مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/مطرح الهموم
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/مطرح الهموم
لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع
كلمة من أعيان كلمات الكاتب الإنكليزي أديسون
مما يؤثر عن الحكيم سقراط أنه قال إذا جمعت مصائب البشر كلها في وعاء ثم قسمت على جميع الناس بسواء. لأصبح من كان يحسب نفسه أشقى الناس وأخسرهم يفضل أولى الحالتين على الثانية. وجاء بعد سقراط الشاعر الروماني هوراس فعدّل هذا المعني فقال إن ما يكابد أحدنا من المصائب أخف عليه من مصائب أي إنسان آخر إذا وقع بين الرجلين تبادل.
فبينا أنا ذات يوم متكئ في خلوتي أفكر في هاتين الحكمتين وقد أخذتني سنة من النوم إذ خيل إلىّ أنه بأمر إله الآلهة قد نودي في الناس أن يحمل كل امرئ مصائبه فيأوابها جميعاً فيطرحوها بعضها فوق بعض في سهل فسيح فوقفت وسط ذلك السهل وسرني أن أرى الناس طراً يأتون واحداً بعد واحد يلقون أثقالهم العديدة حتى ارتفع من مجموعها جبل طالت ذؤابته السحاب.
وكان هنالك امرأة نحيلة خفيفة قد شمرت عن ساعد الجد وسط هذه الشعائر تحمل في إحدى يديها مجهر أو عليها ثوب فضفاض هفهاف سابغ الذيل موشي بعدد عديد من تصاوير الجان والعفاريت كلما ضربت الريح الجلباب تلونت وتشكلت تلك التهاويل أشكالاً وألواناً وكان في عينها وله ولهف وحيرة وكان اسمها الوهم وهى التي كانت تسوق كل فرد من البشر إلى المكان المعين بعد إعانتها إياه على ربط حزمته وحبكها وإلقائها على عاتقه فأذاب قلبي رؤية أخوتي وأبناء أمي وأبي ينؤون بأحمالهم. ويئنون تحت أثقالهم. وفتت كبدي أن أبصر ذلك الجبل الباذخ الذي من أحزانهم تكوّن ومن آلامهم تألف.
على أنه ألهاني عند ذلك. وسلاني هنالك. عدة من القوم لغريب أحوالهم وعجيب هيئاتهم. فمن بين هؤلاء رجل في حلة مطرزة أقبل يسعى حتى جاء المكان فأخرج من تحت حلته الموشاة المزركشة حملاً فألقاه فحددت البصر أتبينه فإذا هو الفقر. وأقبل آخر يرزح تحت ثقله وبعد كثير من التنفس والزفير أقي حمله فنظرت فإذا هو زوجته.
ورأيت عدداً عديداً من العشاق على كواهلهم أثقال عجيبة من سهام وشمل. ولكن أعجب من ذلك أنه برغم ما رأيته يكاد يمزق قلوبهم من غلواء الوجد وبرحاء الكمد وبرغم زفرة لهم ترقي. وعبرة لهم لا ترقا. كانوا لا يستطيعون مطاوعة عقولهم على الماء تلك الأثقال عند ما بلغوا الكثيب. ولكنهم بعد قليل من المحاولة - محاولة المشاقل المتكرد - هزوا رؤوسهم ورجعوا بأثقالهم أشد ثقلاً. وأفدح حملاً. وأبصرت كثيراً من العجائز يلقين تغاضين وجوههن وكثيراً من الفتيات يلقين سمر جلودهن. ورأيت كوماً من أنوف حمراء. وأسنان قلحاء. وشفاه فلحاء. والعجب العجاب أنى رأيت معظم الجبل مؤلفاً من عاهات بدنية. وآفات جسدية. ثم لمحت من بعيد رجلاً على ظهره حمل لم أر في سائر الأحمال ما يدانيه عظماً فألعمت النظر فإذا هي حدبة فألقاها فرحاً بذلك بين سائر البلايا الآدمية. ورأيت كذلك عللاً وأمراضاً من كل ضرب وصنف غير أنى رأيت الوهمي من ذلك أكثر من الحقيقي. وشاهدت بين هذه نوعاً قد ألف من جميع الأمراض والعلل يحمله في الأكف عدد عظيم من ذوي النعمة والرفاهية واسم هذا الداء الملل. وأعظم عجبي وحيرتي أنى لم أر أحداً قط ألقى بين هذه الآفات والمصائب شيئاً مما ابتليت به نفوس البشر من الرذائل والحماقات والأضاليل. والنقائص والسخافات والأباطيل. فأدهشني ذلك أيما إدهاش إذ كنت قد ظننت أنها فرصة لا يدعها أحد حتى يطهر نفسه من أدران الأهواء والشهوات. ويخلص طبعه من أكدار العيوب والعورات.
ورأيت في الجماعة رجلاً فاسقاً لم أشك في أنه جاء مثقلاً بأوزاره وآثامه. فلما أقبلت على ما رماه أفتشه ألفيت أنه لم يرم شيئاً من تلك الذنوب والحوب وإنما رمى ذاكرته وتبعه رجل ساقط جاهل فنظرته فإذا هو قد نبذ حياءه لا جهله.
ولما فرغ الناس من طرح أثقالهم وفرغت الجنية النحيلة الخفيفة من عملها وكانت قد رأت مني رجلاً ينظر ولا يعمل دنت منى فقلت لذلك فلم يرعني إلا رفعها المجهر إزاء عيني وكنت أعرف في وجهي القصر فإذا هو قد تناهي قصراً حتى عاد أبشع شيء فساءني منظره فألقيته كما يلقي القناع. وكنت قبل ذلك ببرهة أبصرت رجلاً رمى بوجهه لفرط طوله وكان أطول وجه حتى لذقنه وحدها تطول وجهي بأكمله فاستراح من مصيبته واسترحت واستراح الخلق طراً. وأطلق لكل امرئ أن يستبدل ببلواه محنة غيره.
على أنه لم يبق في الجمع إلا متعجب من هذه المحن كيف عدّها أهلها محناً وكيف كان قد غرّ بها وخدع فيها فحسبها نعماً وفوائد وبينا نحن نتأمل خليط المصائب. ومزيج النوائب. صدر أمر إلا له الأكبر أن يستبدل كل امرئ بمصابه ويرجع إلى مثواه بحظه الجديد.
عند ذلك تحركت الوهم وقسمت الكثيب في أخف نشاط وأكمل سرعة فأعطت كلاً نصيبه وكأني باليراع يعجز أن ينعت ما حدث إذ ذاك من هرج ومرج ثم كانت أمور كثيرة أذكر الآن بعضها:
رمي شيخ كبير على كثيب المصائب علة كانت في بطنه وكان عاقراً يتمني ولداً يكون عماد شيخوخته ووارث ثروته فمدّ يده ليعتاض من دائه الذي طرحه فاختطف ولداً فاجراً عاقاً كان آفة أب له وكان ذلك الأب قد نبذه في النبائذ يريد به بدلاً وقد أخذ بدله مرض البطن الذي رمي به الرجل الأول. فلم تمض إلا برهة حتى رأيت ذلك الغلام قد ثار بالشيخ الكبير فأخذ بلحيته وناصيته وهم أن يفلق رأسه. فما هو إلا أن أبصر الأب الأصلي وكان يسعي نحوه ممسكاً بحشاه من وجع المعدة حتى صاح به يرحمك الله وإيانا خذ ولدك بارك الله لك فيه وأعطني علتي ولكن قضى الأمر وكان مالا يكون تبديله. ولا يستطيع تحويله.
يا ابن بوران لا مفرّ من الله ولا من قضائه المحتوم
ورأيت أسيراً مقيداً خلع قيده. وقلع صفده. فاعتاض منه النقرس. ولكن أبدى من التأوه والتأفف والتلوّي والتنزي ما دل على أنه لم يكن في تجارته تلك بالرابح الصفقة.
ولقد كان من الممتع اللاذ أن تبصر ما وقع إذ ذاك من المبادلات والمقايضات من علة بخلة وجوع بفقدان شهوة وهم وتسهيد بأسر وتقييد. أما النساء فكن من تبادل الأعضاء - أعضاء الوجه والجسم - في شغل شاغل فواحدة تستعيض لمة شمطاء من جلدة سمراء. وثانية تأخذ عنقاً قصيراً وتعطى أنفاً كبيراً. وثالثة ترمي عرضاً مفضوحاً. وتلتقط وجهاً مقبوحاً. وما منهن إلا من تدرك في الحال أنها اعتاضت من سيء أسوأ ومن رديء أردأ وكذلك حال سائر الجمع في كل بلية وآفة لعله لأن ما أصابنا به الله مناسب لمقدار صبرنا واحتمالنا أو لأن كل مصيبة تذللها العادة.
فقلت لها يا عز كل مصيبة ... إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت
ولقد رحمت من صميم مهجتى ذلك الأحدب الآنف الذكر إذ راح معتدل القامة وافي الشطاط لكن بداء في كلاه. وعلة في حشاه. كما رحمت معاقده ومبايعه الذي راح محدودب الظهر يظلع وسط سرب من الفتيات كن قبل ذلك به مولعات. وفيه هائمات.
ولست ناسياً ذكر شأني وشأن ذي الوجه الطويل فإن ذلك الرفيق ما كاد يأخذ وجهي القصير حتى أضحى فيه أعجوبة الأعاجيب فاستلقيت ضاحكاً من وجهي حتى أخجلت وجهي وأدرك الرجل المسكين خطيئته. وعرف غلطته. فخجل واستحي. غير أنى ما لبثت أن فئت إلى نفسي فعلمت أنه ليس لي أن أزهي وأختال وأسخر من الغير وأنا سخرة وأضحك منهم وأنا ضحكة وإن لى في غرابة هيئتى لشغلاً عن اللهو بهيئات الناس ومندوحة وذلك أيها القارئ أنى رفعت يدي أريد في وجهي أريد إحدى عيني صكت يدي أنفى لبروزه وضخامته مراراً.
ثم نظرت ناحية منى فأبصرت رجلين في مثل حالنا من السخرية قد أحدثا تبادلاً فى زوجين من الأرجل زوج غليظ أعوج قصير. وزوج طويل نحيل. فكان صاحب الرجلين النحيلتين كأنما قد رفع في الهواء على عمودي بيت فهامته تدور مع الريح حيثما دارت وأما صاحب الرجلين العوجاوين القصيرتين فكلما حاول السير دار في مكانه لا يبرحه. ولما رأيت على محياه سيما الحلم والظرف والفكاهة أقبلت عليه أمازحه فقلت له سأجعل لك كذا وكذا إن استطعت أن تبلغ هذا ورسمت له خطاً على مسافة ذراعين مرسى قدميه في مدة نصف ساعة.
وأخيراً تم توزيع كثيب المحن والآفات على أهلها من ذكر وأنثي. وأقبلوا جميعاً تحت أثقالها الجديدة رزحاً حسرى. ولها حيرى. وقد ملؤا السهل والحزن ضجة وأنيناً ورنة وحنيناً. ثم أدركتهم رحمة الله فأمرهم بطرح أثقالهم كرة أخرى فألقوها فرحين بإلقائها مسرورين. وأمر الوهم تلك الشيطانة التي غررت بهم وضللتهم أن تنصرف فانصرفت وأرسل الإله بدلها ملكاً كريماً جد مخالف لها هيئة وشكلاً. مباين لها خلقاً وخلقاً. رزين الحركة ثابت الحال قد جمع في هيئته بين الطلاقة والجد والوقار والبشر لا ينفك من حين إلى آخر يرفع نحو السماء طرفه ويسمو إلى عرش الإله بأمله واسم هذا الملك الصبر. وأعجب ما رأيت أن هذا الملك ما قام بجانب جبل الآلام إلا وأخذ الجبل يهبط ويضؤل حتى لم يبق منه أكثر من ريعه ثم أعاد ملك الصبر إلى كل حظه الأول وألهمه الصبر الجميل وأشعر قلبه قوة الجلد ونور اليقين فراح مغتبطاً سعيداً يحمد الله على كل ما أعطاه.
تائباً مما اقترفه من الجهل وجناه.
فمما أفدت من هذه المقالة مع سائر العظات والعبر أني لست حقيقاً أن أتبرم لشئ مما يصيبني به الله على امرئ هبة أو نعمة إذ كان مستحيلاً على امرئ أن يعلم حقيقة جاره ويعرف سر صاحبه ويقف على مبالغ أحزانه وأشجانه وكربه وَنُوَبه وبلاياه ورزاياه. فكل لكل سر غامض وخزانة مقفلة وسفر مطبق. ولكني آليت على نفسي أن آخذ نفسي بثلاث كتمان العلة وكتمان الفاقة وكتمان المصيبة مع الصبر عليها جميعاً وأن لا أحسد امرأ على شيء وأن أكون أبداً حاضر الصفح للناس واسع العفو إذا كان أعقل الناس أعذرهم للناس.