انتقل إلى المحتوى

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/الفجر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/الفجر

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 2 - 1913



ذاع ذكر نيتشه في السنوات الأخيرة ولج الكتاب في أمره فمن قائل أنه أكبر فيلسوف ظهر في القرن التاسع عشر بل والقرن العشرين، ومن قائل أنه رجل متهوس مجنون هام بالتنويه عن نفسه فنجح بعض النجاح.

والمصريون لا يعلمون إلا قليلاً عن نيتشه وترجمة حياته وتفصيل مذهبه، وليس هذا مجال التبسط في ترجمته أو درس آرائه. ولكننا نطيف بشيء منها إطافة على قدر ما يسع المقام.

فردريك ويلهلم نيتشه من أسرة بولونية هاجرت من موطنها إلى روكين بألمانيا في القرن الثامن عشر، فراراً من الاضطهاد الذي نزل بالبروتستانت هناك أما أبوه فقسيس قرية روكين (بالقرب من ليبزج). وقد ولد صاحب الترجمة في 15 أكتوبر سنة 1844 وتلقى دروسه الأولى في شلفورته ثم حضر دروس الأدب في جامعتي بون وليبزج. واستمر على ذلك حتى عين في سنة 1869 أستاذاً مساعداً لعلم اللغات بجامعة بال. ولم يحصل بعد على شهادته النهائية. والفضل في ذلك راجع إلى وساطة بعض أصحاب النفوذ. ثم لم يلبث أن عين أستاذاً بتلك الجامعة.

وفي سنة 1879 أصيب بوجع في عينه من تأثير اضطراب ألم بدماغه، فترك وظيفته وجعل ينتقل من بلد إلى بلد وهو يقاسي أشد الآلام والأوجاع. حتى قال إن بين أيام السنة مائتي يوم لا تطلع علي بغير العذاب وقد كتب أكثر مؤلفاته ونشر مبادئ فلسفته وهذه الآلام متسلطة على فكره، فكان أثر السخط والقلق والاضطراب بادياً على كل حرف من حروفها. وما زال كذلك حتى اعترته لوثة جنون سنة 1888 وبقي مجنوناً إلى أن مات في 25 أغسطس سنة 1900 فهو كما يرى القراء من أبناء عصرنا.

ولا يقال أن لنيتشه فلسفة مبوبة أو مبدأ مشروحاً فإن أكثر مؤلفاته نتف متفرقة تتناول أغراضاً شتى كلها تسفيه وحنق على آداب العصر وأديانه وأخلاقه ونظام الأمم والحكومات، وطعن عنيف في هزوم المجتمع لم يسلم منه مبدأ من المبادئ الفلسفية المعروفة، ولا فيلسوف من فلاسفة القدماء، أو المحدثين، وله شعر غاية في سمو الخيال واتساع التصور ولكنه يمج مرارة البغض والكراهة لكل ما هو من نوع الإنسان.

وكأني بالقارئ يقول: ما لنا ولهذا المجنون؟؟ ألا يغنينا جنونه الظاهر عن نقد آرائه وتتبع أقواله؟؟ ولكنه قول كان لا يصادف معارضاً لو قيل قبل جيل أو جيلين. أما في عصرنا هذا فقد تبين أن الجنون والنبوغ فرعان من أصل واحد، وأن العبقرية والمواهب العقلية المختلفة لا تنشأ إلا عن خلل في توازن القوى العقلية يرتفع ببعضها إلى ما فوق المستوى العادي وينخفض ببعضها إلى ما دونه، وأكثر ما هنالك من الفرق بين الجنون والعبقرية أن الأول خلل مصحوب بذهول عن العالم الخارجي ولكن العبقرية خلل لا يفصل صاحبه عما حوله.

على أن أعراض الجنون ظاهرة في كتابات نيتشه فهو إذاً كان لم يحمل عصاه ويروغ بها على الناس ضرباً وهشماً فقد حمل قلمه فحطم به كل رأي تعرض له في طريقه، بجرأة وثقة لا يكونان إلا لمجنون.

ولكنه مع ذلك سديد الملاحظة ثاقب البصر، فأما ملكة الحكم فيه فبادية الضعف بينة الخطل، ولعل هذا هو السر في افتقار فلسفته إلى التبويب والترتيب واكتفائه بسرد ملاحظاته سرداً، وإرسالها بغير تعقيب جامع شامل لا شتات رأيه.

وهذا هو السر أيضاً في تناقض أفكاره واختلاط مسالكه، فبينما تراه بعد كنس الإسطبلات من أعمال البطولة لأنه عمل نافع، تراه في مقدمته على الفلسفة اليونانية يستحسن من اليونان احتقارهم كل أعمال المعيشة لأن الغرض منها قيام الجسد في الحياة. وما الحياة؟؟ إن هي إلا بنت الضرورة القاشرة وفلتة الطبيعة الجامدة ثم هي لا شيء في ذاتها في نظر نيتشه. وهو إنما يشايع اليونان في احتقار العمل توصلاً إلى تأييد رأيه في تقسيم الطبقات ومؤداه أن طبقات العمال لا نصيب لها في الطموح إلى حياة الفكر والجمال، وأنه لا بد من بقاء هذه الطبقات في ربقة الشقاء والعمل الخسيس ليتفرغ أهل الطبقة العليا للتملي ببدائع الكون والتفكير في شأن المجتمع، وهو ما لا يفقهه أهل الطبقات الدنيا.

وبينما يستقبح أصول الأخلاق الحاضرة لأنها عريقة في الحيوانية كما ترى في جملته المنشورة بعد. يذهب من ناحية أخرى إلى نزع عاطفة الرحمة من نفس الإنسان لأنها تعارض ناموس بقاء الأنسب وأنه من الواجب تقوية الأقوياء وإبادة الضعفاء ثم لا تكون حجته على ذلك إلا أن الحيوانات والهمج لا يشفقون على الضعيف أفما كان الأولى بنيتشه على هذا القياس أن يحبذ أخلاقنا الحاضرة لأنها أعرق في الطبع وأقدم؟؟

وكأن هذا الخاطر لا يرد إلا على أذهان النوكى. فقد خطر من قبل لهبنقة الذي يضرب المثل بحمقه. قيل أنه كان يرعى غنماً لقومه فكان ينحى العجاف عن المرعى ويرعى السمان فمر به رجل لامه على ذلك فقال لا أخالف ما فعل الله!! فهل هذا فلسفة من هبنقة أو هو جنون من نيتشه؟؟

ولعمري لو كان للمجتمع أن يقتل من أبنائه أحداً بغير جريرة لما كان قاتلاً إلا طغمة القساة الغلاظ لأن القسوة خلق لا ينتفع به في الجمعيات الإنسانية. ولئن كانت الأنانية أوفق لغريزة حفظ الذات كما قد يبدو للنظر السطحي. فالرحمة أوفق لغريزة التضامن الإنساني وهي أقوى في النفس وأشرف. وليس أدل على ذلك من كونها تغلبت على مبادئ نيتشه نبي الأنانية فساقته مكرهاً إلى غرضها - وإلا فما هذا التسخط والصياح وما هذه الجلبة الضخمة التي قرع طبولها حتى كاد يخرقها؟؟ أليس كل ذلك سعياً منه في إصلاح النوع، وبرهاناً على تأصل تلك الغريزة القاهرة التي كأنها أرادت أن تهزأ بدعاويه الطويلة العريضة في فضيلة الأنانية والأثرة؟؟

إن كان نيتشه يبرر القسوة عند القساة فإنها طبع فيهم، فالجريمة طبع في المجرم كما أطهر علم العقل الحديث، ولكن نيتشه يعد المجرمين باكورة إنسانه المنتظر بدلاً من أن يعدهم طغمة مصابة بنوع من الجنون الجانبي فأفسد فيهم حاسة الشعور بالواجب عليهم للجمعية المدنية أو النوع الإنساني. هذا الشعور المغروس في غرائز النحل والعنكبوت، والذي يجبر إناث بعض الحيوان وذكور بعضه على التفريط في حياتها في سبيل إنتاج الذرية أو إطالة حياة نوعها.

أما الفضائل الحظية عند نيتشه فهي الكبرياء إلى حد التأله، والقسوة إلى حد الوحشية، والخشونة إلى حد العجرفة، وهو عدو الدعة وسهولة العريكة وضعة النفس ويرى أنه لا حق لأصحاب هذه الأخلاق في الحياة لأن أخلاقهم منافية لموجباتها وبديه أننا لو جرينا على هذا الرأي لقضينا على مثل روسو السوداوي الحزين. ولكن روسو على ضعف نفسه وضؤولة إحساسه. قد أحدث بكلماته انقلاباً لا شك أن نيتشه يحسب نفسه من أسعد السعداء لو استطاع أن يحدث انقلاباً يدانيه في البطش والقوة، بكل ما في طبعه من الصلف والفظاظة.

فالطباع الإنسانية متشابكة ملتفة لا يسهل تخليص إحداها من سائرها. وليست الرحمة أو ما سواها حلية نلتقطها من النفس فتنسل في أيدينا كما تنسل الشعرة من العجين ولكنها زاوية في بناء لو ثللناها لانهار الجدار على أثرها. فنحن نخرج الرحمة من النفس فيخرج معها كل ما يرتبط بها من صفات الحذق والفطنة وحسن الذوق ودقة التصور وما شاكلها من فضائل لطافة الإحساس، أو نسلخ عنها الغرور فتتبعه العزة والثقة بالنفس وصلابة الطبع وما نحا نحوها. فمن رام أن يصلح هذه الطباع فليكن كالطبيعة كيماوياً ماهراً في تركيب سجايا النفس وتحليلها والطبيعة على كل حال أخبر بصناعتها وأدرى بوضع المواهب بحيث يؤدي كل منها عملاً لا يستغني عنه المجتمع الإنساني. وهو أوسع من أن تنفرد به صفة واحدة مهما بلغ شأنها.

وقد أساء نيتشه تفسير معنى القوة في تنازع البقاء فحصرها في القوة البدنية وليس الأمر كذلك ثم انه لم يلتفت إلى أن الخيبة في الحياة قد تكون أحياناً من سيئات المجتمع وليس من سيئات المجتمع وليس من سيئات الفرد وأن من رجال المواهب من ينبغون قبل أوانهم فلا يحسن المجتمع الانتفاع بهم. ولو ارتقى المجتمع لأحسن استخدام قواه في مواضعها ولم يضيع منها كبيرة ولا صغيرة. وحسب الإنسان حجة على حقه في البقاء أنه يبقى وإلا لا فنته الطبيعة صاحبة الناموس والقائمة بتنفيذه من غير حاجة إلى مداخلة الناس.

وفي كتب نيتشه عدا ما تقدم آراء نهاية في الشذوذ والغرابة. وفيها من الدعوة. إلى الفوضى ما يسلكه بين أكبر دعاة الفوضوية. وغاية الأمر فيه أنه رجل استولى عليه القنوط والحيرة، ولا نظن أن الحيرة هي عيب الرجل الذي يؤخذ به، فإنها نهاية كل باحث في هذا الزمان، وليت شعري إذا كنا نعلم كل شيء في عصرنا هذا ولا نحار في شيء فماذا بقي لأبناء القرن الخامس والعشرين أو الثلاثين، ليعرفوه ويكشفوا غطاء الحيرة عنه؟؟

ولكن عيب الرجل إنما هو تهجمه وجزمه بما لا يستطاع الجزم به. على أن آراءه لا تخلو من الثمين النافع وأقل ما فيها أن الاعتدال في فضائله ينمي في النفس عواطف الأنفة والصبر، ويثبت فيها صفات الرجولة والعنفوان.

وقد اقتطفنا الكلمات التالية من كتابه (الفجر) وهو يشير به إلى فجر اليوم الذي تتحقق فيه مبادئه. وقد ذكر في مقدمته أنه طفق زمناً يسري في نفق موحش مظلم ثم خرج للناس بهذه الآراء من تلك السبيل المجهولة. وقال أنه عبد للناس تلك السبيل فهم لا يعانون ما عاناه إذ طرقوها. ولكننا كيف كان الأمر نتناول آراءه التي أتانا بها من ذلك النفق ولا نمشي وراءه. ونقول لكل رحالة مثله: هات ما لديك من عجائب سياحتك ولكن لا تحاول أن تجعل الناس كلهم رحالين مثلك.

  • * *

الأخلاق في عالم الحيوان - إن الأصول التي تشدد البيئات المهذبة في مراعاتها. كاجتناب ما يبعث على السخرية والترفع عن البرقشة، وإخفاء مزايا الإنسان وكتمان عوزه وضروراته الماسة، وخضوعه لأحكام الظرف والكياسة المصطلح عليها - كل هذا يمكن أن يشاهد على وجه الجملة في أدنى أنواع الحيوان أو يقابل عندها بما يناسبها من قواعد الكياسة الغريزية المكونة في طبائعها. وإذا شئنا أن نهبط إلى أساس بنائنا الأخلاقي، فالبحث عنه إنما يكون في رسمه الأول الذي أودعته الفطرة طبائع الحيوان. فأما أساسها فالتودد المقرون بالحذر، وقوامها الرغبة في النجاة من الأعداء والتماس المعونة على الفتك والاعتداء.

فمن هذا الإحساس الباطن يتعلم الحيوان كيف يضبط نفسه ويتصنع إخفاءها، حتى أن منه ما يتخذ لجلده لوناً يأتلف مع ألوان ما يحدق به (وهو ما يسمونه وظيفة التلون) ومنه ما يتماوت أو يتشكل بشكل حيوان آخر ولونه، ويماثل الرمال وأوراق الشجر أو العشب أو الإسفنج (وهو ما يسميه الطبيعيون الإنكليز بوظيفة التقليد).

ولا يخرج الأدب الإنساني عن هذه الفطرة، فإن الفرد ينضوي تحت اسم نوعه العام، ويكيف نفسه كما يوافق من يتصل بهم من الأمراء والبيئات والأحزاب أو يجري مع تيار الأفكار في عصره، ويلائم ما يحدق به من الأطوار والأحوال،

وليس أيسر علينا من أن نراقب هذه القدرة في الحيوان، فإننا وإياه سواء في حذق هذه الوسائل التي تكسبنا السعادة والشكر وتظهرنا بمظهر القوة بين أقراننا، وتجذب إلينا الأنظار من حولنا.

بل نحن نقول أننا والحيوان نشترك في إدراك معنى الحق، وما الحق في كهنه إلا مظهر حاسة التحفظ والرغبة في الأمن والتقية. فنحن نأبى أن يخدعنا غيرنا أو ننخدع لأنفسنا بالباطل ونتوجس من إغراء عواطفنا، ثم ننظر بعين الحذر والحيطة إلى أميالنا.

وكذلك الحيوان، فإننا إذا راقبناه ألفيناه يفعل كما نفعل، ووجدنا أن هذه الحيطة أو ضبط النفس صادرة فيه عن نفس العاطفة التي تصدر عنها في الإنسان وأعني بها الحزم.

فالحيوان لا يختلف من هذه الوجهة عن الإنسان أي في أنه يلاحظ ما يؤثر به في روع الحيوانات الأخرى. ومن ثم يتعود أن يرى صورته معكوسة عن ملامحها وأن يدرك نفسه من تلقائها، على قدر ما عنده من الاستعداد للشعور بالوجدان.

والحيوان يتفرس حركات أصدقائه وأعدائه، ويفقه معاني أطوارها عن سجية فيه. ثم تصدر حركاته عن هذه المعرفة المجبولة، فيكف عن مناوأة الحيوانات التي لا شأن له معها، كما أنه يكشف نياتها مما يلوح على صفحات وجهها، ثم يواجهها بما تستحق من المسالمة أو العدوان - وهذا هو معنى الحق والعدل، أو عرفان مالك وما عليك ومن ثم فمبادئ العدل والحكمة - لا بل مبادئ كل تلك الفضائل التي يدعونها الفضائل السقراطية، إنما هي من طبيعة حيوانية، وأنها موحاة من تلك الغرائز التي تسوقنا إلى طلب القوت وتوقي الخطر على حياتنا.

فإذا تذكرنا أن الإنسان الراقي لم يتقدم في هذه الغرائز إلا في انتقاء أجود الطعام والتوسع في فهم آفات بقائه لا نكون قد تجاوزنا الصواب إذا قلنا أن خلاق الإنسان ليست إلا نسخة مهذبة من أخلاق الحيوان.

إلى اللا أدريين - لست أدري البتة ماذا أعمل؟ ولا أنا أدري ما ينبغي علي أن أعمل؟ لقد أصبت أيها اللاأدري في هذا الشك. ولكن ما لاريب فيه أنك تعمل في كل لحظة. لقد طالما التبس على الناس أمر الفعل بالانفعال واشتبه عليهم الإيجاب بالسلب وتلك لعمري لكنة في ألسنتهم لا تزول.

  • * *

الأثرة والإيثار - أريد أن أعرف ما يدعو أحدنا إلى الإلقاء بنفسه في الماء لينتشل منه إنساناً وقع فيه أمام عينيه. على أنه ليس بينهما عاطفة رحم أو ود تستفزه إلى إنقاذه.

يقولون أننا نصنع ذلك في سبيل الشفقة، وأنه ليس في وقتنا هذا من يفكر إلا في غيره - كذلك تقول البلاهة والبلهاء.

ما لنا نحزن ونبتئس إذا نحن رأينا بعض الناس يبصق دماً وإن كنا نكرهه باطناً ولا نتمنى له الخير؟؟

في سبيل الشفقة!! نحن لا نفكر في أنفسنا بعد؟؟ كذلك تقول البلاهة مرة أخرى الحقيقة أننا في هذه الشفقة - وأعني ما يدعوه الناس شفقة خطأ - لا نفكر بأنفسنا على عمد - ولكننا نفكر بها اضطراراً، كما تتوازن حركات الإنسان إذا زالت قدمه من غير رجوع منه إلى قواه العاقلة، وهو مع ذلك يحكم حركاته أحكاماً لايهدي التروي إلى أقوم منه.

يلم المصاب ببعض الناس فيسؤنا ذلك، بل أنه ليحرك فينا الضعة والجبن، وينبه في قلوبنا الجزع تنبيهاً نحاول أن نفر منه بإعانة ذلك المرزوء. إن كانت معونته في وسعنا، وإلا خشينا أن تصغر كرامتنا في أعين الناس أو نستصغر أنفسنا. وكأن المصائب التي تحل بسوانا بنان تشير إلى الخطر على النفس - وقد خلق الإنسان هلوعاً فتؤلمنا تلك المصائب أيما إيلام.

ثم نحاول أن ننفض عنا ذلك الألم، فنقابله بشفقة يختفي وراءها إحساس كمين بالذود عن النفس، وقد يغلو هذا الإحساس فيصبح ميلاً إلى الانتقام.

أما أننا لا نعني إلا بأنفسنا في باطن الأمر فظاهر من موقفنا حيثما نستطيع الإشاحة بأبصارنا عمن يكابدون مضض الحياة، أو صم آذاننا عن استغاثة الملهوفين وصراخ المتوجعين،

فنحن لا نبتعد عنهم ما دمنا نستطيع أن ننجدهم نجدة القوى القادر، وندنو منهم لنشعر بنعيمنا من شقائهم. ونغبط أنفسنا بالحنو عليهم. أو نخفف من همومنا بمقارنتها بهمومهم. أو لنغتم منهم الثناء وطيب السمعة.

ومن الضلال أن نسمي هذا الإحساس مشاركة في الألم. فإنه إحساس بنوع من الألم لا يحس شيئاً منه أولئك الذين نرثي لحالهم. وإنما هو إحساسنا المحض، كما أن إحساسهم بآلامهم مقصور عليهم لا نشاركهم فيه.

هذا الضجر الذي يعنينا نحن دون سوانا هو الذي يبرمنا فنتخلص منه بالشفقة على أننا لا نستسلم لتلك العاطفة انقياداً لنزعة فذة. ولكننا ننفض عنا الألم ونتوسل إلى الغبطة والراحة بعمل واحد.

وإن الغبطة لتتولانا عند ما نأنس من أنفسنا التفوق على سوانا.

وإننا نقدر على المسعدة متى رغبنا فيها. وإننا نباشر عملاً مفلحاً - والإفلاح في كل عمل يبعث إلى السرور والارتياح - هذا إذا قرن مسعانا بالنجاح.

وفوق ما تقدم فقد يعتقد أحدنا أنه يعين بهذه المسعدة على رفع حيف قد يكون هو ممن يشكون منه. فيزيده الحنق رغبة في تلك المسعدة.

من هذا كله. ومن دقائق أغمض منه. تتركب كلمة الشفقة. فما أكثر أصداء هذه الكلمة وما أقبح ما اختلطت كل هذه الأصداء في طيها!!

أما كون الشفقة صدى الحالة التي تثيرها. أو أنها ناشئة عن فهم تلك الحالة فهماً دقيقاً خاصاً. فذلك ما لا يقول به إلا شخص ناقص الخبرة. قليل الحنكة.

وهذا ما أوجب عندي الارتياب فيما عزاه شوبنهور إلى الشفقة من المزايا التي لا يصدقها العقل. وواضح أن هذا الظن هو ما حدا بشوبنهور إلى محاولة إقناعنا بهذا الابتكار الرائع الذي ابتدعه. وهو أن هذه الشفقة التي شوهها بتعريفه ووصفه وأبان بذلك أنه لم ينظر إليها إلا نظرة لا يتعدى ظاهرها - هي ينبوع الأخلاق ما تقدم منها وما تأخر. وإنها القطب الذي يدور عليه محور فعالها. ولولا أنه صدر بها عن ذلك الظن لما سولت له نفسه أن يتحدث بهذا الرأي.

وبعد فما هو الفرق بين القساوة وأولي الرحمة؟؟

أقول مع الإيجاز: كل ما هنالك أن أولئك لا يشعرون بالخوف شعور هؤلاء. وإن طبائعهم هادئة لا تتوجس كما يتوجس أصحاب الأمزجة القلقة، ثم إن غرورهم مطمئن ثابت فلا يغريهم بالتعرض لكل أمر يستطيعون منه كلما وقع شيء من ذلك بل هم يرون أنه أولى بكل إنسان أن يدير ورقه بيده في هذه اللعبة الدنيوية. وغير ذلك فهم أجلد على كظم بثهم وقمع عواطفهم من أصحاب العواطف اللينة. فإذا بصر أحدهم بمنظر يؤلمه كان أقدر على مداراة ألمه واحتماله. ولا يرى أحدهم من منافاة العدل في شيء أن يتعذب سواه ما دام هو يصبر على عذابه. وإنه ليرى من الألم في رقة القلب ما يراه أرقاء القلوب في الصبر على الآلام. وليس في معجمهم لهذا المرض مرض رقة القلب إلا كل مثلبة ومنقصة. لأنهم يعدونه خطراً على رجولتهم وشجاعتهم الساكنة. فهم يبكون وحدهم. ثم يمسحون دموعهم ولا يسخطون على أحد غير أنفسهم.

نعم إنهم أنانيون. ولكن أصحاب العواطف اللينة أنانيون أيضاً كما رأيت. فالفريقان يتفاوتان في نوع الأنانية لا في عنصرها.

فإذا كنتم تدعونهم أشراراً وتدعون الرحماء أخياراً. فإن لهم أن يعكسوا الحكم ثم لا نراهم قد اعتمدوا على حجة أوهن من حجتكم حينئذٍ.

  • * *

كبرياء الهمج - الهمجي لا يفزع من أمر فزعه من أن يصبح يوماً ما موضعاً للرأفة. لأنه يرى نفسه في هذه الحالة خلوا من كل معاني الشرف والفضيلة: فإن الرأفة عنده مرادفة لمعنى الازدراء. ولا يروق الهمجي أن يرى كائناً حقيراً يتوجع أمامه لأن هذه المناظر لا تستخفه ولا تحرك سروره وغبطته. بل هو يسر ويغتبط إذا كان له عدو مثله في الشمم والأنفة. ثم رآه يتعذب ولا يتذمر ويبيت من الشدة على أحر من الجمر فلا يتأفف أو يتململ: ويعجبه أن يرى الرجل متماسك البأس يأبى أن ينزل عن كبريائه وينغض من جبينه ليتلمس الشفقة في حضيض المهانة. فهنالك يشعر بالسرور التام والغبطة جد الغبطة.

هذا العدو الذي لا تكسر الشدائد كبرياءه ولا تلوي العواصف إباءه يبعث في نفس الهمجي إعجاباً عميقاً به: فينحى عليه بمديته أو حسامه ثم يشيعه إلى اللحد بما ينبغي لمثله من الرفعة والتكريم.

فأما إذا أن وتلاشى عزمه: وفارقت سيما العظمة جبينه: فقد يسمح له أن يعيش عيشة الكلاب: ويمر به خصماؤه فلا تذكو فيهم عاطفة الكبرياء: وإنما تحل الرأفة به محل الإعجاب.

  • * *

نضوج قبل الأوان - قد نرى على وجه لا يخلو من الغموض أن هؤلاء الذين لا يدينون بمبادئ الأخلاق وأحكام الشرائع، هم قوم خطت غرائزهم الخطوات الأولى في سبيل تكوين أنفسهم ووضع نموذج للحق حسب ما يعن لهم ومنهم المجرمون والزنادقة والفاسقون وأهل المكر والبهتان وأمثالهم ممن عاشوا فوق حكم القانون، وسلكوا في ظل ضمير خرب فاسدين مفسدين.

وعلى الجملة يجب أن ننظر إلى هذا الأمر بعين الرضى ونعده حقاً وصواباً وإن كان ذلك ربما زعزع أركان الأمن في الجيل القادم واضطر كل فرد فيه إلى حمل السلاح.

ولا يجب أن ننسى أن تعارض المبادئ الأخلاقية يمنع هدم أصول الأخلاق المقررة من آساسها وأن الأخلاق التي تدحض كل ما عداها وتستقر في مكانها تتلف كثيراً من القوى وتكلف النوع الإنساني ثمناً باهظاً.

فلا يحسن بعد الآن تضحية الشواذ من الناس والخارجين على النظامات المتواضع عليها فإنهم كثيراً ما يكونون من ذوي العقول المستقلة والمواهب المنتجة المبدعة: ولا أن نحسب من العار بعد الآن أن يحيد المرء عن المبادئ الأخلاقية إما باعتقاده أو بعمله، بل علينا اليوم أن نأخذ بتجارب جديدة في شؤون الحياة والاجتماع حتى ينجاب عن الدنيا هذا الوقر الذي نعانيه من جراء ارتباك الضمير والتباس حدوده، ويتعين على أهل الصدق والصراحة أن يقروا هذا الغرض ويؤيدوه.

  • * *

الجمال عند اليونان - مالنا نتشدق بفلسفة اليونان؟؟

أين نحن من فهم فن كان أهله يمثلون الجمال في جسد الرجل العاري؟؟ بل ما كانوا ليدركوا جمال المرأة إلا بالنظر إلى ذلك الجمال المذكر. أما جمال النساء فإنهم ما نظروا إليه قط كما ننظر إليه اليوم وكذلك كان شأنهم في الحب. وكذلك كانوا يعبدون ويحتقرون. ولكن عباداتهم واحتقارهم من نوع غير هذه العبادة وهذا الاحتقار.

  • * *

المتسولون - مطاردة المتسولين واجبة لأننا نغضب سواء أعطيناهم أو منعناهم.

الحيوانات الأليفة - أيمكن أن يظهر الإنسان عاطفة أدل على الحمق والسخف من هذا الحنان الذي يظهره بعضهم للنبات والحيوان؟؟ - هذا الحيوان الذي كان يوسعهم فتكاً وأذى ويكشر لهم عن ناب العداوة والبغضاء. ثم هو يتقاضى اليوم لنفسه ذرة من الفكر والإدراك.

  • * *

البطولة في كبير الأعمال وصغيرها - إن اشتغال الرجل بعمل نحسبه من الحطة بمنزلة نأنف من ذكرها. قد لا ينفي بطولة القائم به متى كان يجني منه شيء من النفع وهؤلاء اليونان لم يخجلوا من توكيل هرقل بنظافة الإسطبل مع ما كان يضطلع به من الأعمال الجسام.

  • * *

إلى الأقوياء - معشر الأقوياء في القرائح والعقول؟ نحن لا ننشدكم إلا رجاءً واحداً: لا تطبقوا على عواتقنا عبثاً فوق ما نرزح تحته من الأعباء بل خففوا عنا بعض ما يرهقنا حيث أنتم أشد مرة وأصلب عوداً. بيد أني أراكم لا تصيخون لهذا الرجاء بل إنكم ليحلو لكم نقيض ذلك، لأنكم تطمحون بأبصاركم إلى السماء وتشتهون التحويم في أجواء الفضاء وكذلك تريدوننا على أن نحمل أعباءكم فوق أعبائنا ثم نزحف على التراب.

  • * *

الجمال والمدنية - لماذا يكثر الجمال كلما أمعن الإنسان في المدنية؟؟

ذلك لأن علل الدمامة الثلاث تمتنع بين المتمدنين شيئاً فشيئاً بامتناع الحاجة إليها وتلك العلل هي اضطرام العواطف وهياجها هياجاً ينطبع أثره على سحنة الوجه ثم مشقة البدن ثم الحاجة إلى إيقاظ الخوف في نفس الناظر بشناعة الوجه وبشاعته فإن الإرهاب بهذا المنظر ضروري بين الهمج الذين يكثر فيهم السطو والغيلة حتى أنهم ليجعلون العبوسة والاكفهرار من أزياء الشهامة والوقار ويحسبون الشناعة وصفاً يجب أن يتحلى به الزعماء الكبار.

  • * *

الجمود - تموت الجية إذا لم تنزع جلدها القديم وكذلك يجمد العقل الذي لا ينزع آراءه العتيقة فتموت فيه ملكة التفكير.

  • * *

لا تنس - كلما علونا في أعنان السماء صغرنا في أعين العاجزين عن الطيران (العقاد).

قال ابن الرومي

رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذوي شيم شريفة

كمثل البحر يغرق فيه حيي ... ولا ينفعك تطفو فيه جيفة

أو الميزان يخفض كل واف ... ويرفع كل ذي زنة خفيفة