مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/مستقبل العالم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/مستقبل العالم
مقال للفيلسوف الألماني ماكس نوردو يتنبأ فيه عماذا عسى يكون مستقبل الأمم نشرناه على علاته دون نقد أو تعليق.
على لوح الغيب وصحيفة المجهول أنقش بريشة الحدس والتخمين قصة المستقبل فإني كلما أرسلت الطرف في ذلك اللوح فألفيت فراغاً واسع الأنحاء صبوت إلى التكهن واهتز القلم في يدي وولعاً بأن يسطر في إحدى زوايا اللوح ما يوحي إليه التصور عن مستقبل العالم.
سترى الأجيال القادمة حل مشكلة القومية إذ تختفي الأمم الصغيرة الضعيفة وأقصد باختفائها أنها تفقد لغاتها الخاصة وشخصياتها كما حدث لأمة الفندال في لوزاتيا وميكلنبرج ولأمة الكلت في ويلز وبريتاني وسكوتلاندة. فيما سلف وستنضم الشعوب المتجانسة لتؤلف أمة فردة كبرى كما فعلت جرمانيا العليا والدنيا وكما فعل سكان بروفانس والفرنس الشماليون وكما فعل السلاف تحت قيادة الروس وكما شرعت تفعل اسكاندنيفيا وسوف نرى طوائف المهاجرين من أبناء الأمم العظمى إما هالكين وأما بمعونة دولهم متغلبين على أهالي المستعمرات فسائدين ثم ملحقين ببلادهم ما أحرزوا وما كسبوا. وسينجم عن هذا التزاحم العام وعن هذا التواثب والتكالب تشوش بين الأمم يلبث حيناً ثم ينجلي عن أقوى الأمم - وهي بضع قلائل - كاملة البنيان محكمة العقدة. وهكذا ينقص عدد الممالك في أوروبا إلى أربع أو خمس ولكنها دول ضخام كل واحدة منها ربة بيتها وسيدة منزلها قد نبذت أو امتصت جميع العناصر الأجنبية والمكدرة فهي لا تمد الطرف إلى ما لاصقها من الدول إلا بإشرافه الصديق الملاطف أو الجار المحادث. أما الحكم في فناء ما سوف يفنى من الشعوب بعد المعركة الكبرى وفي تاء ما سوف يبقى فليس إلى البرلمانات مرجعه ولا إلى كفاءات الأفراد من ساسة ولا إلى تقصير أو بلاغة أو عجز أو كياسة من أحد قادة الأفكار وزعماء الرأي بل قوة الشعب الحيوية الفطرية البادية في شتى صورها ومظاهرها كشدة الأبدان وقوة التناسل والتفوق في ميادين القتال والسبق في مضامير العلوم والفنون والآداب والنعرة القومية والحمية العصبية. ولست ممن يرى أن كثرة عدد الأمة أو قلته نتيجة الاتفاق والصدفة بل أرى أن مجموع أفراد الأمة هو في عالم الحيوان أحد الخواص الجوهرية - أحد مميزات الأمة. فزوال أمة الكلت من كافة أنحاء بريطانيا العظمى. وقصور أمة اليونان عن مجاوزة بضعة ملايين من الأنفس. وبقاء الألبانييين والباسك والمجر شعوباً صغيرة ليس له سبب سوى عجز هذه الشعوب عن بلوغ منزلة الأمم العظمى. لقد كان عدد الأمة الانكليزية في عهد الفرد إلا كبر مليونين من الأنفس ولعل سكان اسكاندينفيا في هذا العهد كانوا لا يتجاوزون هذا العدد. فاليوم قد بلغ سكان انكلترا أربعة وثلاثين مليوناً على حين أن جميع سكان اسكاندنيفيا لا يعدون ثمانية ملايين. ولا يمكن أن تكون الأحوال الجوية وطبيعية الأرض هي سبب هذا البون البعيد. بدليل أنه ليس هنالك فرق أساس في الجو والتربة بين انكلترا من جهة وبين الدنيمارك وجنوب النروج والأسويج من جهة أخرى. أضف إلى ذلك أن الانكليز لم يحصروا أنفسهم في جزيرتهم ولكنهم فاض فائضهم على وجه المعمور وعمر طوفان قوتهم الجم العديد من أرجاء الدنيا فاستعمروا من العالم أضخم جزئيه، وأجزل شطريه، وكذلك ليس إلى عوامل الجو والتربة مرجع هذه الحقيقة وهي أن في أوائل القرن التاسع كان عدد سكان فرنسا اثنين وعشرين مليوناً وهو الآن ثمانين وثلاثيون مليوناً إلى تسعة وأربعين مليوناً. فالفرنسيس أكرم تربة وأحسن جواً وأوسع متقلباً. ولكنهم قصروا مع ذلك عن مساواة الألمان في كثافة العدد. وعلى ذلك فمسألة العد راجعة إلى ظاهرة جوهرية وخاصة فسيولوجية متأصلة في الأمة من مبدأ أمرها وهذه الخاصة وأن أثرت فيها عوامل الدم الدخيل والأحوال المعاشية السيئة تأثير تبديل أو فساد إلا أنها تستعيدت مع صلاح الأحوال قوتها وتؤدي في النهاية إلى هذه النتيجة التاريخية المحتمة وهي أن إحدى الأمم تنتشر في مساحة فسيحة من الأرض وتزداد على ممر القرون عدة وعدة إلى أن تحكم القارات العظيمة بحذافيرها على حين أن قرائتها ولداتها في الصبا اللواتي لم تك تفضلين بادئ بدء يصبحن قد تبلدن وراءها ونكان ونيا ووهنا وفتوراً ثم لا يزال في تناقص وتضاؤل حتى يعدن خيالات لما كن من قبل أو يمتن فينقرضن البتة.
وكذلك يؤول الأمر إلى قارة أوربية خلاف أوربا الحالية - قارة أوربية قد وفقت إلى التوازن الداخلي الصحيح، وشعوبها القليلة الباقية قد بلغت من القوة والوحدة والمساحة أقصى ما يستطاع بلوغه ببذل غاية مجهود قواها الحيوية. حينئذ ترى إحدى الدول الأوربية تحترم الأخرى وتعدها ظاهرها مخلدة من الظواهر الطبيعية التي لا يعروها تغير ولا تبدل فهي أبدية سرمدية. حينئذ نعد الحدود بين الممالك أشياء ثابتة كالحد بين اليابس والماء. ولا يفكر روسي في غزو جرمانيا أو جرماني في دخول إيطاليا إلا إذا فكر عصفور في أن يعيش تحت الماء أو فكر حوت في الإقامة على رأس جبل، حينئذ تتوجه كل أمة إلى إصلاح شؤون معاشها وتحسين أحوال بقائها وإزالة كل عقبة تعترض في سبيل استرسال الفرد في جميع مناحي الرقي وبلوغه أقصى الغايات في كافة أغراض الحياة وتمنع من إدراك أسمى منازل الخير والسعادة للفرد والجماعة. ثم تتوسل أخيراً سواء بطريق الرقي السلمي التدريجي أو بالثورات العنيفة إلى أن تشيد من النظامات الحكومية والاجتماعية وتنشئ من نواميس المسائل والشوؤن المعاشية ما يعد في رأيها أو في رأي أغلبيتها أنه الأصلح. فالتوسع العظيم في استخدام قوى الطبيعة (الكهرباء والبخار والماء الخ) واختراع الآلات العجيبة يمكن الأمة من الاستغناء عن تسعة أعشار العمال المشتغلين الآن في المصانع فبفضل النظام الاجتماعي المؤسس على الشركات المسؤولة تتحول طوائف عما المصنوعات إلى طوائف لاستهلاك هذه المصنوعات أعني أن طوائف الصناع وأرباب المصانع الصغرى تخلو أيديهم من العمل بتعطل وظائفهم لمزاحمة الشركات إياهم فيصبحون هم الذين تعمل لهم المصنوعات ليستهلكوها بعد أن كانوا هم أرباب المعامل والعمال. وبناء على ذلك فإنهم يرجعون إلى المزارع والحقول ليستدروا بالفاس والمحراث أقوات الأمة من أخلاف الثري ويستمحنوا الطبيعة رزق اليوم فالغد والأمة في أثناء كل ذلك لا تزال ترقى وتكثر فتزدحم الناس وتكثف وتحتشد ويضيق مجال الفرد ويقل نصيبه من مساحة البلاد ويزداد معترك الحياة حرجاً وضنكاً ويشتد الكد والكدح فترتقي وسائل الزراعة وتربية الأنعام وتستحيل البلاقع القفار جنات ناضرة والأنهار والبحيرات صهاريج للسمك وتخرج الأرض من مكنون خيراتها ما لم يكن في الحسبان. ولا خطر في حلم وسنان. غير أنه كما قبل في الأمثال لكل سائلة قرار ولكل راكض غاية ولا بد أن تجيء ساعة يبلغ الفلاح منتهي مجهوده من الكد وتبلغ الأرض أقصى طاقتها من الجزاء والمكافأة وهنا تقوم مسألة التموين في وجه الأمة كشبح عفريت أو خيال جان - من أين يجلب القوت لأمة تكاثف على الإصلاح والرقي عددها وطالت بفضل تقدم العلوم والفنون أعمارها؟ كيف يرزق أولئك الجموع المحتشدة من صغار يحملون عنوان النجابة والفلاح وكبار يجودون بثمرة الفوز والنجاح؟ لقد أصبح من ضروب المحال أن تتعدى الأمة حدودها فتفيض في سلام على جاراتها وذلك لأن الحال واحدة جميع أوربا ومشكلة إحدى الأمم هي عين مشكلة جارتها. وكذلك استعمال القوة لا يجدي ولا يفيد. إذ أن المدنية تكون قد ارتفعت في جميع الأرجاء إلى مستوى واحد وقد تشابهت العادات والنظامات. والمواصلات السهلة الرخيصة الجمة قد عقدت بين الشعوب للألفة والصداقة ألف ألف آصرة وعروة. حتى لقد يعن من أكبر الجرائم مد الأيدي إلى الأملاك الأجنبية - بل هو فضلاً عما فيه من الإجرام يرى ضروباً من المخاطرة الحمقاء والمجازفة الخرقاء. وذلك لاشتمال كافة الدول الأوربية على عين الأسلحة الفتاكة المبيدة وعين أساليب الدفاع والقتال، فإذا اشتبكت أمة مع أخرى في ساحة الوغى لتسلبها جزأ من أرضها فمعنى هذا أن الأمة المذكورة إنما تقدم فضلة أبنائها جزراً لحد الحسام وطعمة الفوهة المدفع وقرباناً لإله الحرب، وفضلاً عن ذلك فلن يكون ثمة بين الشعوب عداوة جنسية لأن استواء الأمم في التفقه والتأدب ودوام تبادلهم الأفكار والآراء يريهم أنهم أفراد أسرة واحدة، فكما أن إحدى المقاطعات من فرنسا أو انكلترا لا يخطر ببالها أن تشن الغارة على إحدى جاراتها من المقاطعات لتطرد أهلها وتستولي على أرضهم كذلك لا يخطر قط ببال أمة أوربية في المستقبل أن تفعل مثل هذا بإحدى جاراتها.
إذن فماذا يصنع لحل مشكلة التموين؟ هنا يتقدم إلى حل العضلة قانون معروف من قوانين الطبيعة، وذلك أن فضلة أهالي أوربا تفيض من القارة الأوربية في الاتجاه الذي هو أدنى مقاومة من غيره أعني تلقاء الأمم الملونة السوداء والصفراء والحمراء، وهؤلاء بحكم الضرورة يقضي عليهم بإخلاء أماكنهم للأمم البيض ثم يعقب ذلك اضمحلالهم فانقراضهم، فإن استواء طبقة الحضارة والمدنية الذي بفضله ترى الأمم الأوربية متشابهة متماثلة لن يوجد بين هؤلاء وبين الشعوب الملونة، فاستعمال القوة العديم الفائدة في أوربا يأتي بأجزل الفائدة وأسرعها في أراضي الأمم الحمراء والسوداء والصفراء، فينزل الأوربي بهذه الأقاليم في المنطقة المعتدلة التي هي أصلح المناطق له وأليقها به، ثم لا ينزل وراءها أبعد مما تضطره إليه الحاجة، فأول ما يستعمر أمريكا الشمالية واستراليا ثم جنوبي أمريكا وأفريقيا فيما يلي المنطقة الحارة، وبعد ذلك يستولي على ساحل بحر الروم الجنوبي وينفذ إلى الترب الكريمة من آسيا، فيحاول الأهالي المقاومة أولاً مثل يرون أن لا حيلة سوى الهرب، فيتقهقرون أمام الجنس الأبيض آخذين ثأرهم من أرباب الأراضي الذين هم أضعف حولاً وأوهن صولاً، يلقونهم بمثل ما لقوا من البيض المستعمرين، إلا أن أوربا لا تزال تنتج في كل جيل فضلة من الخلق المهاجرين فيرتفع بسبب الفيض الجديد عباب الاستعمار في بحاره، وتسمو عقب اليسل الأخير غوارب ذاك الزاخر الخضم في تياره، فيندفع متدفقاً في الأقاليم الحارة من أقطار الأمم الملونة مقترباً من خط الاستواء، وكذلك لا تلبث هذه الأمم أن تهلك فتفنى، على أن اندفاع الرجل الأبيض بعامل الجوع إلى خوض أحشاء الأقاليم الحارة واصطلاء جمرة القيظ في بقاع خط الاستواء ونزوله تلعات منابع الكونغو وضفاف الأمازون والجانج وهلاك الرجل الأخير من همج تلك الأحراج والأدغال تحت وطأة الأبيض ربما لا يكون إلا بعد مضي آلاف من السنين على أنه مهما تأخر أمر لا بد منه.
أفبعد ذلك تثبت الدنيا على حال لا تتغير؟ أيقف نمو الإنسانية وارتقاؤها؟ كلا إن تاريخ الدنيا دائم السير والحركة، وهو يجري متغلغلاً في ظلمات المجهول وغياهب الغيب، بل سيستمر الجنس الأبيض بعد وراثته الأرض واستئثاره بالدنيا على الرقي والنماء في أوطانه الأصلية بأوربا وفي المنطقة المعتدلة من سائر قارات الكرة، وسيتمادى في الازدياد والتكاثر ولا يزال يخرج له نسل يبتغي تحت ظل السماء مقيلاً، وفي مذاهب الأرض سبيلاً، وعلى خوان خيرات الله موضعاً، ولدى منهل اللذات مشرعاً ومكرعاً فعلى ممر العصور لا تزال تنشأ هنالك ضرورة الهجرة عن الأوطان وانسلاخ بعض الشعب والفروع عن أصولها، غير أن في هذا الحين لا يبقى على أديم الأرض شعوب منحطة يسهل اقتلاعها وإبادتها ويكون افناؤها غير مشفوع بالألم الحاد الذي لا بد أن يصحب اعتداء الرجل على أخ وصديق، فحيثما حللت من الأرض وجدت صوراً واحدة وأشكالاً واحدة، وفي كل بقعة لغات بعينها وآراء بعينها، وأخلاقاً متماثلة، وعادات متشاكلة، وفي كل مؤطئ قدم قام رجل من الأمم البيضاء فسجل على الثرى حق الملكية بأخاديد المحراث المشرفة وحفائر الفاس المقدسة فأين يذهب المهاجرون؟ وماذا تصنع المقادير بباقي السكان في أقدم مواطن الحضارة؟ أقول أنه لا يزال هنالك قانون فعال طبيعي يتقدم لتفريج هذه الغمة وتنفيس تلك الكربة، ذلك أن ذرية الجنس الأبيض التي نزلت عند خط الاستواء أو قرابه يعروها الانحطاط في هذه الأصقاع الحارة فما هي إلا بعضة أجيال حتى تراهم أمة دنيئة ونوعاً سافلاً ينزلون من إخوانهم الساكني البقاع المعتدلة منزلة الزنجي أو الأحمر من الأبيض، وهذه حقيقة لا ريب فيها فإن أوفر الشعوب البيضاء رجولة وأعظمهم فروسية ينالهم الاضمحلال في البلاد الحارة في ظرف أجيال قليلة فإذا هم لم ينقرضوا البتة بعوامل العقم والمرض فإنهم على كل حال يصبحون من الضعف والبلادة والجبن والغباوة بحيث لا نخالهم إلا خيالات لآبائهم وأجدادهم، كذلك مآل أولئك الفاندال الأقوياء الجسام الذين غزوا قرطاجنة رجالاً ضخاماً فلم يك قرن أو زهاؤه حتى أخرجهم البيزانطيون الأدنياء من تلك الديار نعاجاً وأنعاماً.
وهذه العملية بعينها تشاهد حتى اليوم في الأقاليم الحارة التي يستعمرها الجنس الأبيض، فلقد ذكر أحد الاختصاصيين أن عدد الزيجات التي وقعت بين ذكران وإناث من الجنس الأبيض في مستعمرة غينينا الفرنسية فيما بين 1859 و1882 هو أربعمائة وثمان عشرة فمئتان وخمس عشرة من هذه بقيت عقيمة، والمائتان والثلاثة الباقية أنتجت أربعمائة وثلاثة أطفال.
ومن هذا النسل أربعة وعشرون ولدوا أمواتاً، ومائة وثلاثون وثمانية هلكوا فيما بين عامي 1861 و1882 على أعمار متفاوتة، وعلى ذلك فإن مائة وواحد وأربعين ولداً هم جميع ذرية طائفة أوربية من المتزوجين عددها ثمانمائة وستة وثلاثون في مدة ثلاثة وعشرين عاماً، وما أفسدها مع ذلك ذرية، وما أحطها سلالة، وماذا عسى أن تقول عن نسل قصار دمام ضعاف عجاف صغار الهام، ضئال الأجسام، خلا عدة غير ذلك من النقائص والمعايب، والمساب والمثالب.
وهكذا نرى أن نازلي الأقاليم الحارة عرضة للانحطاط والتقهقر فلا يزالون يسلبون محامد السلف الصالح حتى لا يبقى لهم من آبائهم إلا لغة فاسدة وزهو بالنسب والمحتد فأمثال هؤلاء الضعاف الضئال لا يستوجبون من المهاجرين الأقوياء احتراماً ولا مودة ولا إنصافاً ولا رعياً لحرمة ولا وفاء لذمة.
لذلك لا يلبث هؤلاء الأقوياء الذين قد ضاقت بهم أوطانهم وشحت أرزاقهم وأقواتهم أن ينقضوا على أولئك الأصاغر الأدنياء فيفنونهم ويقوموا مكانهم ليكافحوا من ذلك الجو عدواً مبيناً.
وهكذا تصبح المنطقة الحارة الاستوائية تشغل في تاريخ البشر عين الوظيفة التي تشغلها في الدورة الجوية، فكما أن مياه القطبين الباردة تنحدر تلقاء خط الاستواء وهنالك تتبخر ثم ترد إلى القطبين في هيئة بخار وسحاب، وكما أن هذا التبخر يحدث بالمنطقة الحارة هبوطاً في سطح الماء لابد أن يسد القبطان بسيول جديدة من مياههما الباردة، وكما أن مياه البحار لا تزال هكذا في حركة دائمة والأنواء والأمطار في سائر أنحاء العالم تدبر وتنظم وأقصى بلاد الأرض تمنح الخصب والبركة فكذلك ستفيض في المستقبل فضلات الأقاليم الباردة والمعتدلة إلى المنطقة الحارة وهنالك تهلك فتتبخر ثم يحل محلها السيل الدائم الفيضان.
وهكذا سيكون خط الاستواء مرجلاً شنيعاً يذاب فيه لحم الإنسانية فيبخر، هكذا يقف أهل الأرض فضلة أبنائهم في حلق هذا الفرن المحتدم فيفسحون بذلك مجالاً لنموهم وسعيهم.