمير - بالطبع سنجد سيارة هناك للأجرة فهل تستطيعين سوق السيارات.
قالت الأميرة. أي نعم. أستطيع أي شيء
قال الأمير. ولكني أخشى أن يستوقفوك عند الحدود.
فأجابت الفتاة. لمن أحاول اجتيازها. بل سأترك السيارة في وسط الغابة وأتسلل بين الدوح حتى أصل إلى الطريق العامة.
فسألها الأمير. هل المكان بعيد.
قالت الأميرة. كلا. . . . بل الاسطبلات في الناحية الأخرى من الغابة.
فوقف الفتى حائراً لا يدري ماذا يقول على أنه ما؟؟؟؟؟ أن قال. ألا تشعرين بأي تردد.
قالت - كلا
قال أتظنين أنه سيحسن لقاءك ويتلقك بأحسن من يتلقى حبيب حبيبا
فأجابت وهي باسمة. أجل. إنه لرجل خطير إنه لآية الإبداع
قال ليكن ذلك. ولعلي. موفض بالسيارة نحو سبعين ميلاً حتى أدرك المكان
قالت الملكة - نعم. وأرجو أن تجدها كما تراها بعين الحلم والخيال الآن وتلقيها كعهدك آخر لقاء بها وأتمنى لك السعادة والهناء.
فقال ايفولت. أتمنى ذلك وكان صوته أثر من نغمة الشك.
وساد السكون بينهما برهة ومرا بالسيارة ينفذان في أرباض القرية. وأوقف الأمير المركبة بباب. . . . ورشة. . . . . الأوتومبيلات
وصاح بالقوم. أريد سيارة!
قال صاحب المصنع. للأجرة تريدها أم للشراء
قال للأجرة فرد عليه الرجل قائلاً. ولكن ليس لدي سائق يسوقها
فاجب الأمير. إن السيدة تجيد سوق السيارات
قال الرجل. متردداً_نعم - ولكن
فعاجله البرنس بالقول. لا حاجة إلا ولكن هذه أنني أبتاعها ابتياعاً إذ أردت
قال الرجل. لا مانع لدي من بيعها ولكنها قديمة وأنا على أحسن حال.
وذكر الثمن ودفع الأمير إليه به ثم قال_هي الآن على استعداد للسفر.
قال الرجل وهو يعد الأوراق المالية بل ستكون كذلك في لحظات.
ولم تكد تمضي لحظات قليلة حتى كانت السيارة واقفة على استعداد، وهنا مد الفتى يده إلى صاحبته. وقال. . . الآن. . . . وداعاً فمدت إليه يدها.
قال مستطرداً حديثه. إنك أبدع فتاة لقيتها في حياتي. إنك لفتاة مدهشة. ولا أدري كيف تطاوعني نفسي أن أقول لك. وداعاًً. وداعاً ولكن من يدري لعلنا مجتمعان بعد الآن عندما تتزوجين به وأتزوج بها. فسنلتقي ونعيش جميعاً عيشة واحدة.
فأجابت الأميرة. هو ذلك. هو ذلك. إذن فلا تدعنا نقول وداعاً حتى يقدر الله لنا اللقاء الثاني.
فعقب هو على كلامها فقال. عجل الله بذالك اللقاء ليباركك الرحمن. فقالت هي. وليباركك كذلك.
فرفعها إلى السيارة بكل أدب واحترام ووقف يرقبها حتى اختفت السيارة بها عن الأنظار وإذ ذاك هز نفسه فرحاً معتزاً وقال لنفسه. الآن قد أصبحت حراً متخلصاً من قيود المجتمع.
وفي لحظة عدت السيارة مطلقة للريح عجلاتها واختفى.
- * *
قال الملك يحادث زوجته الملكة. ما علينا إلا التعلل والصبر.
قالت الملكة. ولكن لنفرض أنهما لن يعودوأ أصلاً.
فأجاب الملك الشيخ. إن هناك يا عزيزتي مثلاً سائراً يقول لا تثقوا بالامراء ولكن شعاري وديدني يخالفان هذا المثلإذ أن من عادتي أن أثق بالأمراء ماعشت. ولهذا أقول لك ان الأمير ولا ريب راجع إلينا. ألا تحبين أن نخرج للنزهة. ونشرف على الشعب.
قالت الملكة إذا أحببت.
وانطلقا.
- * *
ونزل الأمير ايفولت عن السيارة وراح يمشي مخترقاً للغابة وترك الأمير الفتى السيارة وراح ينفذ في منفس الغابة وأحس أنه في اضطراب ذهني وقلق واختفت عن عينيه أشباح تلك الأحلام الجميلة التي كانت تتراءى له. ولم يعد يشعر بتلك اللذة الساحرة التي كان يتخيل أنه سيشعر بها إذا انطلق من قصر أبيه - ولم ير تلك الفتنة التي كان يظن أن ظفر بالحربة في طيات فؤاده. وكان قد مضت عليه ساعات لم يذق طعاماً. ولا غرو إذا لم يجد فيما حوله فرحة. ولم ير ابتهاجاً لأن المعدة الخالية لا تنبه في الجائع شيئاً من السرور إذا كان السرور حوله. وهناك رأى الحقول والاجم كما كان يتصورها في ذاكرته. وهناك كانت تجري من تحتها الجداول. . . . . متغنية أغانيها المائية. مترنمة للصخور التي تحف بعدوتها ولكن أين ذل ك الابتهاج الخفاق في قلب الشباب الغض الناضر الذي كان يسوقه عاري القدمين منذ سنين إلى ذلك الموضع. وأين ذاك الباعث الذي كان يثيره إلى غشيان تلك العهود والروحات الحسناء الناعمة. وهناك من خلال طائفة من السرح المتطاول الافرع. رأى دخاناً متكاثفاً في الجو متصاعداً. تلك هي المزرعة. هناك تخيل بأنه سيراها بتلك الفروع الحمراء والعين الرانية. وجلال البساتين يحف بها ويكسو بدنها الغض اللدن الجميل.
هنا تنفس طويلاً وانطلق يجد السير إلى الموضع فلما بلغه وجد عنده رجلاً جالساً لدى باب منزل هناك يدخن في قصبة طويلة له. وينظر فيما حول هـ نظرة فارغة مذهولة وهو في سكون تام. فتبينه الأمير فإذا هو خال الفتاة وإنما علته الستون وأثرت في معالم وجهه كرة الأعوام.
فدنا من الأمير وحياه تحية القرويين وقال_انني ضللت الطريق وبي جوع شديد فهل لك أن تطعمني؟
فأخرج الرجل القصبة من فمه وأجاب. إذا دفعت ثمن ما تطعم. قال الفتى؟ هذا ما لا شك فيه.
ومشى الرجل بالأمير فاخترقا فناء البيت حتى بلغا حجرة أشبه شيء بالمطبخ وترك الرجل الأمير وهو يقول. سأخبر ها أن تهيء لك الطعام.
وانطلق من باب آخر مكث ألأمير يرتقب الطعام أمام مائدة مهشمة بالية وشعر ذاك أن يديه ترتجفان وقد جف ريقه وقد سرت في نفسه حاسة الانتظار والتلهف والخوف من أن يفسد عليه ذلك الحلم المعسول الذي كان يتخيله في صحوه ومنامه، فبعد مدة قصيرة حسبها أجيلاً وأدهاراً فتح الباب بدفعة صينية تحملها يد فتاة قروية الملامح وتقدمت فوصعت الصينية أمامه فوق المائدة وقالت هذا كل ما نستطيع أن نطعكمه، فسكت الأمير وتنفس طويلاً وراح يجيل فيها البصر.
كان شعرها معقوصاً في غير نظام. مجدولا في غير نسق أو إبداع. مهملاً أشعث مغفلاً. وحاجبها مجعداً وقد بدت الغصون والمكاسر في جلدة خديها وصفحة وجهها. وكانت شفتاها. تلك الشفتان اللتان كان يتخيلها كآخر عهده بهما قطعة من الارجوا، ولهيباً. من لهب النيران. راحتا متدليتين متراخيتين في ذبول ودمامة. وعيناها. يالله لقد كانت عينين فعولين بالألباب فعل الخمر في النفس. أما الآن فقد ذهب عنهما ذلك الصفاء الذي كان أكبر جمالها. وتولت نلك الطهارة التي كان تطل منهما. وكأنها لم تعرف ماذا تصنع بيديها ها فقد تركتهما بقذارتهما فوق بذلتها.
قال الأمير. إنني لموفور الحظ إن وجدت هذا الكرم منكم. فاستضحكت ومشت تريد الباب فاستوقفها الفتى متوسلاً وهو يقول. ألا تتحملين المكث بجانبي ريثما أنتهي من الطعام.
فأجابت. لا. لا أستطيع
قال الفتى معيداً الرجاء. ولكن تلك منة كبرى تصنعينها لي. فنظرت إليه نظرة حادة وضحكت ضحكة بغاء وقالت. نعم إنها لمنة وصنيع كبير.
ولم تشمئز نفس الفتى أشد مما اشمأزت من تلك النظرة المتكلفة. ومن علمها بحقيقته وتجاهلها له. وذلك المظهر الخداع الذي ظهرت به.
فانحنى على الرغيف الذي أمامه وراح يقضم قطعة الجبن التي قدمت له وشاح بصره عنها. فلما رفعه بعد فترة رآها قد وقفت بجانب الحائط وهي تنظر إليه نظرات خبيثة ماكرة شهوانية.
قال الأمير. إنك لتذكرينني بفتاة عرفتها منذ دهر بعيد فهل تحزرين من تكون تلك الفتاة.
فلم تجب
وأعاد الأمير السؤال. لقد كانت فتاة أحبها وأهيم بذلك الحب.
فانطلقت الفتاة في نوبة من الضحكات العصبية وأطالت بوجهها وقالت - إنك لفظيع. . . .
وفي تلك اللحظة. وما كادت هذه الكلمات تخرج من فم الفتاة حتى تولى الأمير اشمئزاز شديد فأخرج قطعاً فضية من النقود وطرحها على المائدة ورفع قبعته إلى رأسه وفر من البيت عاديا.
وسمع وراءه صوت الشيخ يصيح به. . . أنت يا هذا هل دفعت ثمن ما طعمت!.
فأجابه بايماءة الايجاب ومضى نافذاً في الحقول.
ومضت ساعة وهو يمشي لا يلوي على شيء. ثم وقف تحت ظل سرحة عظيمة هناك مفكراً سارحاً في بيداء الفكر وما عنم أن قال لنفسه إذ ذاك. ولكن لا تزال لي ذلك حريتي، وكأنما سمع إذ ذاك كل ما حوله يصيح به صيحة هازئة ساخرة قائلة. كلا. كلا أين حريتك يا أبله.
فجلس ثمت وأخفى عينيه في راحتيه وراح يئن ويبكي ويقول لنفسه. . لقد طرحت كل شيء. لقد نبذت الواجب. ورميت الشرف. وبذلت كل شيء ضحية وفدى ولن أستطيع بعد ما أصبحت هزؤة وسخرية في أعين الشعب والأمة أن أحاول رجوعاً إلى القصر.
وأخرج ساعة ونظر فيها فإذا الساعة الثالثة وعلم أنه يبعد عن العاصمة بمائتين وخمسين ميلاً وسيفتح المقصف والمرقص في الساعة التاسعة. ورأى أنه لو قطع أربعين من الأميال في الساعة - استطاع أن يكون على أبواب القصر في ذلك الميعاد، فلم تكد تجول في نفسه الخواطر حتى نهض واثباً من مجلسه. وعدا يجري بحمية هائلة إلى الوادي، ولكنه ما عتم أن فكر في ألأميرة فوقف في مكانه وتصور أنه قد يصل فلا يراها. وتقع إذ ذاك الفضيحة ولكن شعبه وواجبه نحو شعبه وأمته. وجعل يقول لنفسه أنهم على مر الزمن سينسون نبأ الأميرة التي هربت. وسيتزوج أميرة أخرى غيرها. ثم أبواه. أبواه. الملك الشيخ والملكة فصاح بنفسه. ما كان أحمقني وأضلني. كيف قبلت ذلك وكيف رضيت لها أيضاً أن تفعل ذلك.
ووجد نفسه بعد هذا يجري مطلقاً للريح ساقيه. واثباً لجداول الصغيرة عادياً فوق مياهاهها الضاحكة. متخطياً الجذوع المحطمة - وفروع الشجر المتساقطة.
أما الأميرة الفتاه فبلغت الاسطبلات وقد دقت الساعة واحدة وأرت عندها غلاماً يملأ وعاء من بئر هناك فنادته وسألته على رجلها المنشود فأجب الصبي أنه يعرف مكانه وانطلق يعدو ليناديه وفي الحال أقبل الرجل يمشي وراء الغلام فلما أشرف عليها تولاها شيء من الرعب إذ لاح الرجل في عينها كأنه مخيف الطلعة عن كثب وأشار الغلام بأنملته صوب الفتاة والتقط وعاءه ومضى منصرفاً وتقدم الرجل فإذا وجهه أحمر مجعد قذر.
قالت الفتاة تخاطبه. آه. هاأنت قد جئت. .
فرد الرجل قائلاً. . . هل من خدمة يا آنسة؟.
فاجابت - ألا تعرفني. . .
فهز رأسه وكشفت هي اللئام عن وجهها فنظر وحدق البصر للحال أجفل وتراجع.
قالت. . ما رأيك الآن.
فلعق شفتيه مضطرباً وقال متلعثماً ماذا تريدين يا صاحبة السمو.
فعجبت الفتاة وقالت. هل أخفتك. ولم الخوف. لقد قطعت كل هذه الشقة لكي. . .
فقاطعها الرجل بقوله. حسبك يا مولاتي. لا تنبئيني بذلك أتوسل إليك. لا تنبئيني. لقد تكون منك دعاية وأمراً بسيطاً للغاية ولكنه عندي أمر عظيم وخطب كبير. .
قالت الأميرة. بل هو عندي كذلك. أنني أجد ولا أمزح.
فهز رأسه هزة أخرى وقال بسرعة. لقد كنت أحمق مغفلاً. لقد سلكت مسالك الحمقى الأغرار ولكني اعتبرت بالدرس الذي تعلمت فلا ينبغي للإنسان أن يتعالى إلى مصاف الذين هم فوق مرتبته.
فنظرت إليه الأميرة مندهشة ومضى هو يقول. نعم. لقد اعتبرت يوم طردوني فكدحت في ذلك العهد ورأيت المرين في الغيش. . . . وقد كلفتني تلك الدقائق الثلاث من عمري أعواناً ثلاثة. ولا نفع الآن في ذلك ولا فائدة. فإن علي مسئولية كبرى اليوم. ولا علم لم جئت الآن وأي باعث ساقك إلي. فهلا أسديت إلي يا صاحبة السمو يا مولاتي الأميرة. أكبر الصنيع. بذهابك فإنني أخشى وأفرق من مقدمك.
فصمتت الأميرة هنيهة ثم قالت وهي تعيد اللئام إلى وجهها. . . أي مسئولية تعني؟
قال الرجل. أجل مولاتي. إنني الآن رجل متزوج ثم. . . . . فوجمت الأميرة وانبرت تقول. أعرف ذلك ولكني لا أدري باعث اضطرابك. إنني إنما جئت لأهنك بالزواج. . . .
وتولت عنه دون كلام وانطلقت.
فلما ابتعدت راحت تبكي قائلة لنفسها. كان ينبغي أن لا يدعني أحضر. أين أذهب الآن. لا أستطيع العودة إلى القصر. أين الذهاب. أين الذهاب. أين الذهاب.
وأنت أيها القارئ تعلم أن المشكلة التي تشغل ذهن الرجل منا ساعات طوالاً في سبيل حلها والتخلص منها لا تأخذ في ذهن المرأة أطول من دقائق قلائل ولحظات ولهذا لم تلبث الفتاة أن نفذت من العوسج فبلغت سيارتها التي تركنها على الطريق وفي لحظات كانت تنهب الأرض بها نهباً تريد العاصمة.
- * *
وما كادت تدق الرابعة حتى كان إيفولت قد أدرك القرية التي ودع عندها الأميرة وجعل الناس يفرون من طريق سيارته على اليمين وعلى الشمال عزين. والسيارة منطلقة تطوي الطريق طياً. وقد جعل لفتى يقول لنفسه. الآن. ليبس شيء أمامي سأصل في الموعد المضروب للمرقص.
ولكن هناك على مسافة غير بعيدة منه كانت الأميرة كذلك تسير بمركبتها بسرعة هائلة.
وما عتمت الشمس أن اختفت وراء الجبال وعم الظلام الأرض فقالت الفتاة لنفسها. لا أستطيع نظراً في هذه الظلمة ولكن لم يبق علي إلا ستون ميلاً. وهي ليست بالمسافة الكبرى وينبغي أن لا أحدث بغيابي فضيحة ما.
وانطلقت ولكن لم يلبث أن وقفت السيارة وقد تحطمت عجلاتها الأمامية فأرادت أن تعالج دفع السيارة فمضت العجلة حتى سقطت في حفرة صغيرة على جانب الطريق. فتولى الأميرة البأس وجلست في مقعد السيارة تبكي وتنتحب وحجبها الظلام بستارة واختفت دموعها في حلكته وللحال اخترق الجو صوت مهمهم أشبه شيء بصةت سيارة تعدو الأرض وجعل الصوت يزداد ويعلو فصرخت. . . . هذه سيارة!. . فنهضت من مجلسها ورفعت ذراعيها وقد دنت المركبة قليلاً وإذ ذاك تبينت السيارة فصاخت لنفسها هذا ايفولت. هذا ايفولت!. ولكن الأمير لم ير إلا لمحة من شبح الظلام وظل سيارة مرتطمة في الحفرة فانفلت سريعاً في الطريق وانطلق بآخر سرعة العجلة إذ كان يريد أن يبلغ القصر على جناح البرق. ولم يحتاج الأمر إلى الوقوف إلى إنقاذ هذا الراكب وسيارته المحطمة.
فوقفت الأميرة وهي في أشد حالات البأس لا تدري ماذا تصنع.
وإذ ذاك مر رجل على دراجة بخارية موتوسيكل وهو ينهب الأرض نهباً حتى كاد يصطدم بها ويدهمها وهي واقفة على الطريق مذهولة اللب، وكان اجتناب لاصطدام بها ليس في مكنته فأخذها في طريقه وجعلت تتحرج أمام الدراجة حتى استطاع أن يوقفها.
ونزل الرجل وقد تولاه الجزع وقال للفتاة - وهو ينهضها من سقطها. . . . لم يكن ينبغي أن تقفي في وسط الطريق والظلام حالك. هل جرحت؟
ولكن الأميرة لم تحفل بألم العثرة إذ رأت وسيلة الخلاص قد تمهدت لها. وعاجلته بقولها. كلا. لم يصبني شيء. بل أريد أن أبلغ العاصمة. أنك ستأخذني إلى العاصمة فهز الرجل رأسه وقال. آسف يا آنسة. فإنني على رهان اليوم، وقد كدت أكسب مائة جنيه فإذا أخذتك فأنا ولا ريب خاسرها.
فقالت الأميرة وهي مصرة. ولكنك ستأخذني إليها. . يجب أن تفعل. يجب أن تفعل.
قال الرجل ببرود. . لا أرى سبباً موجباً على ذلك فتلك صفقة طيبة وأنا رجل أعيش من أمثال هذه المراهنات. .
فقالت الأميرة. أنا السبب الذي يوجب عليك ذلك. . . ألا تنظر إليّ لتعرف من أكون؟.
وحسرت قناعها ووقفت أمام مصباح دراجتة فما كاد الرجل يبصر وجهها حتى تلعثم واضطرب وصاح. يا إله السموات. ولكن ماذا جاء بك إلى هذا المكان يا صاحبة السمو.
قالت الفتاة. أعرف أنني كنت فيما ارتكبته حمقاء. . طائشة. لقدر أردت فراراً والآن أريد عوداً مسرعاً. وها أنت رجل مهذب وعليك أن تعينني على بلوغ العاصمة.
قال الرجل. لست رجلاً مهذباً يا مولاتي. وإنما أنا صانع عادي لا أقل ولا أكثر ولكني فاعل ذلك دون سؤال. هلمي واصعدي ورائي.
وواصلت الفتاة الملوكية مسيرها خلف الرجل ورديفة فوق العجلة وقد أمسكت بذراعيه وطوقت خصره بيديها.
- * *
وكانت قاعة الاستقبال في القصر في الموعد المضروب وخاصة بالاضياف والمدعوين وعلا القوم الدهشة إذ رأوا الأمير ايفولت يدخل القاعة وحده بلا عروسه. ولم تظهر على الملكة والملك علائم الدهشة إذ دنا فتاهما منهما وانحنى انحاءة الملوك للملوك ولكن الملك الشيخ همس له في أذنه - لقد قطعت المسافة بنجاح تام. ولكن أين الأميرة؟
فهز ايفولت رأسه وقال. إنها لن تعود.
فنظر الملك إلى الملكة وألقت هي ببصرها إليه.
قال إيفولت هل أنبئ المدعوين؟.
قال الملك نعم. ولكن برفق. لنقل إن الأميرة لم يرق له المقام في أرضنا الجديدة.
فأرسل الأمير نفساً صاعداً وبدأ خطبته فقال:
سيداتي. سادتي!
وللحل انفتح الباب وبدت الأميرة في ثوب أبيض فضفاض مزركش وهي تقول. هل تأخرت، وأردفت كلمتها المتواضعة الظريفة بابتسامة ملكت بها قلوب الحاضرين. . . . .
- * *
ووجد الأمير نفسه في خلوة وعروسه بعد ساعات فهمس لها في أذنها. . . لن نعود إلى الفرار من بعضنا بعد اليوم. . . . .