مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/محاورة
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/محاورة
بين فقيه متدين وفيلسوف ملحد
للفيلسوف الألماني الأكبر آرثر شوبنهور
(تابع ما نشر في العدد 2 سنة ثامنة)
الفقيه - إذا كنت بدلاً من تنبئك الزوال المسيحية فرحاً بذلك مسروراً تتأمل أعظم أفضالها وآلائها وآلاء وأفضال الديانة التي نبعت بعد عهد غير طويل من عين المنبع الذي فاض بالمسيحية - أعني الشرق - أقول ذا تأملت جليل منن هذين الدينين على العالم الأوروبي لكان ذلك أولى بك وأجدر. أجل لقد استفادت أوروبا من المسيحية معنى ما برح مجهولاً لديها - أعني هذه الحقيقة الجوهرية وهي أن الحياة الدنيا لا يمكن أن تكون في ذاتها غاية ونهاية ولكنها سبب نتيجته فيما يليه ووسيلة غايتها فيما وراءها. ولقد وجدنا اليونان والرومان حصروا غاية الحياة في ذاتها فحق لنا أن ندعوهم وثنية ضالة عمياء ثم كان من نتيجة عقيدتهم هذه ان أصبحت كل فضائلهم تنحصر فيما هو مفيد للمجتمع - أعني في النافع وقد قال ارسطاليسأن أحسن الفضائل أنفعها للغير ومن ثم رأينا الأقدمين يفضلون حب الأوطان على سائر الفضائل مع أنه صفة مشكوك في فضلها إذ كان مبنياً على ضيق النظر والمحاباة وفساد الحكم والزهو والافتخار الباطل والغرور والأنانية. وقد ذكر ارسطاليس الفضائل الإنسانية مرتبة حسب قيمها وأقدارها وها هي: العدالة والبسالة والاعتدال والأبهة والمروءة والسخاء والحفاوة والاقتصاد والعقل فما أبعد الفرق بين الفضائل وبين الفضائل المسيحية. بل أن أفلاطون ذاته وهو أشد الفلاسفة القدماء روحانية لا يرى فضيلة فوق العدالة - فهو وحده الذي يوصي بها ويحث عليها ويأمر الناس بحبها لذاتها بينما سائر الفلاسفة يذهبون إلى أن العيش الهنيء هو الغرض الأوحد للفضائل - وإلى أن الواسطة إلى نيل هذه الغاية هو التمسك بمكارم الأخلاق. فلما ظهرت المسيحية أنقذت العالم الأوروبي من استغراقها جهالة وخطأ في حياة فارغة فانية غير مأمونة. فالمسيحية لا تقتصر على تعلم العدالة ولكنها تعلم أيضاً حب الغير والرحمة والعفو وحب الأعداء والصبر والتواضع والزهد والإيمان والأمل. بل لقد ذهبت المسيحية وراء ذلك فدلت على أن الحياة الدنيا شر وضير وأن الإنسان في حاجة إلى النجاة والخلاص فحضت على احتقار الدنيا وعلى الورع والتقشف وعلى العفاف والتقوى وعلى إنكار الذات وعصيان النفس إذ كانت بالسوء أمارة وما يقتضي ذلك من الصد والإعراض عن الحياة الدنيا وزخرفها الباطل وزبرجها الكاذب وغرور لذاتها الفانية ثم دلت فوق ذلك كله على فضلى الفضائل وكبرى المحامد أعني مكرمة الارتياح إلى مكابدة الآلام واحتمال المصائب حتى جعلت الصليب (آلة العذاب) رمزاً على النصرانية. لا أنكر أن هذا المذهب في الحياة - وهو بلا جدال أصح المذاهب - قد ظهر قبل عهد المسيحية بالآف السنين في الأقطار الآسيوية على أشكال أخرى وبلا اتصال بالمسيحية كما لا يزال في تلك الأقطار حتى الساعة. ولكن أوروبا لم تتلقه إلا بفضل ظهور المسيحية في بلدانها. إذ من المعلوم أن سكان أوروبا وإن لم يكونوا سوى قبائل أسيوية نزحت في الأصل عن أوطانها بآسيا فلبثت أزماناً جوالة بالآفاق حتى انتهت أخيراً إلى القارة الأوروبية فخيمت بها واستوطنت بقاعها - غير أن هذه القبائل لم تلبث أثناء تجولاتها الطويلة أن نسيت ديانة أوطانها الأصلية فنسيت معها أيضاً المذهب الصحيح في الحياة الدنيا. ثم استحدثت في أوطانها الجديدة (أوروبا) أديانا أخرى أحط منزلة من الأولى وأخبث جوهراً وأقل تهذيباً - كعبادة أو دين (في اسكاندينيفيا) وما إليها من البقاع الشمالية الأوروبية) والأديان الدرودية واليونانية وهذه لا تحتوي من المذاهب والعقائد إلا ما هو حقير سطحي ضئيل بالقياس إلى الديانات الآسيوية القديمة أو إلى الدين المسيحي.
وفي هذه الأثناء تولد في أمة اليونان ذوي خاص غريزي عن عنصر الجمال في الكون والخليقة وبصر ثاقب بمواطن الجمال وأسراره فكان من نتيجة ذلك أن خرافاتهم الدينية أخذت على السنة شعرائهم وعلى أنامل مصوريهم ونحاتيهم أشكالاً بديعة عجيبة. وصوراً أنيقة غريبة. لا يدانيها في الحسن مدان. ولا ترام غايتها من الإحسان والإتقان. ولكنا من جهة أخرى نرى أن المذهب الصحيح في الحياة الدنيا والغرض الأشرف الأسمى من الوجود والغاية القصوى كان مما قد غاب عن أذهان أولئك اليونان ودق عن إفهامهم. وكذلك شأن الرومان في هذا الصدد. فعاش أولئك وهؤلاء أعمارهم كأنهم أطفال كبار حتى ظهرت المسيحية فلفتت أنظارهم إلى الناحية الخطيرة من الحياة والجانب الجليل.
الفيلسوف - أجل. وإذا أردنا أن نعرف ما كان من نتيجة ذلك فما علينا إلا المقارنة بين العصور القديمة وما تبعها من القرون الوسطى - أعني بين عهد بيريكليز اليوناني وبين القرن الرابع عشر بعد الميلاد. أجل والله إن أحدنا لا يكاد يصدق أن أهل هذين العصرين هم من جنس وأحد وطنية واحدة. فقد امتاز أقدم العصرين عصر قدماء اليونان بأرقى مدينة وأسماها وأرفعها وأسناها. واشدها تهذيباً وأحسنها ترتيباً مع النظامات المتقنة والقوانين المحكمة وجميع الفنون الجميلة والصناعات البديعة فضلاً عن الشعر والقصص والفلسفة في أكمل مظاهرها وأجمل مجاليها - تلك آيات روائع وملح بدائع قد مرت عليها آلاف السنين. وهي في بابها فذة نادرة فريدة مقطوعة الأشياء والنظائر لا يلحقها مقارب ولا مدان. ولا يشق غبارها في مضمار الرهان. فهي نتائج قرائح وأذهان لم تتوفر لغير أربابها من بني الإنسان. فكأنها صنعة لأنس أو أنس لجان. أولئك قوم أفاضوا على صفحة الحياة رونق الغضارة. وأسالوا على جبينها عزة البهجة والنضارة. ووثقوا عراها بأجمل أواصر الألفة والوداد: وشادوا صرحها على أوطد دعائم التضامن ولاتحاد (اقرأ كتاب مأدبة زينزفون). هذا عهد يونان القديمة. فانظر الآن إلى أوروبا في القرون الوسطى وخبرني ماذا تجد؟. . الكنيسة تأسر الأذهان. وتفل مضارب اللسان، وتحطم الأقلام وتطمس الأفهام وتحرق الأجسام. وقد أصبح الناس سوقة وملوكاً وشريفاً وصعلوكاً وعبيداً وأرباباً وأسوداً وكلاباً. فهنالك تجد القوة الغاشمة والشريعة الظالمة وعماية التعصب العاسفة وسطوة الاستبداد العاصفة. وما ينجم عن ذلك ويتلوه من ظلمة العقول والإفهام ودياجير الشكوك والأوهام وتضارب العقائد والملل واصطدام المذاهب والنحل. ونتائج هذا من محاكم التفتيش والتعذيب والحروب الدينية ووقائع الصليب ومصارع الخارجة والمارقة. ومقاتل أهل البدع من الزنادقة. فإذا تأملت النظام الاجتماعي في ذلك العصر المظلم لم تجد سوى نظام الفروسية وما أدراك ما هو؟. . مزيج من الحمق والوحشية يمتاز بفرط التكلف المرذول والتصنع الممقوت وفاحش الخرافات والترهات والخزعبلات ونهاية الغلو والإغراق في تقديس النساء. ولا يزال لهذا النظام البائد المفترض بقية بين ظهرانينا أي في أوروبا الحديثة تظهر في هذه العصور الحديثة في مظهر ما يسمونه الآن احترام المرأة وهو كما لا يخفى نظام فاسد سخيف قد عوقبنا على اتباعه بالعقاب الطبيعي المنتظر - أعني طغيان المرأة وعتوها وغطرستها - مما لا يزال يستثير علينا بحق هزء الشرقيين وسخريتهم ويجعلنا - ونحن أهل ذلك - أضحوكة في نظرهم وهدفاً لسهام تنديدهم وتبكيتهم - وهي سخرية قد كان قدماء اليونان يشاركونهم فيها لو أنهم بقوا إلى هذه الساعة. أجل لقد وصل الأمر في العصور الوسطى المظلمة (التي تسمونها كذباً ذهبية) إلى أن الفرسان صاروا يعبدون المرأة عبادة ذات مراسم ومناسك مرتبة ومنظمة. ويأتون في سبيل عبادتها ما يسمونه آيات البطولة وقام الشعراء يتغنون في النسيب بالأشعار الغنائية وما شاكلها من السخافات على أن هذه الأناشيد والأغاني كانت مما امتازت به فرنسا بينما الألمان الأبلد طباعاً الأجمد شمائل كانوا أميل إلى إدمان الشرب وإدمامة السطو والنهب يملأون أجوافهم بالخمور ويفعمون من الأسلاب والغنائم الدور والقصور، دأبهم ذلك وديدنهم طول أعمارهم. ولم تخل سوامرهم وأنديتهم أيضاً من سخيف الأشعار الغزلية. والأناشيد الغنائية. وهذا كله ثمرة الهجرة والنصرانية.
الفقيه - أجل إن هجرة أولئك الشعوب الآسيوية البربرية هي التي أرسلت هذا السيل الجارف من تلك الأمم الوحشية فأطفأت به سراج المدينة اليونانية الوهاج وطمست معالم هذه الحضارة الزهراء. وأعادت الصلاح فساداً ورواج الفنون والمعارف كسادا. ولكن خبرني بماذا عاد الأمر إلى صلاحه. وتمكن في نصابه بعد التقوض عماد نجاح الأمر وفلاحه؟ بالديانة المسيحية. لقد أصيبت مدينة أوروبا القديمة من هجرة الآسيويين بالداء. ثم ظفرت من ظهور المسيحية وانتشارها بالدواء. فالمسيحية هي التي كبحت جماح أولئك الشعوب الوحشية الهمجية وقمعت غلواءهم وردت عرامهم وراضتِ شمائلهم وألانت من غلظة أكبادهم وملست من خشونة جوانبهم. وغير خاف أن أول ما يجب في تأديب الهمجي وتهذيبه هو تعليمه كيف يسجد ويركع. ويبتها ويتضرع ويطبع ويخضع. إذ ليس إلا بعد ذلك يمكن تمدينه وتحضيره. وهذا ما قد حصل في ايرلندة على يدي القديس باتريك وفي ألمانيا على يدي وينفريد السكسوني أجل لم يكن شيء سوى هجرة الشعوب الآسيوية في قديم الزمان - تلك الهجرة التي حاول عبثاً أن يعيدها في عهد أحث الغزاة الجبابرة عطيل وكنجبز خان وتيمور لنك (ثم طوائف الغجر بشكل هزلي) - لم يكون شيء سوى هجرة تلك الشعوب ما اجتاح مدينة أوروبا القديمة وأبادها. ثم جاءت المسيحية فكانت القوة المقاومة لهذه الهمجية العاملة على استئصالها مثلما غدت فيما بعد ذلك أعني من خلال القرون الوسطى القوة المقاومة لهمجية جبابرة الظلم والطغيان أعني الأمراء والفرسان الآنفي الذكر.
بيد أن قصوى غاية المسيحية وأهم أغراضها ليس هو توفير الملذات في هذه الحياة الدنيا وإنما هو ترشيح أهلها لاستجلاب النعيم في الآخرة. فالمسيحية ترمي إلى غاية وراء هذه الحياة القصيرة الفانية وتتجاوز ببصرها هذا الحلم الطائف إلى موطن السعادة الأبدية والنجاة السرمدية. فمذهبها من هذه الوجهة مذهب الفضيلة المحضة المطلقة - وهو مذهب لم تعهده أوروبا قبل المسيحية كما قد بينت لك عند المقارنة بين ديانة القدماء ونظامهم الأخلاقي وبين المسيحية ونظامها الأخلاقي.
الفيلسوف - هذا صحيح من الوجهة النظرية فقط ولكن انظر إلى الأعمال والآثار، ألا ترى أن أوروبا القديمة كانت بلا شك أقل قسوة من القرون الوسطى وما ارتكب فيها من إزهاق النفوس بأنكل ضروب التعذيب وبالإحراق بالنيران الحامية. . . . هذا ولا ننسى ما كان عليه القوم القدماء من فضائل الصبر والاحتمال والجلد وشغفهم بالحق والدفاع عن حوزته وحب الأوطان والاستبسال في الذود عن حياضها وتحليهم بصنوف المكارم والمحامد حتى أصبح النظر في آدابهم وآرائهم وفي مذاهبهم وفي أعمالهم وآثارهم يعد من أفضل دراسة الأخلاق والآداب. ثم انظر هل كانت الحروب الدينية والمذابح والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وغيرها من الضيم والاهتضام والاضطهاد واستئصال سكان أمريكا الأصليين وإحلال رقيق الزنوج محلهم - فهذه كلها ثمار المسيحية ولا ترى في سيرة القدماء ما يشبه أدنى شيء من هذا أو يوازيه فأما الرقيق عند القدماء فما كانوا من الرق من شيء وإنما كان ذاك من حيث هذه الدلالة لفظاً بلا معنى واسما بلا مسمى إذ كان أولئك الأرقاء قوماً في رخاء عيشهم وفي سهولة وفي بلهنية وفي رغد قد نعموا بغبطة ألمن والطمأنينة جزاء إخلاصهم ووفائهم لسادتهم فالفرق بينهم وبين أشقياء رقيق الزنوج الذين هم وصمة في وجه الإنسانية ولوثة في عرضها كالفرق بين الفريقين في اللون أما ما يعاب على القدماء من استهانتهم بأمر اللواط وتسامحهم فيه مع أنه إثم ومنكر فهذا شيء يسير جداً في جانب ما عددت لك من فظائع المسيحية - على أن اللواط بعد ليس بالأمر النادر بين أهل العصر الحاضر كما يتوهم البعض.
إذا قارنت بين العهدين من كل الوجوه غير تارك لا صغيرة ولا كبيرة أفلا تزال بعد ذلك تصر على أن بني البشر قد أصبحوا بفضل المسيحية أكرم طبعاً وأرقى خلقاً؟
لها بقية