مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/مذكرات إبليس
مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/مذكرات إبليس
هي رسالة انتقادية ضافية للكاتب عباس محمود العقاد تناول بها أغراضاً شتى من النقد الأدبي والأخلاقي والاجتماعي بأسلوب خيالي شائق يأخذ باللب ويرتفع له حجاب القلب وسننشرها إن شاء الله تباعاً في البيان.
مقدمة
نحن الشعراء لكل منا صاحب من الجن يوسوس له بخفي المعاني ويهجس في خاطره بأسرار الخيال ويسلك به من وادي الجنة في ملاعب لا يسير فيها الأنسي إلا بترجمان من أبناء الجان.
كام لامرئ القيس شيطان من تلك الشياطين اسمه لافظ بن لاحظ. لا أشك أنه كان معه يوم العذارى، يوم نزلت صاحبته عنيزة تتبرد وصويحبات لها في الغدير فأغراه شيطانه فقعد على ثيابهن وأبى إلا أن يخرجن إليه عاريات الأبدان باديات محاسن الأجسام كأبكار الماء عند قدماء اليونان، أو كما خرجت بنت ملك الواق على الصائغ البصري وقد خبأ منها ريشها وهي تسبح بين أترابها في بركة القصر. ثم أغراه بناقته فعقرها لهن فظل العذارى يرمين منها بلحم وشحم لا أظن حسان اليوم يستطبن منه شواء إفرنكياً، ثم سقاهن من زقه خمراً زادتهن سكراً على سكر التيه والشباب. ثم أملى عليه تلك القصيدة التي سجل بها على نفسه فعلته فأراح كاتب الشمال من تقييدها عليه فيسجل السيئات.
وكان للأعشى صناجة العرب شيطان اسمه مسحل بن أثاثة. ترصد له حتى علم أنه مال إلى الإسلام فأوقف له في بعض طريقه إلى النبي قوماً من المشركين، فلما أتاهم قالوا له أين أردت يا أبا بصير.
قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم.
قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق.
قال: وما هن
فقال له سفيان بن حرب: إنه يحرم عليك الزنا.
قال: لقد تركني الزنا وما تركته ثم ماذا؟
قال: الق قال: لعلي إن لقيته أن أصيب عوضاً من القمار ثم ماذا؟؟
قال: الربا.
قال: ما دنت ولا أدنت.
فكاد مسحل ييأس من فتنة صاحبه عن الإسلام فقد بردت عواطف الرجل وأخذت الشيخوخة شهواته. والشيطان لا يخلق في نفس المرء ما لم يكن فيها.
ولكنه ينفخ في جذوتها الهامدة ويحرك نارها الساكنة ثم ذكر (أي مسحل) إن من لذات النفس لذة لا يعيي عنها صاحبها حتى يوارى ثراه، وهي لذة الشراب كما قال بعض إخوانه على لسان بعض الشعراء:
قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي عن أن تمد إلى فمي بالكاس
فلما سألهم الأعشى ثم ماذا؟؟ همس شيطانه في قلب أحدهم فأجابه:
إنه ينهاك عن الخمر.
فصاح كانما لدغته أفعى وقال ارجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس فأشر بها ثم نكص على عقبيه وباع الجنة ونعميمها بمائة من الإبل فحق في هذا الأعشى قوله تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين.
أما النابغة فكان شيطانه يدعى هاذرا وكان كما قال نقد جني أشعر الجن وأضنهم بشعره أبدع في وصف امرأة النعمان حتى قال المنخل اليشكري: والله لا يقول هذا الأمن جرب ووقعت هذه الدسيسة من نفس النعمان فأراد أن يبطش بالنابغة وأحسب أن هاذرا هو الذي أدلى إليه بتلك الحيلة الشيطانية حين تغير عليه قلب النعمان فلقن إحدى قيان القصر قصيدته التي يقول في مطلعها:
يا دارمية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سانف لامد
فلما سكر النعمان غنته بها فطرب وقال هذا شعر علوي هذا شعر أبي إمامة ثم رضي عنه ووقاه هاذر كيد شيطان اليشكري.
ويعجبني هبيد شيطان عبيد بن الأبرص ذلك الشيطان المسكين الذي يرعى الظباء. ويلبس الأظمار وربما كان أول شيطان هدى إنساناً إلى ذكر الله فإنه لما طلع على عبيد في البيداء ورأى ما كان من ارتياعه منه قال له: اذكر الله فقد رعناك وبذكر الله تطمئن القلوب ولعله لا يذكر الله من الجن إلا الفقراء والمساكين كما هو العهد بيننا معشر الأنس!
ولا ذنب على هبيد في فساد شعر عبيد فإن الهبيد شاعر عبقري ساجل لافظ من لاحظ يوماً فلم يقصر عنه ولقد محض صاحبه عبيداً النصح ولكنه أبى واستكبر أتاه بلبن الشعر وقال له: لو أنك أصبت من لبن عندنا؟؟
فقال: هات.
ثم ذهب وأتاه بعس فيه لبن ظبي قال عبيد فكرهته لزهومته فقلت إليك ومججت ما كان في فمي منه فأخذه ثم قال امض راشداً فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي.
أما إنك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك فندم عبيد على تفريطه في العس وأنشأ يقول:
أسفت على عس الهبيد وشربه ... لقد حرمتنيه صروف المقادر
ولو أنني إذ ذاك كنت شربته ... لأصبحت في قومي لهم خير شاعر
ولو أنه أطاعه فرضع من البان الظباء لاختمرت في نفسه زبدة القريض ولم تختل تراكيب شعره أو تضطرب أوزانه.
ولقد كان لحسان بن ثابت شيطان أسلم معه وكان للفرزدق شيطان مستوحش إذا طلبه خرج يلتمسه في الفلوات والبوادي وكذلك كل شعراء العرب قديماً وحديثاً أما شعراء الغرب فقد شغلتهم عرائيس الطبيعة عن رجال الجن فطابوا بأغاني النساء وطبنا بأحاديث الرجال أو كما قال أبو النجم:
إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
ولقد صحبني هاجس من أولئك الشياطين اسمه حاذق بن واثق، فتي الطلعة وسيم الصورة، حلو الشمائل، وهو كما حدثني مرة من أشرف بيوت الجن وأرفعها ذروة. ولطالما جلست إليه في بعض خلواتي فكان يجلو لي عرائس الأفكار ويهتف في وجداني بلطائف الأخبار وروائع الأشعار وقد يحن إلى ليالي صبوته ومواقف صبابته فيسرد لي أسماء جنيات يلم خيالهن بالأذهان ولا تقع عليهن العيون وكان ربما صفاً لي لذات أبوينا في النعيم وما كانا يتناجيان به تحت أشجار الجنة من أحاديث الغرام الطاهر. ويحكي أحياناً تغاريد أطيارها وخرير سلسبيلها أو يصف صفاء ماء الكوثر ووريف ظلاله في ضحوة ذلك النهار السرمد ويقول - والعهدة عليه - إن أطيار الجنة شواعر ترتل آي التسبيح وتتغزل بحور الفردوس وولدانه. وتترنم بمحاسن رياضه وجنانه بقصائد لا يأني شعراء الأرض بشطر من مثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وألحان سماوية لو سمعتها الأفلاك الدائرة لوقفت تنصت إليها ولو طرقت نغمة من أنغامها آذان البشر لرأوا بينها وبين غنائهم فرق ما بين صرير الجنادب وأناشيد داود عليه السلام.
خلوت به يوماً في بعض البساتين. فقلت له. أراك تكشف لي عن سرائرك، وتطلعني على أسرار ضمائرك، إلا سراً واحداً لا تزال تكتمه عني. ولا أراني راضياً عن صحبتك تمام الرضى ما دمت تحجب عني ذلك السر وتراوغني فيه.
قال. كذلك عرفناكم يا بني آدم. لا يزال أحدكم يطمع فيما ليس له حتى يفقد ما بيده، ولئن كانت في نفس الإنسان خلة تفسد عليه من أمره ما لا يفسد الشيطان فتلك خلة الطمع التي تأصلت من طباعكم ورسخت في صميم نفوسكم.
قلت. ما أحسبك أقنعتني بهذه الفلسفة وهب الأمر كما تقول ألا يقوم عذراً لديك ما تعلمه من هذه الطباع فينا.
قال. يشبه أن يكون الأمر كذلك فماذا عساك تريد أن تسألني اليوم؟؟
فرأيت أن أصارحه فيما أردت وكنت قبل ذلك أواربه فيه وألمح إليه تلميحاً بعيداً.
قلت. أنا أعلم أن مثل أبليس في دهائه وفطنته لا يفوته أن يكتب سيرة حياته في دفتر يذكر فيه غواياته ووقائعه مع مريديه وزمرته، وأنا في شوق إلى تلاوة صفحات من ذلك الدفتر. فإن إبليس كما تعلم إمام شياطين الشعراء. وليس ألذ لمثلي من تلاوة شذرة أو شذرات مما يمليه ذلك العقل القادر على يراعه الساحر. فإن شئت أن تنتزع ورقات من كنائسه فتأتيني بها كنت لك شاكراً أبد الدهر.
قال: إنك تحدثني بأمر جلل. ألا تعلم أن إبليس ملك ملوك الجان، وإنني إن أفشيت سراً من أسرار ديوانه حاق بي غضبه، ولت بي نقمته، ولا آمل أن أنفى من مملكة الشياطين فأقعد مليماً محسوراً.
قلت: هون عليك، فلعلّك تطرد من مملكة الشيطان فتقبل في ملكوت الرحمن وعسى الله أن يمحو عن جبينك تلك اللعنة، إذا أنت أظهرت للناس بعضاً من حيائل إبليس، ومسالكه التي يتسرب منها إلى النفوس، ووقيتهم شر الوقوع في أوهاقها فيفتح الله لك من أبواب السماء ما أوصده أبونا في وجه أبيك وذريته.
قال: نطقت صواباً.
ثم مضى عني أياماً لا يعاودني حتى يئست من رجوه، وخفت أن يكون قد رآه إبليس وهو يهم بسرقة أوراق الكناشة فبطش به.
فلما كنت ذات يوم في ذلك الموضع الذي لقيته فيه أخيراً، رأيته قادماً إلي من بعيد. فما هو إلا أن داناني حتى حياني ثم ألقى بين يدي قمطراً صغيراً فتأملته فإذا مكتوب على ورقة منه بلغة الجن: مذكرات إبليس وفيه خط دقيق رقمت حروفه بمداد من ماء النار على صفحائف من أوراق شجر الزقوم، فتناولت الأوراق فرحاً وهممت أن أفارقه لأتفرغ إلى قراءتها.
فقال: على رسلك. إني لأخشى وصول إبليس وأخاف عاقبة مكره مع ما منيتني به من غفران الله ورضوانه. وأنا أعرف الجن بإبليس، مثله لا ينام غريمه آمناً فناشدتك الله إلا ما كتمت هذا السر إلا عمن تثق بهم من القراء.
قلت: لك على ذلك.
وها أنا أسر للقراء بترجمة تلك الصفحات على أن يعاهدوني كما عاهدت حاذقاً أن يحفظوها في نفوسهم في موضع لا يطلع عليه ذلك الباقعة. إن كان في خبايا النفوس زاوية لا ينفذ إليها أبو مرة.