مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/جوسلان
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/جوسلان
أو
صفحة من فلسفة الحياة
ما كان الشاعر الذين يستعين بقوة خياله، ويستنزل وحي تصوره، لكي يلقي إليك بصورة مكبرة من عواطف الناس ووجداناتهم، ويطلع عليك بنماذج متخيلة مفتعلة من أخلاق العالم وغرائب طبائعهم، ليبلغ مبلغ الشاعر الذي لا تجد في ديوانه إلا ترجمة حياته، ولا تشتم من قصيده إلا رائحة حقيقته، ولا تقع على قطعة من شعره إلا كنت واقعاً على قطعة من روحه، ولا تقرأ جزاء من كتبه إلا كنت قارئاً جزءاً من تاريخه، وإنك لتتصفح قصائده فكأنما تتصفح أحداث حياتك، حتى لتشعر إذ ذاك أنك إنما تقرأ أفكارك وتشهد مشاعرك، وتحس ساعتذاك أن الشاعر إنما كان يكتب لك وحدك، أو كأنه كان يكتب عنك، وكأنما كنت تملي عليه خواطرك، وتعترف له بمكنونات عواطفك وأنت فلا تجد أمثال هذا الشاعر الصادق إلا قليلين، إذ كان أكثر شعراء الدنيا قوماً ثرثار مالقين كاذبين، يرسلون دواوينهم فلا يظهرون لك إلا أيدياً مرتعشة، وسوقاً مرتجفة، وعيوناً باكية، ووجوهاً كاسفة، وقلوباً دامية، وأنت بين ذلك لا تجد لكل هذه العوارض الشعرية أثراً في نفسك، ولا تحس لها لهيباً في عواطفك، وما أعجب إلا من أولئك الذين يقولون باستجازة الكذب للشعراء، فإن هؤلاء لا يريدون أن يفهموا معنى الجمال، وعندهم أن المرأة المتبذلة في مساحيقها وأدهانها، وكواذب حليها وخوادع يواقيتها تقع من نفوسهم موقع الحسناء الخفرة في أبسط أثوابها وحقائق تقاطيعها، وهؤلاء لا يضيرهم أن يدخل عليهم الشاعر بأكاذيب الحياة كلها، ما دامت في ثوب جميل، وظهارة حلوة، وصيغة مقبولة.
ومن بين شعراء العالم الصادقين المخلصين يقف الشاعر لامارتين فقد وضع كل روحه في أشعاره، واعتصر قلبه فألقى بخلاصته في كتبه وديوانه، فلا تقرأ له من رواية، ولا تستمع له من شعر إلا وجدت قلبه يطفر في خلال سطوره وأجزائه، هذه رواية روفائيل وهذه رواية جرازييلا وهذا كتاب الاعترافات، وهذه قصائده جميعاً وأبياته، لا تحتوي غير وقائع حياته ووصف عواطفه وآلامه ومباهجه وأحزانه، فهي من هذه الناحية كتاب الحياة البشرية كلها، وخلاصة ترجمة عواطف الجنس البشري بأجمعه، إذ كان البحث في تاريخ إ واحد، كما يقول الشاعر بوب هو البحث في تاريخ النوع الإنساني كله.
ونحن نعرب له منذ هذا العدد - بعد أن نقلنا في الأعداد الماضية ثلاث قصائد من أبدع قصائده - رواية جوسلان، وهي قصة شعرية مستفيضة، تجيش بكل معاني الحياة وفلسفتها، وتصف في أبلغ وصف ضؤولة الإنسان وحقارته، إزاء عظمة الأقدار الإلهية وقوتها، وكان الشاعر قد بدأ ينظمها منذ شبيبته، ولم يفرغ منها إلا في أيام كهولته، كان ينظم القطعة منها إذا التهبت فيه حرارة الشعر، ثم يتركها فلا يعاودها إلا في عاصفة أخرى من عواصف شاعريته، وليست رواية (جوسلان) هذه من المخترعات الشعرية ولا من نسيج الخيال، وإنما هي قصة واقعية استمدها الشاعر من تاريخ أسرته، وقد وقعت حوادثها في خلال الثورة الفرنسية، وكان لامارتين ولد قبل نشوب تلك المجزرة بثلاثة أعوام، أما جوسلان بطل الرواية، فهو قسيس من أهل الريف، وقد استمد الشاعر وصف خلق الرجل من قسيس صديق له، يدعي الأب ديمونت، كان من أهل بلدة ميلي، مسقط رأسه، وقد حشد فيها الشاعر كثيراً من ذكرياتها الشخصية، وحوادث حياته، وعواطف قلبه، وعدة من آرائه الفلسفية ومبادئه.
وقد قسم الرواية إلى تسعة أعصر ومقدمة وخاتمة، وجعلها مذكرات كتبها القسيس جوسلان في أيام حياته، ثم وجدت بعد مماته، وسنقتصر في هذا العدد على تعريب المقدمة والعصر الأول، ذاهبين في التعريب إلى شيء من التصرف، وسنوالي تعريب كل عصر منها في كل عدد من الأعداد القادمة حتى تكون قطعة كل عدد منها كأنها موضوع مستقل.
المقدمة
كنت صديقه الوحيد في هذا العالم بعد شائه وغنمه. . فغدوت إليه كعادتي في الكنيسة سعياً على القدم. . أسير صاعداً في طريق ضيقة، أحمل بندقيتي فور منكبي وأقبض في كفي على مقود كلبي، أتسنم متعباً تلك الروابي المشتبكة المتناوحة المتقابلة، مفكراً في تلك البهجة الحلوة التي سأنعم بها عند المغيب، إذ أطرق بابه، وأرقى درج سلمه، وإذ أجلس إلى ناحية من موقدته المشتعلة المتوهجة، وإذ أشهد الغطاء الأبيض الناصع قد أمتع فوق خوانه، وأرى المائدة قد صفت فوقها ألوان الخضر والفاكهة، متأملاً مجلسنا ونحن نتحدث تحت جنح الليل ونسمر، وكأنني أسمع صوته الحنون الرقيق، وجرسه الخفاق الناعم، وأحس كأن قلبه يشير إلى بالتحية، فإن اليد تعين القلب، إذا لم يتكلم اللسان، وعزت الألفاظ والعبارة.
فلما بلغت الرابية التي تشرف على ذؤابة بيته، ألقيت بندقيتي فوق صخرة هنالك غيراء، ووقفت أمسح العرق عن جبيني المبلل الذابل، ثم أرسلت الطرف في ذلك الموضع المنبسط الفسيح، فاندهشت إذا لم ألمح بين أشجار البستان وسرحاته قباءه إلا فحم الأسود، وكنت أعرف أنها الساعة المقدسة عنده، إذ يجلس وحيداً منفرداً في ظلال المغيب يقرأ في كتاب صلواته، وازداد دهشي إذ لم أبصر كعادتي ذوائب دخان ناره تصعد من قمة داره وما أخذ عيني من منزله إلا نافذة دون ضياء الشمس مغلقة، وطيف حزن عميق، وظل كآبة واجمة، فمرت فوق صفحة قلبي رعدة مؤلمة، كما ترتعد صفحة الجدول المتدفق الفضفاض ولكني لم أشأ أن أدع سبيلاً إلى رعبي، بل انطلقت في طريقي، موسع الخطي مسرعاً.
وراحت عيني تبحث عمن تسأله وتستفسر، فلم تر في تلك الحقول المقفرة الصامتة أحداً، لا إلا نعام ولا راعيها، ولم يقع في مسمعي عن كثب إلا صيحة الصراصير، وكنت من قبل أشرف على ضوضاء عظيمة وأصوات جهيرة عالية. . . وهبطت فطرقت الباب. . ولكن لم أسمع جواباً. . حتى كلب الحارس لم يأت على وقع أقدامي ودقاتي علوياً كما كان يفعل نابحاً، فضغطت على القفل بيد قوية غليظة مسرعة، ودخلت الفناء فإذا الدار ساكنة مقفرة،. . كلا، واأسفاه، بل أبصرت عند نهاية السلم المفضية من الفناء إلى صميم الدار، شبحاً أسود جالساً هناك كما يجلس السائل المسكين عند عتبة المعبد، لا يعير حركة، ولا يرفع طرفاً، قد دفن جبينه بين ركبتيه، وأخفى وجهه في وقاء ثوبه لا يخرج أنة لوا عولة ولا رنيناً، بل مشتملاً في ثياب سوداء متجهمة، وهنا قام في نفسي جلال الموت عند رؤيتي هذه الشارة الصامتة الخرساء، فدانيته وإذا بي أرى خادمة صديقي الشيخ تبكي مستعبرة قلت أحقاً ما تقولين يا مارتا، فنهضت على صوتي تمسح عينيها بأطرف أناملها، ثم أجابت نعم، هو الحق يا سيدي، هلا صعدت إليه فأنت مستطيع الساعة أن تراه، وأنا لدافنوه غدا عند مطلع الفجر، إن روحه الحزينة ستروح إلى ربها في هدوء وبهجة إذا أنت ودعتها الآن بآخر ضراعاتك لها وابتهالاتك، ولشد ما تكلم عنك في ساعة احتضاره، وكثر ما ذكرك، وجعل يقول لي، أي مارتا، إذا كان الله أراد أن يتوفاني إليه إذن فانبئيه عني أن صديقه قد ترك له كل متاعه، ليرعاك أن وطيوري وأنعامي وكلبي متاعه. .!. . يا الله. . . وهل كان أكبر فخره إلا أن يبذل كل متاعه، وأن لا يبقي على رفوف خزانته طعاماً ولا رزقاً. . ولقد كانت عنده فضلة من المال فصرفها درهماً بعد درهم في مطعمه وشرابه، وفي وجوه خير وإحسان يعرف الله خبرها. . ومنذ تعثر في علته الكبرى وهو ينفق كل ماله على الناس وحياته يا سيدي وروحه. . وها هو قد ظفر آخر أمره بالموت. . فقلت في أثرها. . . نعم. . . وبالسماء!.
وصعدت سلم البيت
وكانت الحجرة مقفرة خالية مظلمة، وليس فيها إلا شمعتان ضئيلتان، وقد ازدحمت فوق جبين الميت أشعتهما الرهيبة المحزنة وضياء المساء المتورد الذهبي وهو ينفذ من خلال تضاعيف النافذة، وكأنما يتقاتل عليها في عذاب الموت البريء الطاهر، نور الأمل الخالد وظلمة ليل الحياة الفانية. . .
وعثر صديق جوسلان على هدى خادمته مارتا في مخزن الكنيسة ببقايا مذكرات كتبها بقلمه القسيس الراحل، فنظمها ورتبها في الصفحات الآتية، وإن كان يتخللها صفحات بيضاء ضائعة.
العصر الأول
جوسلان الآن في السادسة عشر، وقد أحس في أعماق نفسه ببوادر الحب وطلائعه. . ولكنه لم يلبث أن علم أن أخته ستضطر إلى الامتناع عن الزواج ممن تحب لأن نصيبها من ميراث أبويها لم يكن ليكفل لها مهراً طيباً مقبولاً، وقد اهتاجت هذه الفكرة روح جوسلان، وكبرت في عينه فأجمع على تضحية نفسه ونصيبه من مال أبيه في سبيل هناء أخته. . .
18 مايو سنة 1786
هذا ما قلته اليوم لوالدتي - أماه. . إني أحس كأن الله يدعوني إليه ويستقدمني. . . أن التقوى العظيمة والإيمان الحي العميق، والظمأ الطاهر المقدس، إلى مناعم العالم الأقوم الأبقى، وهي التي اغتذيت منك طفلاً، أدرج في حجرك، وأرتع عند ركبتيك، قد بدأت يا أماه تخرج اليوم ثمرها، وإن كان ثمراً مريراً يا والدتي في فمك. . مريراً لشبيبتي وصبابتي، ولكن ما أعذبه على الروح، وما أسوغه وأبرده. . . أن ظل المعابد يستهويني إليه ويجتذبني، أريد أن أقف لله، وأنا في طراوة العمر، أيامي الآتية الذاهبة الفانية، كما توقف الآنية المطهرة لحياض المذبح، ليس في هذا العالم الأرضي ما يخدعني، وليس في الأرض ما يغريني، إني لا أريد أن أضرب خبائي في هذا الريح الأهوج الفاسد، ولا أريد أن ألطخ قدمي في مناكب الأرض وسيلها، حيث ترتطم القطعان الإنسانية وتنحدر. . . بل أني أؤثر يا أماه أن أنحرف عن منافذ هذه الدنيا فأتبع إذا أسفر الصبح طريقي الساكن الجبلي الموحش القفر، أوثر أن أجلس إلى ظلال جدران الهيكل، وأفياء أبنية المعبد، وأن أخلص بنفسي منذ شبابي الناضر إلى حضرة الله وقربه. . . إني أحس أنني لم أخلق لزحمة هذه الحياة وصراعها، حيث الناس يصرخون على مطالب العيش ويصطخبون ويتقاتلون. . إني أحمل روحاً لا نستطيع أن تقف هنيهة في ساحة هذه الحرب المتوحشة المخيفة، نفساً مفعمة بالحنان، وقلباً لا يدفع إلا نفساً صاعداً راجعاً، إني ولا ريب سأخرج من هذه الحرب قتيلاً، إن رفيقاً رحيماً، وإن متكبراً مزهواً عزيزاً، من النصر أن فائزاً منصوراً، ومن الهزيمة أن منهزماً مدحوراً. . أن العالم يا أماه ليس إلا مقامرة، وليست الحياة إلا مادة هذه المقامرة ولعبتها، وما أنا مستطيع أن أضع شيئاً فوق مائدتها ما أثقل عبء الحياة. . وما أشق رحلتها، وما أغلظ سفرتها وشقتها. . فخير لنا أن نقطعها مخفين من المتاع. . من الأحمال والأوزار، من الهموم والأطماع، ومن روابط الحب، وأواصر الحياة المتفككة الرثيثة الواهنة، من الأولاد والأعقاب، ومن المصائب والويلات والأحزان. . وإذن فأية طريق إلى وجه الله نأخذ، وأية سبيل إلى سمائه نصعد، فنحن إليه يومذاك أقرب وأسبق وإذا نحن توسدنا فراش التراب، واضطجعنا في أحضان القبر، فلا هم يجري في أثرنا، ولا عبرة تراق عند رحيلنا، أواه. . . لا ترفضي يا أماه أنشدك الله توسلاتي، ولا تمنعيني آمالي وأمنياتي، فأنت يوماً، لو تبصرت، مزهوة بتلك اللفظة التي تبدو لك اليوم وداعاً محزناً، وفراقاً شجياً مبكياً، وماذا أنت ترجين من الخير للطفل الذي يتضرع إليك الآن ويبتهل، إلا أن يكون السلام في الأرض مرتعه، والسموات العلي موطنه ومرجعه. . يا للرحمن. . حقير اسم المتعبد. . . وضيع لقب المتزهد!. . . أواه. . . لا تخجلي أماه منه ولا تأنفي فليس في الأرض أنبل منه اسماً، ولا أعز لقباً، إن الله الذي خلقنا وصورنا عرف وحده سر الحياة، ومعنى الأرض، فقسم الحظوظ بين أطفالها وأولادها فخص قوماً منهم بالتربة الخصبة يحرثونها ويفلحونها، وبالحقول يزرعونها ويبذرونها، وآخرين منهم بالبنين يحبون ويعزون، والنساء يعشقون ويتصبون، وهؤلاء وهؤلاء باللذة العاجلة المسرعة يحتسون ويرتشفون، وقوماً غيرهم بالضوضاء العظيمة إذ يخطون فوق الأرض ويخطرون ولكنه قال للقلوب المؤمنة الصابرة المتعذبة لا تأخذي من متاع العاجلة شيئاً فستنعمين غداً منه وتبتهجين. . . نعم يا أماه، إن الرجل المؤمن المتعبد هو الآنية المقدسة الموقوفة للقبة المشرفة العالية، لا تفسد ماءها خمرة الناس، ولا تقتل نميرها العذاب لذاذاتهم، أنه في صمته إزاء ضوضاء الأحياء كقيثارة المعبد إزاء كل المعارف والمصادح والأعواد. . لا تسمع صوته العميق المنفرد الخفاق يمتزج خارج المعبد بأشتات أصوات الأرض المبددة، وضوضائها العقيمة الضائعة. . أنه ليرسل وهو في هدأة المعبد صوته العظيم المتدفق المتموج، يحمل إلى عرش الله ترنيمة الطبيعة وأنشودة الإنسانية.
ولكن لعلك قائلة يا والدتي. . أنه يعيش وحيداً معتزلاً منئبذاً. . أن روحه لن تلتهب يوماً بحرارة الحب، ولن تتقد بلهيب المرأة، ولذلك ستذبل في هذه العزلة وتجف وستضق في الوحدة وتضؤل. . أنه لا يشعر بنعمة الأسرة، وبهجة حياة البيت، وسيقسو لذلك قلبه وييبس. . ولكن قولي أنه يجد في الناس بيته وأسرته، وسيجعل له من محاويج الأرض وفقرائها أما وامرأة وطفلاً. . أنزل الله على قلبه عطفه العظيم فأصبح كل من يرى يتألم، وكل من يرى يبكي ويتعذب، صديقاً له وصاحباً وعشيراً إذن فلا تخافي يا أماه ولا تظني أن حبي لك سيزول أو يفنى، فإن الله الذي أحب ليس رباً حاسداً غيوراً، وأن العهد الذي عاهدته سيقربني من جنابه ويدنيني. . ولكن لن يبعدني عن قلبك ولن يقصيني،. . . إذن فلا تمسكي شفتيك عني، ولا تنظري إلى نظرة حزن ويأس، ولكن قولي يا أماه. . لقد حقت عليك رغبة الله! قولي يا أماه ما قالت سارة لربها. . ثم باركيني!. . .
26 مايو سنة 1786
وبكت سبعة أيام، كما بكت في الجبال ابنة يفتاح وفي أثرها صويحباتها الفتيات والأبكار، وإذ هي تسأل الله أن يمهلها ليالي وأياماً تبكي فيها ربيع الشباب، ونضارة الجمال الوديع الجميل، ثم تذهب بنفسها فتقدم عنقها إلى المذبح، وكذلك بكت والدتي ثم قالت ليكن يا بني ما تشاء. . . . .!.
ومضت أيام فزفت أخت جوسلان إلى خطيبها، وفارق الشاب الدار ليدخل الدير. . . .