انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/البيت والحياة المنزلية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/البيت والحياة المنزلية

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913



للكاتب أمرسن أكبر كتاب الأمريكان

لا شيء أظهر من كمال عناية الله بالطفل. والله الذي يصون بذرة النبات بغلافها الكثيف ووعائها المتين يقدر للنبات الآدمي صدر الأم وبيت الوالد. عجباً للضيف الطارق والوافد الجديد الطالع علينا من ثنايا الغيب ما أضحك هيئته. وأصغر جثته. مرحباً بالمجتهد الضعيف والمجاهد الضئيل القوى في ضعفه الجلد في وهنه الذى يلقاك بذراعين أسد علاجاً وأصعب مراساً من ذراعي جندي مقاتل. أو نابل مناضل. والذى يحول بين شفتيه من سحر الإغراء. وفتنة الجاذبية والاستهواء. ما لم يؤته المصقعان شاتام وبريكلير. أليس في دمعه الفياض ورنته الحزينة وانتحابه كأن وجهه حزن مذوب ولوعة سائلة وإنه ليرد أنفاسه ويسيغ شجاه. ويبلغ كمده ويجير أساه. ما يلين أغلظ فؤاد. ويذيب قلب الجماد؟ ألا تعجب للجبار الضئيل ما أخس ما يطلب وما أزهد ما يسأل حتى جميع الخلق مؤيدوه والناس كلهم في صفه؟ أما أن جهله لأحلى فى النفس وأشهى إلى القلب من علم العالم النحرير. وإن ما ثمه الصغيرة لأحسن من كل فضيلة ومكرمة. وجسمه من مادة الملائكة إذ كان روحاً كله وتراه طول اليوم ما بين هجعاته الأربع يهتف كأنه قفص الحمام ويهدر ويصفق بجناحيه ويرفرف ويلبس وجهه الجلال والعظمة. وإذا صام برهة رفع صوت بوقه إنذاراً. وإذا كان بالليل سرّه أشباح الظلال على الحائط وإذا كان بالنهار سرّه الأصفر والأحمر. وإذا حمل إلى خارج الدار بهره النور وكثرة المرئيات فصمت. وبعد ذلك يبدأ استعمال اليدين فيتعلم القوة - درس سائر بني جنسه فهو من قطع الصابون ومن الحجارة وفن قطع الخشب والخيط والورق اليابس يبنى كنسيته أو قصره أو هرمه وكأنه لفرط الجد والوقار نوح يصنع الفلك وإبراهيم يبني الكعبة. وقواعد الأصوات يكتشفها من مزماره وجرسه وودعه. والطفل الأمريكي اقتداء بآبائه لا يني ينقب عن أسهل طرق السفر والانتقال فتراه لا يبصر أحداً الأهمّ أن يركبه فليس من عنق ولا كتف ولا ظهر إلا أضحى له مهما عز صاحبه وعظم ربه مركباً رّيضاً ذلولاً. ومن ذا الذي يطبق عصيان ذلك الملك القادر أو يستطيع مقاومة ذاك الكاهن الساحر ولو شاء أن يركب الأسد الرئبال لذلله أو أعصم الجبال لاستنزله فما هو إلا يرغب حتى تري العمات والأعمام والخالات والأخ والجدات والأجداد على قدم وساق. ذلل الشكائم. خضع الأعناق. يذعنون له جميعاً وهو لا يذعن لإنسان. يركب عاتق البطل الكبير ويأخذ بناصية ذي التاج والصولجان.

قال ملتون الطفولة عنوان الرجولة كما أن الصباح عنوان النهار والطفل يذكرك بأيام الصغر فتحن إليها حتى تخال ذياك العهد قد عاد فتلمح شعاعاً من ذلك السنا اللماح وتشم عبقاً من ذاك الشذا الفياح.

وبينما الأبوان في عجب وأعجاب بفتنة هذا الوجه ولثغة هذا اللسان - بذاك المنظر الأبلج. والمنطق اللجلج. إذا بالطفل قد عاد - وما كادا يشعران غلاماً؟ ولله الحياة ما أعجبها فى عين الطفل وما أروع أثرها في نفسه يمسى ويصبح بين ملح بدائع، وآيات روائع: النار والنور والظلمة والقمر والكواكب وأثاث البيت واللعب والزخارف. والخدم تحميه وتصونه والمراضع تغذوه وتمونه، والأهل تحفه وترفه وتحسوه وترشفه، مدهشات كلها جلائل. ومحيرات هوائل، ولكن الملك الصغير يتقلب بينها وادعاً مسروراً ناعماً محبوراً، فلا يلبث أن يذللها فيمتلكها من حيث لا يشعر. يدب فيه العلم الجديد مع حياة هذا اليوم فيكون الوسيلة لإدراك علم الغد فالوردة الناضرة حادث جديد في حياته والبستان شرقاً بالورد هو جنة الخلد أعادها الله إلى آدم الصغير. والمطر والجليد والثلج آيات أطوار جديدة في عيشته. أي عيد عظم ذلك اليوم الذي فيه يدلى بذي النعلين الصغيرتين إلى متن الطريق المثلوج لأول مرة.

أي صباغ حاذق يستطيع أن ينفض من بدائع ألوان قلمه على الأشياء مثل تلك اللمعة التي تزين بها يد الله لعب الطفل وأمتعته؟ ما أظن شائقات المشاهد في كنيسة سانت بطرس لها في نفوسنا من الروعة مثلما للبلورة المضيئة أو الطيارة الشفافة أو مجموعة الصور التي كانت أول هدايا الوالدين وزخارف الدنيا. لشد ما والله يحن الفؤاد إلى هذه اللعب وتسيل النفس إلى تلك الألوان المشرقة. والأشكال المونقة، وشد ما يتشبث الخيال - الآن وقد شابت الذري. وخارت القوي - بأذيال تلك العهود وتعانق النفس في وهمها محاسن تلك اللعب وهاتيك البلورات والصور! أي لذات ومناعم تقصر اليوم للرجل الجديد وتملؤه رونقاً وبهاء! ما أقدم الشارع فى ظنه وما أقدس الناس! كذلك يكسو وخياله كل شيء جمالاً. ويلبس وهمه كل شيء جلالاً. ثم لا يدع ركناً مظلماً حتى يملأ بالجان والمردة - لله ذاك الخوف ما ألذه تلك اللذة ما أخوفها! لقد سمع بالأغوال والسحرة فهو يقف. وهنا على باب داره فيرتب مرور هذه الخلائق وكأنه يلمح فى الظلام أشباحها ويسمع من أقصى الليل أجراسها. وكذلك أول نزهة فى الريف وأول غمسة في النهر وأول انسيابة فوق الثلج وأول عدوة في القمراء كل هذه فصول جديدة من الفرح واللذة في كتاب الحياة. وماذا في الكتب الممتعة: ألف ليلة وأبطال المسيحية السبعة وروبنسن كروسو وسفر الحجاج من كنوز الفكر ومعادن الطرب! لهى والله البرد المحبر يلف الطفل فيه الدنيا حتى العالم كله في عينه كوشي الطاووس أو أبهج! وكذلك يمضي السائح الصغير بين مشاهد الطبيعة ذلك السفر الذى بدأه فرحاً مسروراً له من محاسن فتنته وجواذب خلابته. وسذاجته التي تخال منتهى الحكمة والعقل. وخلاعته التى تفوق غاية الكمال والنبل. أقوى باعث ومثير لحب الأهل والأقارب الذي هو كالؤه وراعيه. ومهذبه ومربيه. وهكذا يشب وينمو تحفة البيت ولذته والبيت ترن جوانبه بصدى ندائه. وضحكه وغنائه. ونَصوَّغ حجراته. وتأرج ساحاته. بشذا تلك الوردة الناضرة - الطفولة.

والدار موطن الرجل كما هي موطن الصبي. والذي يحدث بالدار من الأمور. ألصق بنفوسنا وأمس بأرواحنا مما يقع بمجالس البرلمان. ومعاهد العلم والعرفان. والشؤون المنزلية هي حقاً شؤوننا أنا ما يدعونه الشؤون العامة فقد لا يكون من شؤوننا. وكأني بمن أراد أن يعرف حقيقة تاريخ البشر ويفقه روح العصر قد أخطأ الصواب وجار عن الهدي إذا هو قصد إلى البرلمان أو إلى البلاط لينشد هناك ضالته. ويبتغى نمت طلبته. وإنما بين جدران البيت يطلب سر الحياة ويلتمس روحها. وما همنا قط ولا عناناً كالذي يفعل بالبيت ويكابد والذي يجرى على المرء من نعمة ومحنة وكربة وفرجة وعلة وشفاء. وشقوة ورخاء. والحقيقة خير من التزويق لو نعثر على الحقيقة. وهل ترى في أبدع صحف المنشئين. وأعجب قصص المحدثين. شيئاً هو أملك للسمع وأسبي للقلب من حديث العراف الصادق الذي يستطيع أن ينبئك على الفور بحقيقة أحوال الإنسان. وما جرت به الأقدار مما يكون وكان. الذي يستطيع إيجاد علة كل حادث وسبب كل واقع والتأليف بين إرادة الخير الكائنة فى روح الطبيعة وبين ما يجرى على يدي الطبيعة من الشر والأذى وبين تاريخ الإنسان الطبيعي والأخلاقي. الذي يستطيع أن يشرح أحوال محنك ومصائبك وأمراضك وهمومك ومزاجك وديونك وأساليب رأيك وفكرك وأذواقك وأميالك ثم لا يفصلك في أي هذه التفاسير عن سائر بنى جنسك بل ينوطك بهم ويقرنك إليهم؟

أفلا تري بعد أنه ليس في مجالس البرلمان ولا في مقاصير الملوك ولا في غرف التجارة بل في بيوت الناس تعرف أخلاق الجيل الحاضر وآماله! على أنه مطلب عويص - قراءة أخلاق الجيل وآماله من صحائف الدور والمنازل وأسهل منه ولا شك إحصاء سكان البلاد ومساحة أرضها وانتقاد سياستها وإدارتها وكتبها وصورها وأبنيتها. أجل ذلك أهون من إتيان الدور وأهلها واستطلاع أخلاقهم وآمالهم من أساليب معايشهم.

فمل بنا إذن عن المحافل والمجامع إلى البيوت والمنازل وادخل بنا غرفة الجلوس وحجرة المائدة نسمع أحاديث الخوان والسمر وننظر نفقات الناس في مساكنهم. هم يزعمون أن من مزايا هذا العصر الجنوح إلى ملاذ الروح والحياة السامية الجميلة. فلننظر هل بلغ الناس من هذه الحياة سرها ولبابها أو وقفوا عند القشور والظواهر. أترى البيوت تجري في معيشتها على نظام ومبدأ؟ هل تشف لك نفقات الرجل عن طبعه ومزاجه وخلقه وروحه وأمياله وآماله؟ هل نظام نفقة الرجل شفاف مضيء؟ والمرء واجب عليه أن يطيع في نفقاته وحى ضميره ويجرى فيها على غريزة ميله حتى يصبح وليس في بيته وضيعته إلا ما هو عنوان على طبعه ودليل على ميله. ولا يكون المرء مستقلاً نام الرجولة إلا إذا خدم ماله إرادته. وتبعت نفقته مشيئته. فأما من أسلك ماله سبيل مال جاره وقصد بنفقته إلى ما قصد إليه غيره تقليد القرد وحكاية الببغاء فعاجز الرأي ساقط القدر ميت الهمة. وليس الرجل وماله شيئين مختلفين إنما الرجل ماله.

لا يسترين امرؤ إلا ما أحب. ولا يبذلن إلا فيما طلب. ولا ينفقن مجاراة لغيره فإن ذلك مال ضائع. وكذلك ترى. . . . . الأدب أساساً من أسس الأدب كل ماله مبذول في سبيل أفلاطون وأرسطو وفرجيل وسسرو ودانتي. لا تسله إن يرفد بماله ثروة البزاز والبقال لا تسله إن يدخل في شركة لبناء مصنع أو فتح حانوت. تلك أشياء أعلم أن لا بد منها ولكن أدعو إليها غيره. أتحسب إن كتاباً كمحاورات أفلاطون كان يهبط إلينا من أفق الزمان الأول لولا درهم الأديب وغرامه بالكتب؟

ومن الناس الصانع بفطرته مبدع الماسج وباني السفن - فهذا أساس من أسس الصناعة أن ينصرف إلى الكتب لم تجن منه سوى الخيبة. وآخر فلاح - أساس زراعي. وغيره كيماوي - تسري عليه عين القاعدة. فلتكن في بذل مالك المخلص الجاد لا اللاعب ولا الهازل ولتبخلن بدرهمك أن تنفق في غير ما فيه لذتك أو نفعك وبنفسك أن تسف بها إلى مساقط الحمق والسفه.

وإني لأخشى إن نحن طبقنا على بيوتنا هذه القاعدة إن نجدها منحرفة عن القصد حائدة المنهج غير مطابقة البتة لطبائع أربابها وأميالهم.

ولكن ماذا يصنع في بيوتنا وماذا يتبع؟ لا أري البيوت تقدمت وارتقت إلا من وجهة النظافة والصحة واستكمال آلات النعيم الجسمي من مأكل ومشرب ومتكأ - أغراض حقيرة وأغراض فانية. فلو أزلت أسقف الدور فنظرت إليها من عل لألفيتها جميعاً مطاعم فطير ودكاكين حلوى ولم تلف بينها معبداً لغير إله الأكل. ولوجدت بكل منها بكاساً. يعمل طاساً وكأساً. فما أقل عنصر الجمال الحق في سنة كهذه. وما أبعدها أن تطهر نفوس السكان وتحبوهم الرخاء والحبور من والد ووالدة وأنجال فهو مجدب من هذه النعم للضيف وصاحب الدار متعب للمرأة شاق بلا فرح. كاد بلا سرور. وكذلك البيت الذي جل القصد منه إعجاب الناس بالزينة والوفرة متعذر إلا على القلائل من بنات حواء ثم لا ينال إلا بثمن غال من العافية والراحة.

إنه إن ينظر المرء إلى هذه المسألة من وجهتها المادية هاله الأمر وراعه وحيره تعدد المطالب والمرافق لاسيما في الأصقاع الشمالية حيث الجو عاق والطبيعة قاسية فأقل حساب لحاجياتنا في هذه النواحي الوعرة يروعنا بكثرة الأشياء الصعبة الملتمس البعيدة المنال حتى نكاد نحسب صلاح البيت من المحال ونري حسن النظام أمراً أسمى من أن ترقى إليه همة بني آدم. فانظر إلى البيوت الحائزة للثروة وسلامة الذوق كيف ترى شدة احتفاظها ببعض أركان النظام مدعاة إلى تعطيلها سائر الأركان. فإن تمت عناية الأبوين بأمور الأنجال من ملبس ومأكل وتربية وتثقيف ورقابة قصرت تلك العناية بحقوق الضيفان واختلت بواجب القري فأفسدت المروءة وآذت الحسب. وإذا وظب على أوقات الطعام أسئ تنضيد الأمتعة وتنظيم الأماكن. وإذا عُنى بالحجرة أغفل البستان وإذا مدحت الساحة ذم الفناء وإذا صلحت جميع هذه فسد نعيم رب الدار وربته لشدة اشتغالهما بإصلاح البيت عن إصلاح ذاتيهما.

إنه لا يسعنا إلا التسليم لكثرة ما يجب تذليله من الصعاب قبل الوصول إلى حالة مرضية وما أظن ذلك ممكناً بمجرد النقد أو إصلاح الجزئيات واحدة أثر أخري. بل بأن نجعل للحياة غرض أسمى وأشرف ويكون القصد من بناء الدار وفرشها أعلى وأمجد. وهل تعلمون خطباً أعظم. ومصاباً أجسم. وآفة أحق أن يشمر لإزالتها. وينهض لإراحتها. من أن يذهب أحدكم في بيته أو بيت أخيه من غرفة لأخري فلا يرى حقاً ولا جمالاً ويتوسم وجوه الساكنين ويتصفح أعمالهم فلا يري مبدأ ولا قصداً. وينصت فلا يسمع إلا هذراً ولغواً وصخباً ولجباً. وإن يجد نفسه مرغماً على النقد ولا يقبل نقده مدفوعاً إلى عظة من لا يسمع وعظه. وإن لا يرى في القوم من يجود بثمار لبه ويقبل ما يهبه الغير من ثمار ألبابهم - من يعطى الحكمة ويأخذ الحكمة ويقرض ويقترض الحب والرحمة. أي خير فى الدار إذا كانت كذلك. وأي ثمرة بعد هذا الفساد والنقص في صلاح الزاد وكمال الأثاث. وماذا تجدي حلاوة السكر مع مرارة العشرة وعذوبة الزلال مع ملوحة العيشة!

إن من أكبر الخطأ أن يعزو الناس هذا البلاء إلى قلة المال فتقول الزوجة لزوجها أعطني المال تحمد بيتك ولا تجد ما يسوءك إلا ترى في هذا القول معني الإيمان بقوة المال وأفراده بالسلطة المطلقة دون ما هو أحق منه بهذه السلطة أعنى إرادة الإنسان! إلا إنما الثروة في النفس لا فى النشب. وإن الغني لبالعقل لا بالذهب. ماذا تريدين بالمال؟ أنت تريدين عيشة الملوك والأمراء. وبذل الأجواد والأسخياء. أبهة القياصرة. ونعمة الأكاسرة. وقدراً لا تنزل الأرض مهداراً وكفا بالعسجد واللجين مدراراً. وأنى يستطيع ذلك من لم يؤت سعة الوقت والحال.

أعطنا المال تصلح البيوت لبئس هذا الجواب حلاً لذلك المشكل. وساء فكاً لذاك المعضل. أعطنا المال لجل ما طلبت وعظم ما سألت. ومن ذا يملك المال إلا الفئة القليلة بيد أن كل الناس لا غنى له عن البيت. والخلق لا يخرجون إلى العالم فى كساء من الذهب. وطلب المال مهلكة يبلى الطالب وما فاز بطلبته.

على أن حل المشكل بالمال على تعذره حل باطل. والمال آلة العاجز ووسيلة الناقص. فأما العاقل فإنه يحمى أنفاً أن يلتمس البغية إلا برجاحة لبه. أو يستفيد مودة الخلق إلا بثروة نفسه وقلبه وليست الهبات والعطايا حقيقة خير بل خيال الخير وظله وتعلة من الخير الحق وبلغة إلى حين. أو إن شئت فقل هي رشوة السكوت عن أداء الدين الواجب وورقة تنوب مناب المبلغ المطلوب لا قيمة لها حتى يؤدي. فإن لابن آدم علينا حقاً أعظم من الدفء والزاد. وإنما دين الرجل لدينا رجل مثله وحق النفس الآدمية علينا نفس مثلها. وإذا رأيت أخاك ضجراً متبرماً مهموماً متألماً فذلك لأنك أكلت حقه عليك من بنات صدرك وذات نفسك ولويت دينه لديك من مادة روحك التي تفيض وروحه من عين واحدة. لقد كان حقاً عليك أن تعوده في مرقده تسليه وتؤيده وتعطيه لا من مالك فإنه حقير وإنما من بطولتك وطهارتك ومن إخلاصك وأيمانك. لقد كان حقاً عليك أن تسوق إليه تلك الروح التي هي النور والعافية والقوة فأما هبتك المال إياه بدلاً من هذه النفائس فذلك من الغبن والظلم بمنزلة ما تأتيه الزوجة الفارك من اشتراء طلاقها بالمال من زوجها. وقدماً كان اعتماد العظيم على قلبه ورأسه لا على جيبه وكيسه. وكما أن الماس أشرق ما يكون في إطار الرصاص فكذلك العظمة والفضيلة أنصع ما تكون في الفقر والخلة وقد كان أعظم خلق الله وسيد الناس طراً معسراً فقيراً. وهل كان إلا كذلك قادة اليونان وسادة الرومان. قال بلوتارك (فلوطرخس) عن أرسطيديس وكان أرسطيديس قد ولي الخراج يجيبه من عامة الأقطار اليونانية لقد ولى الخراج فقيراً وتركه أشد فقراً وكيف كانت حال أرسطو وأميلياس وأبيموننداس وكاتو؟ وأى دار كان يسكن الحواريان يوحنا وبولس؟ وأي منزل كان يقطن جون ملنون وصموئيل جونسون؟ بل أي منزل كان يقطن صموئيل آدم في بوستون وجان بول ريتشارد في بيريث؟

هذا مشكل عويص لا يصاب فيه الحقيقة ولا يطبق مفصل السداد إلا بشيء واحد ألا وهو إدراك معنى الحياة وغاية الوجود والسمو لنيل هذه الغاية. فليعلم الناس أنه لا يكون البيت بيتاً حتى ترى كل ما فيه يشهد بأنه ما شيد ولا زخرف لأمر سوي التربية والتهذيب. وأنه ما قام ثمت تحت السماء والشمس والقمر إلا لمثل أغراض هذه الكائنات رفعة وشرفاً. وإنه ليس للهو أقيم ولا لنوم ولا للمآدب والأعياد والمزاهر والأعواد ولا للذائذ الخوان. ومناعم بنت الحان. وإنما تقلع الأدواح من غاباتها لتدعم سقوف أناس لا ينبغي أن يكونوا أقل جزالة من دعائم بيوتهم ولا يليق بهم أن يؤتوا من خور ولا خور في معاجم النبع والغرب.

ضلة للإنسان أن بات وهو دون الحجر صلابة ومتانة. وأصبح وهو دون الشجر رزانة ومكانة. وظل وهو دون هذا وذاك وفاء وذمة وأمانة. أجل إنما تقلع الأدواح لتدعم بيتاً هو مأوى الكرام في كل حين ومقرى الطارق المستنبح إذا استكلب القر:

وعزت الشمأل الرياح وقد ... أمسى كميع الفتاة ملتفعاً

وهو موطن الجود ومثوي البر. على جباة أهله ونازليه آية الهدوء والطمأنينة وفى وجوهم نضرة النعيم وفي عيونهم نور اليقين وعلى رؤوسهم ترفرف ملائكة القناعة والإيمان والرضا لا يسألك أهله عن دارك ما نظامها. ولا عن مائدتك ما طعامها. كل له غرضه في الحياة ومقصده. وما سؤالهم عن ذلك وليس نعيم البيت في خوانه ولكن في أخلاق أهله وعرفانهم وصالحات أعمالهم وكأني بالبيت الذي يجمع هذه الخلال في غير حاجة إلى الحلوق. وكذلك يحدث تغير القصد تغييراً في قيم الأشياء عندنا حتى نراها بعين جديدة ونقيسها بمقياس آخر. إذن مفهم معنى الفقر والغنى فنعلم أن الفقر هو الشعور بالفقر وكم من فقير في نظر الناس وهو لا يشعر بفقر وكم من غنىّ في نظرهم وهو أن نظرته بعين البصيرة وسبرته بمسبار الفطنة المترب المعدم والعظمة النفسية والعناية بالمال لا تجتمعان في صدر قط وما أن رأينا من عظيم يعنى بالمال ولو يعنى لأخل ذلك بعظمته وذلك أن العظمة النفسية توقظ المدارك السامية وترقد الدنيئة غير أن السامية تجد أغراضها في كل مكان. ولا تجد الدنيئة أغراضها إلا في المرقص والخوان.

ناشدتك الله أيتها الزوجة الكريمة أن لا تكلفي نفسك من أجل هذا الضيف فوق وسعها وأن تأخذي من دمك ودم زوجك وأنجالك لتصنعي له مأدبة إمبراطور وفراش سلطان. فإن كانت حاجة الضيف في ذلك ففي ليرة ينفقها بهذا المطعم وذاك النزل قضاء حاجته. ولكن أر الطارق إن شاء في صحيفة محياك وفي لحظ عينيك وفى جرس شفتيك وفي لطف شمائلك آية برّك وإحسانك. وعطفك وحنانك. وليكن وجهك دليل قلبك. ولحظك عنوان نيتك. والوجه المشرق الطلق آية القلب المخلص والضمير الطاهر:

وإذا ما مخابر الناس غابت ... عنك فاستشهد الوجوه الوضاء

فذلك خير له من المصفق في الأكواب. ومن المرقق والصناب وذلك لا يباع ولا يشتري والصناب يباع ويشترى. وهو الذى تشد إليه الرحال، وتضرب إليه أكباد الآبال، ويحتمل من أجل بلوغه السفر المهيب والجوع والظمأ. أنا لا أقول لا تفرش الخوان للضيف ولا تهيّء له الفراش ولكني أقول لا تودع هذين جل سخائك وكرمك بل اجعل معظم ما لديك من ندى وجود فيما قد ذكرت الآن من شريف الخصال. وكريم الخلال. الأشرف الله كل دار أمات الفقر فيها الشهوة والهوى وأحي اليقين والهدى وأيقظ الفكرة والنهى. ونبه الفطنة والحجي. وأولع النفس بالتقى. فقرأ الذهن شرائع الطبيعة وعرف أسرار الكون وعبدت الروح الحب والحقيقة وجرت المروءة وسرت الفضيلة في كل عمل من أعمال الأسرة.

كم رأينا الفقر سر النجاح. وسبب الفلاح. وأس الصلاح. وأصل المجد والفضيلة والشرف. ولم تر حكومة قط عنيت بتعليم أبناء فقرائها وتقريب كنوز الأدب والحكمة من أطماعهم مثلما عنيت بذلك حكومتنا فكم من دار حقيرة راح فيها الذكاء والعلم والنبوغ مقرونة بالفقر والكد. أين الذي لا يؤثر في حصاة قلبه أن يرى أولاد الفقراء وقد فرغوا من أداء خدمة البيت يطيرون بأجنحة الشوق إلى مجلد رث الغلاف من أسفار بترارك أو جولد سمث يسترقون من ذلك الظالم الجبار - الوقت - ساعة عسجدية يغيبون أثناءها عن شعورهم في ظلال بساتين الأدب وشعاب أودية الخيال والشعر؟ وأن يرى فرح بعضهم ببعض إذ يتناشدون الأشعار ويتراوون الآثار. طوراً بالحقل وتارة بالحظيرة وأخرى بالساحة. ويتبادلون آراءهم في موضوع خطبة الأمس ودرس اليوم ومحاضرة الأستاذ وموعظة القسيس أو يتناولون بالنقد الأليم أحوال المدرسة والمدرسين وفتيات الدار مصغيات فاتحات الشفاه اشتياقاً. خافقات الصدور إشفاقاً. وإن يرى فرحة الغلام بإنجازه أول عمل من ترجمة أو إنشاء إذ يضحك لنفسه منفرداً في سطح الدار كالعابد في صومعته. أو يرى رؤية الغلام وأناته إذ يقرأ إعلاناً عن محاضرة الخطيب ماكريدي أو بوث أوكمبل بمكان كذا في ليلة كذا فيجعل يقارن بين غنم الذهاب وغرمه. وإن يرى فرط سرورهم باللقاء بعد تفرق ونطق وجوههم بالحبور قبل الألسن. وحرصهم أثناء الفراق على ادخار كل معسولة من القصص والأنباء ليصبوها في مسامع خلانهم عند اللقاء وينفثوها في قلوبهم. وارتياحهم لطرح ما حملوه أذهانهم من ذخائر العلم يتعارضونها عند المقابلة. بالله قل لي أي آصرة هذه التي تؤكد عقد ما بينهم أليست هي آصرة الفقر والحاجة آصرة الكدح والكد التي تبعد عنهم من الشهوات الخسيسة والملاذ الخبيثة ما يفسد أحساب أمثالهم من الأغنياء ويذهب مروتهم ودينهم ويبلي جدتهم. ويذوى زهرتهم. ويوبس عودهم ويقوس عمودهم. ويمتص منهم من ماء الشباب وماء النعيم وماء الحياء وماء الحياة. ويتركهم أنقاضاً بالية. وأطلالاً عافية. فأضحى الفقر في أولئك الفقراء قد وجه هممهم إلى طرق الصواب والأمن وصرف عزائمهم إلى سبل الصلاح والتقوى فباتوا برغم أنوفهم عباد الجليل عشاق الجميل طلاب النبيل شيعه الهدى. لا در دركم معشر الغلمة الفقراء أتشكون الفقر وأنتم الأغنياء. والبؤس وأنتم السعداء لشد ما أصغرتم نعمة ما أجلها. وحقرتم عطية ما أجزلها. ألم تؤتوا وفرة الحظ في ثلاث هن ما هن. قراءة الكتب وقراءة الطبيعة وقراءة السريرة الإنسانية. ماذا تريدون؟

أركوب الفاره تبتغون. وليس القشيب تطلبون. ورؤية التمثيل تودون. وإلى سبل الغواية تجنحون. ومواطن الإثم لو أمكنتكم الفرصة تجمحون. ما أجشم الخطب وأعظم الكرب لو أسعفكم الدهر بهذه المطالب. وأسعدكم القدر بهاتيك المآرب! كلا إنكم لفي حرز من ذلك. وإن حولكم ملائكة حراساً ما إن يزلن يكالمن جباهكم بأكاليل الحياة. تلك الملائكة هي الكد والفقر والجد والإخلاص.

وهذا فصل من رواية كلارندون ينعت فيه المؤلف أجمل مثال من العيشة المنزلية أسرده هما لما فيه من عظة وعبرة وهو ولما كان منزل الرجل على مسيرة ساعة من أكسفورد أصبح صاحباً وعشير العلماء هذه الجامعة وأدبائها وذلك أن هؤلاء وجدوا عنده من احتفال البديهة وشدة العارضة وذرابة اللسان وخلابة البيان وسعة الاطلاع وغزارة العلم لا يسألونه عن فن إلا حسبوه أنه لم يتقن غيره:

إلى أى ما فيه عمدت حسبته ... هو الغرض المقصود فيه الميمم

مع فرط حياء وشدة تواضع كأنه بكل شيء جاهل ما أغراهم به فصاروا يختلفون إليه فيحدقون به إحداق الحلقة بالأستاذ وظل بيته لهم مدراساً صغيراً كبيراً. قليلاً كثيراً يغشونه للدرس لا للراحة وليصفوا بالبحث ويهذبوا بالفحص تلك المسائل التي أبقاها الكل والمجاراة أغلاطاً شائعة.

أنا لا أقدس الرجل الذي جل أمله أن ينال منزلة في البرلمان أو في الجيش ولا الذي أكبر أمنيته أن يكون ذاك الخطيب المصقع أو ذلك الشاعر الفحل إنما أقدس الذي يرمي إلى أن يكون أستاذاً في حسن نظام العيشة عارفاً بالذي له وعليه مؤدياً حقوق السيد أو الخادم وواجب الزوج والأب والصاحب وذاك لعمر الله أمر أعوص مطلباً من التفوق في الشعر والكتابة. والحرب والخطابة. يستلزم من قوة العقل أكثر مما يستلزمه التبريز في تلك العلوم والفنون. والسبب الذي من أجله يخيب معظم من يتصدى للفن والعلم هو عين الذي يخيب من أجله. معظم الخلق فى بلوغ الرتبة المرضية في فن المعيشة. وإني أحسب أن خطيئة الناس في فن المعيشة هو أنهم لا يرون الإنسان مقدساً. وهي عين خطيئة الحكومات والمدارس والديانات جميعاً.

لقد جاء في أساطير الأولين أنه جيء مرة إلى بلاط الملك أرثار من عالم الجن بكساء هدية لأجمل أهل البلاط منظراً. وأطهرهم مخبراً. ولكن من ذاك الذي الأجمل الأطهر؟ هو من إذا لبس الكساء كان محكماً عليه لا نقص ولا زيادة. فجعل كل من البلاط يجربه فلا يراه محكماً. وإذا هو أوسع على هذا من عرض الفضاء وأضيق على هذا من سم الخياط طويل على البعض قصير على البعض. فقالوا جميعاً إبليس في الكساء وباطلاً قالوا إنما إبليس فيهم وليس فى الكساء إلا الحق وما فيه من عيب ولكنه يظهر عيوبهم ويبين عوراتهم فأحجموا عن الكساء مذعورين وجلين حتى جربته ذات الكرم والعفاف جنلاس فإذا هو عليها محكم. وكذلك في دماغ كل امرئ مقياس يقيس به قيم الرجال من كل غاد ورائح فلا يكاد يجد في الألف واحداً يبلغ هذا المقياس ويساوى ذلك النموذج كلا ولا نفسه ولا من كان يحسن بهم ظناً ويراهم من الشرف في الذروة والسنام:

نزلوا من مباءة المجد قدماً ... في مناديحها الطوال العراض

أولئك الذين كان من يراهم أطواداً وبحاراً. وأبطالاً جلة كباراً. لقد قلوا فى عينه بعد أن نظرهم بذاك النبراس. ودقوا فى نفسه بعد أن قاسهم بذلك المقياس رآهم أدنياء المقاصد سفلة الأغراض. خبيثي العلل معضلي الأمراض. يقنعون من عليا ذؤابة المجد بأدنى مراتبه ومن أجزل مرابح الشرف بأخس مكاسبه. يكفيهم من حديقة الكرم نفحة. ومن أنوار الحقيقة لمحة. لكل مطمح دنيء لا يري في الوجود غيره فإذا هو ناله ظنه قد نال الدنيا بحذافيرها فيقعد لا يصنع بعد ذلك شيئاً إلا أنه يجعل هذا الأمر الذي بلغه أصلاً يرجع إليه كل ما يقع له في سائر عمره وتاريخاً لقياس الزمن. وهذه الغاية المطلوبة تكون عند المرأة الحب والزواج (وهى أفضل من غيرها) وعند الرجل الجامعة التي خرجته مثلاً أو حرفته بعد ذلك أو استقراره في بعض المدن أو رحلته إلى بعض مدائن المشرق أو المغرب أو غير ذلك من تافهة مجسمة وحقيرة معظمة يعدها قطب حياته ومحورها وكل أمر يقع له بعد ذلك وكل حادث يحدث فلا يكون عنده ذا قيمة إلا إذا كان له نسبة وصلة بذلك القطب والمحور الذي يصبح تدور حوله جميع أفكار الرجل وأحاديثه حتى يهلك. ومن ثم ترانا نقطن في كل إنسان لي خصيصة تميز أسلوب فكره وحديثه ونعرف الموضوعين أو الثلاثة التي تشغل جميع لبه وذهنه لا يكاد يعني بشيء غيرها ثم لا يزال في كل حديث له يذكرها فإذا طرأ موضوع جديد تنبأنا برأيه فيه وتوقعنا ما سوف يقول عنه. وهذه حالة عامة ونقص شامل يستوي فيه العالم والجاهل والعاجز والبارع. وخريج الجوامع وخريج الشوارع فلقد شهدت في حفلات أعياداً الجامعات الرجل العالم الأديب الذي قد ترك الجامعة منذ العشر السنين أو العشرين قد عاد إليها عين ذلك الصبي الذي تركها لم يزد الله في عقله مثقال ذرة تضحكه عين تلك الأمازيح الباردة وتعجبه نفس هاتيك الحقائر التافهة.

وكل ما يرى له من تلك الرجولة وذاك المنصب إنما هو زخرف باطل وطلاء مموه إذا امتحنته تكشف لك عن ذاك الصبي القديم هو هو بعينه. كأني والله بنا لن نكون مدنيين قط بل نبقى ما شاء الله قرويين نرى أن كل شيء بقريتنا الحقيرة خير مما يماثله بكل بقعة أخري والمفاخرة تختلف ولكن كل مفخرة هي في نفس صاحبها وقود لنار من الغرور لا تخبو. فمفخرة هذا أنه ركب البحر ومفخرة ذاك أن لاقى المصاعب في دخول الجامعة ومزهاة الآخرا. سافر إلى جزر الهند الشرقية وخامس يفخر بأنه خرج من الماسونية. وسادس يفخر بأكلته وشربته، وسابع بحلته وحليته. إنما هي حياة لعب وزخارف وعيشة خدع وسخائف. والإنسان بينها يولد طفلاً ويعيش طفلاً ويموت طفلاً.

ما أبعد البون والخلاف بين ما نرى من الناس وبين ما يجب أن يكون الناس. نري أناساً سراعاً إلى الغرض الحقير خفافاً إلى الغرض اليسير كأنما يساقون فى طريق الحياة ضرباً بالسياط ونخساً بأطراف الإبر. قوماً معجلين لهني قد غضن إلهم وجوههم وخدد العناء لحومهم وغل الحرص أعنانهم يخيل إلى أنهم أفراس تعدو سراعاً على متونها فرسان لا تراها الأعين. أين السكينة والهدوء والطمأنينة؟ لقلما نبصر هذه المكارم. لقلما نبصر من يستحق أن يدعى رجلاً:

إني أغمض عين ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أري رجلاً

ليس بيننا أبراراً متقون. ولا أرى الناس إلى البر والتقى يهرعون. وترانا مع ذلك نعتقد بوجود البر والأبرار والتقى والأتقياء بوجود الحياة الطاهرة والعيشة المقدسة على أنا لم نرها إلا قياساً ولم نجدها إلا إحساساً. والحقيقة أنه ما كانت الطبيعة لتعمل كل هذه الوسائل الجمة العظيمة. وتبذل كل هذه القوي الجسيمة. لتحصل على مثل هذه الثمرة القليلة والنتيجة الخسيسة. بل إن آمال الناس وطماحها نحو الجمال والفضيلة أجل ومالا نبرح نراه في خلال حركات الناس وفي أسارير وجوههم من لمحات الجمال والجلال والطهارة تكاد تمهد السبيل إلى حياة أرقى.

لكل فرد من الناس جماله الخاص ولكل نفس حلاها. وإن أحدنا ليشهد المحافل والسوامر فتروعه ثروة الطبيعة البشرية وغنى النفس الآدمية عندما تلتقي في خرت أذنه نغمات الأفراد ضروباً وأشكالاً لكل منها موسيقي خاص مميز. ويجتمع في مرآة نفسه أخلاق الأفراد صنوفاً وألواناً لكل منها فتنة خاصة مميزة ويري وجوهاً غريبة ذات معان غريبة. فيجد أن الطبيعة قد وضعت لكل من أبنائها قواعد بناء مقدس لو أنه شاد عليها فأعلى. وليس من صورة آدمية إلا وهي كفؤ أن تكون موطناً لعقل رجيح. أو خلق سجيح ومسبكنا لفطنة ذاكية. أو روح سامية.

وكما أن محاسن الطبيعة وملامح الحق والجمال في الإنسان تنبهنا للسمو إلى حياة أصدق وأرقي. ومنزل أطهر وأنقى. - منزل يضارع جلاله روعة السكون وبهجة الدنيا - فإن فيما لم نزال نجده في نفوسنا من الميل إلى مصادقة الأخيار وصحبة الأبرار. حاد آخر يحدونا إلى تلك الحياة السامية. لله ما أسعد الدار التي تبني فيها المودات والصداقات على أساس من الأخلاق وقاعدة من الآداب ما أسعد الدار التي تزوج فيها الروح بالروح والقلب بالقلب وتقترن فيها الطباع والشيم لا التي تكون متلقى القلوب المتنافرة. والنفوس المتناكرة وخليط مشوش من متناقضات أفكار وآراء وعقائد. ومتضاربات أخلاق وأحوال وعوائد. في مثل هذه يكون الزواج نعمة جلي. ولذة كبري. إذ يصبح كل من الزوجين مرآة أخيه. يصلحه ويرنيه. ومصباحه يرشده ويهديه وكنزه يمده ويغنيه. وعماده يؤيده ويعليه. ومجنه يصونه ويقيه.

زينة البيت خلانه الذين يختلفون إليه. ويكثرون التردد عليه. ولا نعلم فى الوجود شيئاً هو أعظم من ظهور وجوه جديدة حول مائدة الدار إلا تلك المكارم والشيم التي استهوت هؤلاء الضيوف الجدد ونزعت بهم من مواطنهم حتى أوفدتهم هذه الدار وأجلستهم حول تلك المائدة وقد أضاف الكاتب لا ندور إلي الكلمة التي عرّف بها الرجل العظيم هذه اللفظة وهى وهو أيضاً الذي في استطاعته استجماع نخبة الناس وصفوة القوم متى شاء وأحب وقد بقى لنا على كر الزمان قافية من قريض الشاعر اليوناني القديم مياندرا في مدح الصداقة هي خير نقيذة الدهور. ووديعة العصور.

ما الجنة الغناء تسجع طيرها ... في ناعم لدن القوام وريق

والمسمعات المحسنات صوادحاً ... والراح في طاس وفى إبريق

أشهي وأعذب في النفوس على ظمأ ... ودخيل همّ من خيال صديق

هذه هي السعادة التي أن تعرف حقيقتها أزرت بكل سعادة غيرها وأرخصت قيمة الحكومة والتجارة والسكنيسة. وأي سعادة أنعم وأي يوم أعظم من يوم يتقابل الناس وكل لسائرهم مؤيد ونصير ومنعم يستهل بشؤبوب من النجوم وكاف بالنور والحيا بالبر والهدى. بالرأي والندى.

هذه كلمات على سبيل العزاء وأمان يزجيها الرجاء هده درس الحياة والغاية التي خلق الناس لها. وأقيمت دعائم البيت من أجلها. وأرانا اليوم أحوج إلى مدبر وفاتح منزلي. منا إلى مدبر وفاتح حربي. فمن كان من الشجاعة والبطولة بحيث يقدر أن يخضع لنا جبار العادة والاصطلاح ويهدى الناس إلى سبيل المعيشة الطاهرة النقية. الماجدة السنية. ويعلمنا كيف نأكل ونستريح ونعامل الناس من غير أن نحدث ما فيه معزة ومخزاة فذلك هو المعيد إلى حياة الإنسان عزها وجلالها. الراد عليها رونقها وصقالها. الخالد اسمه ما اصطحب الفرقدان. واختلف الجديد أن إطليلاً لهامة الدهر. وغرة في جبهة الزمان.