مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/روح الإسلام
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/روح الإسلام
(لأكبر نصير للإسلام اليوم السيد أمير علي)
(الباب الثالث)
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
- * *
إن ما امتاز به الإسلام من سرعة الانتشار المدهش في أرجاء الأرض لمن أعجب ما رؤى في تاريخ الأديان، فأنا إذا تدبرنا أمر المسيحية وجدنا أنها لبثت حقباً بعد ظهورها وهي تكمن في المغامض والخفايا، وتختبئ في الأنفاق والزوايا. ولم يك إلا بعد ما تشربت في ذاتها مذاهب الوثنية وامتصتها واشتملت وبعد ما قام بأنهاضها ورفع شأنها ملك نصفه وثني ونصفه مسيحي - أقول لم يك إلا بعد هذا وذاك أن استطاعت المسيحية أن ترفع رأسها وتنال مركزها بين سائر أديان هذا العالم أما الإسلام فإنه لم يمضي على وفاة مؤسسه ثلاثون عاماً حتى كان قد أفضى إلى قلوب الملايين من سكان المعمورة وقبل مضي مائة عام كان صوت الأمين ابن الصحراء صلوات الله عليه قد دوى صداه في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا وإن كتائب الفرس والروم وجحافل كسرى وقيصر الذين حاولوا أن يردوا طغيان هذا السيل الجارف ويصدوا طوفان تلك الديمقراطية الجديدة التي نِات في جزيرة العرب لقوا شر هزيمة على أيدي فيالق الأعراب وأعملت فيهم السنة والظبى حتى تمزقوا شذر مذر وطاحوا جباراً بيد أن ما أتيح للإسلام من هذا النجاح الباهر وما خص به من عجيب تأثيره في أذهان الرجال وعظم موقعه في نفوسهم قد كان باعثاً على مزعم فاسد وتهمة كاذبة ألا وهي أن الإسلام دين السيف قد قام بالسيف وزاج بالسيف، ونحن الآن باحثون في عوامل انتشار الإسلام وأسباب شيوعه لنرى هل لهذه التهمة أدنى نصيب من الصحة.
- * *
لما ورد النبي كانت قبيلتا الأوس والخزرج اللتان كانتا قد أقامتا منذ سنين عديدة في حرب عوان مستمرة طحون حُطَمة - وقد وضعنا السلاح عقب حلف كاذب وصلح مموه - إذ كانت شواهد الأحوال تدل على تجدد القتال بأفظع مما كان وأشنع وكان اليهود بعد غارة حبلة قد قبلوا حماية عرب المدينة ثم أخذوا يجددون ما درس من بأسهم وشوكتهم ويستجمعون ما انتشر من أمرهم، وشرعوا يهددون أقرانهم الوثنيين بانتقام المسيح الذين كانوا يزعمون أنه عما قريب سيظهر وأنهم يرتقبون مطلعه من آونة إلى أخرى، وكانت قبائل الأعراب المحيطة الذين كان لقريش عليهم السيطرة التامة قد تألبوا من صوب وجدب على عرب المدينة وتمالأوا عليهم. فما كاد محمد ينزل المدينة حتى بدت للعيان تلك الأخطار المهددة للديانة الجديدة الإسلام - وكان المهاجرون (أعني الصحابة المكبين) أولئك الذين استقبلوا الموت واستهدفوا للمنون من أجل سيدهم وما ابتعث من النور في صدورهم ثم كابدوا من بعد ذلك آلام النفي والاغتراب والحَرب والاستلاب - أولئك كانوا الفئة القليلة يكادون يعدون على الأصابع. هذا شأن المهاجرين، وما كان الأنصار أهل المدينة بأمثل ولا أجزل لقد كانوا لقد كانوا أكثر بلا شك من المهاجرين ولكنهم لم يكونوا بالجم الفقير والعديد المجمهر وكانوا فوق هذا منقسمين بعضهم على بعض تدب بينهم عقارب التحاسد وتسعى بينهم أفاعي التضاغن والتحاقد. وكان في المدينة حزب قوي تحت زعامة رجل. عظيم النفوذ يطمح إلى عرش المدينة وهذا الحزب كان للكفار مؤازر، أضف إلى ذلك أن اليهود وقد اتحدت كلمتهم جعلوا يكيدون لمحمد تارة بالسم وتارة بالدسائس ولكن ذلك القلب الجريء الذي لم يتزعزع حين هددته بالموت قريش بقي ثابتاً متماسكاًُ إذ أصبح يرى حوله شيعة مخلصين لا يجدون لهم ملاذً غيره ولا عصمة سواه.
لذلك نرى محمداً في هذه الأزمة قد ظل يجمع بين تلك العناصر المتنافرة والقوات المتخاذلة المتناكرة التي التفت حوله مؤمنة به وبرسالته فألف منها هيئة موحدة متينة الروابط وثيقة العرى فأقام القضاة المحكمين بين هذا المجتمع بدلاً من السنة الانتقالية الثأرية التي كانت شائعة بين عرب القبائل وكانوا لا يعرفون غيرها. . وقضى عل العصبة القبائلية فمحا بذلك مذهب التفريق بين أوس وخزرج فأصبحنا قبيلة واحدة. وإضافة إلى ذلك اتبع خطة التسامح مع من كان في جمهوريته الجديدة من اليهود والنصارى فوسعهم في مدينته مسوياً بينهم وبين شيعته من اتباع دينه. ونثر بذور المودة والإخاء بين الفئات المختلفة من حملة الكتب السماوية جميعاً. فصرح أن الكل سواء في نظر الخالق إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. لقد صادف محمد أناسيا (أعني العرب) بدينون بأخبث ضروب الوثنية ويعيشون بالغارة والسلب والنهب ويرتاحون بسفك الدماء كأنهم فيهم غريزة وجبلة - فهذب طبائعهم - وطهر نفوسهم وعلمهم الصدق والعفاف والتقوى والحلم والأناة والصبر والعفو والغفران والرحمة والتحاب والمؤخاة، والتواد والمصافاة. فكان يقول لهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنا المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، وهكذا.
وبينما كان محمد يؤدي هذا الواجب الأقدس - يهذب قومه ويغرس فيهم حامد الخصال ومكارم الخلال ويرفعهم من وهدة الخسة وينتاشهم من بؤرة الفساد ويستنقذهم من حمأة الرذيلة ويطهرهم من أدران الخبائث وأدناس الموبقات - أعداؤه - وقلوبهم تغلي مراجلها عليه حقد ونفور مشاعرها عليه بغضاً - يهاجمونه ويحملون عليه أشد الحملات وأنكرها. وكانوا قد أجمعوا قتله واستئصال. وقالوا إن هذا الخارج من ملة آبائه (يعنون محمدا) وهؤلاء المارقين من دين أسلافهم (يعنون أتباع محمد) قد لجأوا إلى المدينة (بلدة اقراننا ومنافسينا) يزرع بها بذور المروق والإفك والضلالة. فحق على جميع الشعوب العربية أن تتضافر وتتناصر على إبادة أولئك الحمقى المجانين الذين هجروا أوطانهم وعقارهم من أجل إله خفي مجهول لا يحس ولا يرى، وكذلك نرى أن محمد منذ دخل الإسلام بدينه أصبحت حياته مرتبطة بحياة قومه وحياة الأنصار الذين دعوهم إلى ديارهم ورحبوا به وأكرموا مثواه فأصبح هلاكه ليس بهلاك فرد ولكنه هلاك كل من التف حوله وانضم تحت لوائه.
وما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدم
فإذا تأملت حالة النبي إذ ذاك يحدق به الأعداء والخونة وتحمل عليه قريش والعرب كلها تؤيدها وترفدها علمت أنه كان هو وعصبته هالكين لا محالة لولا وثوبهم وثبة الضياغم. والليوث الضراغم. وأسياف بأيديهم هي كما قال الشاعر:
صفحتاه عقيقتان من البر_ق ... وفي مضربيه صاعقتان
ولم يك إلا بعد أن دهمتهم قيالق الأعداء أن خاطب النبي رهطه بكلمة الوحي وقاتلوا الذين يقاتلوكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وكذلك أصبح الدفاع في نظر المسلمين هو بمثابة المحافظة على أرواحهم. فليس أمامهم إلا خطتان: إما الاستسلام للقتل والذبح إما الدفاع عن أنفسهم. وقد آثروا الثانية فأفلحوا واستطاعوا بعد طول الجهاد أن يخضعوا أعداءهم.
ثم كان من أمر اليهود بعد ذلك أن حقدهم الشديد على المسلمين ونكثهم العهود والمواثيق المرة بعد الأخرى ودوامهم على إثارة الفتن ودأبهم في السعي إلى إيقاع المسلمين في حبائل كيد الكفار - كل ذلك أدى إلى إنزال العقوبة بهم وسومهم أنكل العذاب. وكان ذلك من النبي ورهطه بمثابة دفاع الضعيف عن نفسه وعلى سبيل الإنذار والتحذير وليس من باب الانتقام والتفشي.
- * *
وليس لمعترض أن يقول أن محمداً كان من الواجب عليه أن يكون كبعض من ظهروا في هذا العالم من آن إلى آخر من أرباب المذهب ومؤسسي العقائد ممن آثروا أن يذعنوا لقوة الظروف والعوامل المعاكسة فيقنعوا بإرسال القول دون تنفيذه وبتشييد عوالم الخير والصلاح في مخيلاتهم حيث تظل ضرباً من الأحلام والمنى لا تخرج من حيز الوهم والتأميل إلى حيز التحقيق والعمل. ويرضون أن يؤول أمرهم إلى التضحية والاستشهاد وتختم حياتهم على المشنقة أو على المقصلة أو هلاكاً في النار. أو الأسار. فيكون كل ما صنعوه هو أن يخرج أحدهم من الدنيا بأحلام لم تحقق وميتة بالسيف أو بالنار تكسبه حلية الشهيد أو التضحية - نقول ليس لمعترض أن يعيب على محمد أنه لم يكن من أمثال هؤلاء ولم يرض لنفسه مثل هذه السيرة ولم يقتنع بمثل هذا العمل - إن صح أن نسميه عملاً - وليس لمعترض أن يقول أنه قد كان من الواجب على النبي أن يخرج إلى الدنيا ثم يخرج عنها دون أن ينفذ مهمته ويبلغ غايته. وما كان لعاقل أن يقول أن ظهور أمثال ما ذكرنا في هذه الدنيا يوجب على محمد أن يحذو حذوهم فيضحى نفسه وجميع شيعته وأتباعه تأييداً لما نسميه في عصرنا هذا فكرة.
دعنا نقارن بين جهاد المسلمين في سبيل الدفاع عن أنفسهم وحفظ أراوحهم بما جاءته اليهود والنصارى بل بما جاءته أمة الفرس المهذبة الرقيقة من الحروب الفظيعة لنشر عقائدهم وأديانهم. فأما اليهود فقد كان الاعتداء والسطو والاستئصال والإبادة مما تحلله وتجض عليهم شريعتهم بل كان حقن الدماء واستبقاء العدو مما يستوجب لعنة الله في عقيدتهم.
وأما أهل الصدر الأول من المسيحية فسرعان ما نسوا وأهملوا ما كان أوصى به المسيح من فضائل التواضع والخشوع والحلم والوداعة حينما اشتد بأسهم وقويت شوكتهم. فما كادت المسيحية تصير الدين الشائع لطائفة من الناس حتى استشعرت خلال الحيف والجور والاضطهاد. ولقد قارن كثير من المؤرخين بين عيسى ومحمد - فمن كان منهم مقتنعاً بألوهية عيسى ذهب إلى أن الوسائل الدنيوية التي استخدمها محمد لإصلاح أمته لم تكن إلا (وحياً شيطانيا) وأن انصراف عيسى عن هذه الوسائل (ولعل ذلك كان لعدم سنوح الفرصة ومساعدة الظروف) من أوضح الدلالة على ألوهية عيسى، وسندلي بالحجج والبراهين الدالة على سخف هذا الكلام وبطلانه وما فيه من البعد عن جادة الصواب والجنف عن محجة السداد وإنه كذب على التاريخ وافتراء، بل مناقض للطبيعة البشرية.
لقد كان ثمت بون شاسع بين الظروف والأحوال التي عاش فيها محمد والتي عاش فيها المسيح. كان نفوذ عيسى أثناء مدة زعامته القصيرة مقصوراً على فئة قليلة من أتباعه كلهم من طبقة العوام الوضيعة. ولقد ذهب عيسى ضحية ما أثار من الحنق على نفسه بمطاعنه من أكاذيب الطبقة الدينية في عصره - ضحية بغضاء أمة عنيدة قاسية - وذلك قبل أن يصبح لأتباعه من كثرة العدد وقوة النفوذ ما يدعو إلى وضع القوانين العملية للسير عليها والاهتداء بها في مسالك الحياة - وقبل أن يؤسسوا نظاماً لنشر تعاليمهم الدينية أو الاتقاء سطوات أهل الدين الشائع يومذاك. وذلك أن أتباع عيسى لما كانوا قد انشعبوا من أمة عظيمة الشأن ذات قوانين ثابتة موطدة تقوم بتنفيذها حكومة قوية - فقد أعوزتهم لذلك الفرصة لتأسيس نظام، وكذلك الأستاذ الزعيم عيسى لم يجد ثمت داعياً لوضع القوانين العملية الأخلاقية. زلكن القوم أحسوا بهذه الحاجة حينما عظم شأنهم وكثر عددهم، ثم ظهر رجل عبقري متضلع من كنوز الحكمة الأفلاطونية الجديدة فألف هذه النابغة من الأصول والقوانين والآداب نظاماً محا ماامتازت به تعاليم المسيح من البساطة وسائر الخصائص التي انفردت بها تلك التعاليم.
وقد ابتلى محمد - كالمسيح - منذ أول مرة بمناوأة قومه إياه ومكافحتهم له. وكان أتباعه بادىء ذي بدء كأتباع عيسى صغر شأن وقلة عدد. وكان محمد قد أشبه المسيح أيضاً من حيث أنه قد جاء قبله رجال قد طرحوا عنهم قيود الوثنية وأصغوا إلى نجوى الحقيقة المطلقة في أعماق صدورهم. وأشبه المسيح أيضاً من حيث أنه كان يحث على الحلم والوداعة والبر والمعروف والتألف والتآخي.
ولكن محمد ظهر بين أمة منغمسة في العادات الوحشية والتقاليد الهمجية كانت ترى أن الحرب هو المقصد الوحيد في الحياة - أمة كانت بمعزل عن العوامل المادية الخسيسة الشائعة إذ ذاك بين أمتي اليونان والرومان ولكنها كانت كذلك بمعزل عن عوامل المدنية التي كانت فاشية بين تينك الأمتين. ففي أول الأمر أثارت تصريحات النبي احتقار الأعراب ثم هيجت بعد ذلك سورة غضبهم وانتقامهم. على أن أتباعه جعلوا مع ذلك يزدادون في العدد والعدد حتى جاءته دعوت الأنصار إلى المدينة فتوجت بالنجاح أعماله. ومنذ قبل هذه الدعوة بهذا الملاذ الكريم - منذ دعته الأنصار إلى أن يكون مشرعهم الأكبر وقاضيهم الأعظم وأستاذهم الروحاني أصبح حظه بحظهم مقروناً. ومستقبله بمستقبلهم مرهوناً. منذ تلك الساعة أصبح المسلمون مضطرين إلى إقامة الأرصاد على الوثنيين وأشياعهم وغدامة اليقظة والرقابة على حركاتهم وتدابيرهم وعلى أغراضهم ونواياهم. وكذلك نرى أن بلدة واحدة اضطرت إلى القيام في وجه الأعراب بأسرهم ونهضت لصد هجمات القبائل العديدة التي كانت تسكن جزيرة العرب - فهذه الظروف ألجأت حضنة الإسلام في الأحايين الكثيرة إلى اتخاذ أشد التدابير للمحافظة على كيانهم. ولا غرو فإنه إذا خابت وسائل الحث والإغراء لم يبق سوى طرق الإكراه والضغط.
وهكذا يتضح لنا أن غريزة المحافظة على النفس التي أوحت إلى نبي النصرانية عيسى أن يشير إلى أتباعه باتخاذ آلات الدفاع عن أنفسهم هي التي ألهمت المسلمين في زمن محنتهم إلى شهر السلاح عندما ألح عليهم أعداؤهم ذووا البطش والصولة.
وكذلك استطاع محمد بطرق اللين تارة وبالهمة الصارمة أخرى أن يؤلف أشتات الأمة العربية ويضم نافر تلك العناصر المتناكرة تحت لواء الدين السديد. وفي ظل كلمة التوحيد وإذ ذاك ساد السلام في أنحاء البلاد. ورفرفت أجنحة الأمن والطمأنينة على رؤوس العباد.
لقد ظهر محمد في أمة كانت - كما لا تزال نراها - أشد الأمم نارية وأسرعهم بطشاً وفتكاً تنطوي صدورهم على مثل شمسهم المحرقة شهوات وأهواء - فلطف سورة أعدائهم. وسكن ثورة طغيانهم. ورد جماح عسفهم. وكف عرام عنفهم. وأشعر قلوبهم الرفق والحلم والتقوى وأورثهم فضائل الورع والزهد وإنكار الذات. وهجرة اللذات - مما لم يشهد التاريخ مثله. ولم يعهد العالم نظيره وشكله.
لهذا الفصل بقيةٍ