مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/انقباض النفس
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 53/انقباض النفس
للشاعر النفساني الروحاني كلوردج
نقلها إلى العربية الكاتب الشاعر عبد الرحمن أفندي صدقي
حزن من غير ما ألم، أجوف موحش معتم. حزن مكظوم نعسان هادئ لا يجد له مخرجاً أو مفرّجاً في كلمة أو زفرة أو غيره - بلى سيدتي في هذه الحال من الكمد والخمود استغوتني أغاريد طائر صداح إلى الاسترسال في التأملات فكنت طوال هذا المساء المتأرج الساجي أرمق الأفق الغربي وصبغته الوارسة
وقد رنقت شمس الأصيل ونفضت ... على الأفق الغربي ورسا مذ عذها
وما زالت أرمق - ولكن بأيما عين غافلة وألحاظ جوفاء - وسوارى المزن فوقي شفيفة متفتقة قد تنصلت عن ظاهر سريانها وخيلت أنه لهاتيك الكواكب والدراري اللآئي يمرقن خلفها أو ما بينها. آونة متلالئات وأخرى معتمات ولكن على الحالين مستبينات للعيان. وذياك الهلاك مستقر كأنما قد ترعرع ونما في بحيرة له ولازوردية لا تعرف دراريا ولا مزنا. أرى كل هذه المشاهد حسانة فاخرة أرى ولكن لا أشعركم هي أنيقة حلواء.
(3)
حال سالف ابتهاجي إلى كآبة وانقباض. وإني لهذه المشاهد أن ترفع الوقر المزهق عن صدري فعبثاً أحاول الترفيه ولو رمقت إلى الأبد هذه الأضواء الوارسة التي تتلكأ في المغرب إذ لا أمل أن أستمد من المظاهر الخارجية حرارة وحياة ينابيهعما باطنية.
(4)
بلى يا سيدتي إنما نسترد ما أعرناه وإن حياتنا وحدها تحيا الطبيعة وحياتنا وحدها تسربلها إما في رياط عرس أو لفائف كفن فإذا شئنا أن نعاين شيئاً أسمى قيمة مما تخوله هذه الدنيا الميتة الباردة لهذا الملأ التعس اللازب القلق الخامد الحب فعلى النفس وحدها أن ينبجس عنها ضوء بهاء، رباب ضحيان أغر يشمل الأرض - وعلى النفس وحدها أن تنخمضعن صوت حلو جهوري من نتاجها وهو من كل الأنغام الحياة والعنصر.
(5)
آه أيتها النقية القلب لا أظن بك حاجة أن تستفسري مني وتتساءلي ما تكون هذه الموسيقى الفعالة النفسية، ما تكون وأين توجد، وهذا الضوء، هذا البهاء، هذا الرباب الضحيان الأغر، هذه القوة الجميلة المجملة - الابتهاج يا سيدتي الفاضلة، الابتهاج الذي لم يسوغه أبداً إلا الاتقياء وحدهم وفي أتقى ساعة لهم، وهو الحياة وعصير الحياة، رباب وشؤبوب في آن. الابتهاج يا سيدتي هو الروح والقوة تهبنا إياه الطبيعة صداق زفافها علينا. هو أرض جديدة وسماء جديدة لم يحلم بها الفاسق ولا الأصعر الصليف - الابتهاج هو الصوت الحلو، الابتهاج الابتهاج هو الرباب الضحيان - وإنا لنبتهج في داخل أنفسنا ومن تلقاء أنفسنا، ومنها يتدفق كل مايفتن بعدها السمع منا والبصر فكل الأنغام أصداء لذياك الصوت وكل الألوان سطوع وانتشار لذياك الضوء.
(6)
ولقد جازت بي - على الرغم من خشونة السنن - حقيبة من الدهر كان فيها ابتهاجي هذا يداعب كل ملمة وضيق، ولم تكن الرزايا كلها إلا بمثابة مادة يصوغ لي منها الخيال أحلام سعادة، لأنة الأمل إذ ذاك كان يزكو حولي كالكرم المؤتشبة أفنانه، وكانت الثمار والأوراق التي تخص غيري كأنما تختصني. وأما الآن فالنكبات تقوس إلى الرغام كاهلي ولو أنها اقتصرت على استلاب تهللي ومرحي ما حفلت بها ولا اكترثت لها لكنها - وأبؤس نفسي - في كل زيارة تعطل ما أودعته في الطبيعة منذ ميلادي من روح الخيال الفاطر فلا اعني اليوم بما يجب أن يخامر إحساسي ويستولي على مشاعري بل الاستسلام والصبر كل مقدروي ولقد رأيت أن أنصرف إلى أبحاث الفلسفة الجافة العويصة عسى استل من فطرتي كل الرجل الفطري، وكانت هذه خطتي التي أترسم وحيلتي التي إليها أركن فإذا بالذي يناسب الجزء يعدي الكل حتى لصار الآن ديدن نفسي.
(7)
إليك عني يا أفاعي الهواجس التي تلتف حول عقلي، يا رؤيا الحقيقة المعتمة. بي أتحول عنك منصتاً إلى الريح التي طال في الخارج هذيانها دون أن تسترعي إليها انتباهي. فيالها من صرخة نزع هائلة نبهني بها مزهرها وكأنما مدفيها التعذيب. ولكن، أيتها الريح الهاذية الهاذرة ألا ترين أن الجلمد العاري والغدير في قنة الطود والشجرة المسفوعة وحرج الصنوبر السحوق الذي لم يبلغ إليه تسلق حطاب، والدار المنعزلة اتخذتها الساحرات مثوى من قديم: كل هاتيك ألا ترينها كانت معازف أصلح لك أنت أيتها العازفة المعتوهة التي اسمعها في هذا الشهر، شهر الشآبيب المنهلة والخمائل والأزاهر الموصوصة - أسمعها تحتفل بعيد الشيطان منشدة أسوأ من نشيد الشتاء، خلال النوار والبراعم والأوراق المرتجفة. أنت أيتها الممثلة المبرزة في كل أصوات المأساة. أنت أيتها الشاعرة القديرة المتحمسة إلى حد الجنون! عما تحدثين تحدثين عن هرب الجيش المهزوم بما فيه من تأوهات المدعوسين والمثخنين بالجراح - في آن واحد يتأوهون من مضض الكلوم ومن كلب البرد. ولكن انصت - هذه فترة سكون عميق! وكل هذه الجلبة التي كانت كأنها لملأ هارب بما فيه من تأوهات وارتعاد مقضقض - كل هذا انقضى فإنها تقص الآن أسطورة أخرى بأصوات أقل عمقاً وأخفت جرساً، والأسطورة أقل رعباً من سابقتها مشوبة من بهجة التصوير بما يطأ من من هو لها، كالتي صورها الشاعر (اتواي) نفسه من أنشودته الرقيقة فهي أسطورة طفلة صغيرة في مجهل منعزل لا يبعد عن السكن ولكنها ضلت طريقها فآونة تئن في خفوت من لأسى المر والفرق الأخرى ترفع عقيرتها بالصياح في أمل أن تسمع أمها.
(8)
انتصف الليل ولكن قل أن مر في خاطري خاطر اليوم. وأني لأسأل الله لخلّي أن ينر احياؤها نظائر هذه السهرات. فلتطرقها أيها الكرى المدمث المترفق ولترف عليها بأجنحة شفاء وعافية. ولتكن هذه العاصفة على حد المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة، ولتتدل الدراري كلها مؤتلفة على سكنها، مستقرة شاخصة كأنها تسهر على حراسة الأرض النائمة. ولتنتبه خلّتي وقلبها الممراح الطروب وتصوراتها الزاهية المبرقشة وعيونها الطافطة بالبشر، وليسبح الابتهاج بروحها إلى فراديسه العليا، وليدوزن الابتهاج صوتها طبق أنغامه الحلوة ونبراته المستعذبة ولنحي لأجلها كل الأشياء قاطبة من قطب إلى قطب إذ حياتهن مجال تدويم لروحها الحية. إيه أيتها الروح الناصعة الطويلة التي ترشدها السماء وتهدى خطواتها الفانية المعبودة. يا أروع خلة اصطفيت أسأل الله أن تغتبطي وتطربي دواماً وإلى أبد الآبدين.