انتقل إلى المحتوى

كتاب الزهرة/الباب الستون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


الباب الستون

إنِّي أَرَى من له قنوعٌ
يعذل من نالَ ما تمنَّى
والرّزق يأتِي بلا عناءٍ
وربَّما فاتَ من تعنَّى

وقال أبو دلف:

إنَّ نفسِي كريمةٌ تألف الصَّ
بر إذا ما تغيّرت حالاتي
لو دعتني إلى الدناة حياتي
يا بن عيسى هانتْ عليَّ وفاتي
إنَّما تحمدُ السَّخايا من الأح
رار عند النَّوائب المعضلاتِ
كلُّ حيٍّ يبقى علَى الصَّبر ف
ي اليسرِ وصبر الكريم في النَّائباتِ

أنشدني بعض أهل الأدب:

لا تكثري لم أرُمْ يا ويكِ في الطَّلبِ
أيَّ البلادِ وأيَّ الأرضِ لم أجُبِ
هذا وفيَّ خلالٌ كلُّها سببٌ
إلى الغنِى غيرَ أنَّ الرّزقَ لم يجبِ
لا أتّهم الله في رزقي فما صرفتْ
عنِّي المكاسبَ إلاَّ حرفةُ الأدبِ

ومن الباب الخامس والسبعين ذكر من افتخر لنفسه بالإغضاء عن خصمه.

وقال المتلمس:

تحلَّمْ عن الأدنين واستبقِ ودَّهم
ولن تستطيعَ الحلمَ حتَّى تحلَّما
وكنَّا إذا الجبار صعَّر خدَّه
أقمنا له من درّه فتقوَّما
فلو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وما كنت إلاَّ مثل قاطع كفّه
بكفٍّ له أُخرى فأصبح أجذما
يداه أصابتْ هذه حتفَ هذه
فلم تجدِ الأُخرى عليها مُقدَّما
فلمَّا أفاد الكفّ بالكفّ لم يجدْ
له دركاً في أن تَبينا فأحجما
فأطرقَ إطراق الشُّجاع ولو يرَى
مَساغاً لنابيه الشُّجاعُ فلمّما

وقال وعلة الجرمي:

ما بال من أسعى لأجبر عظمه
حفاظاً وينوي من سَفَاهته كسرِي
أعودُ علَى ذي الجهل والذّنب منهم
بحلمي ولو عاقبتُ غرَّقهم بحرِي
ألم تعلموا أنِّي تُخافُ غَرامتي
وأنَّ قناتي لا تلينُ علَى الكسرِ

وقال آخر:

إن كنت لا ترهبُ ذمِّي لما
تعرف من صفحي عن الجاهلِ
فاخش سكوتي إذْ أنا منصتٌ
فيك لمسموعِ خنى القائلِ
فسامع السّوء مشرّبه
ومُطعمُ الأكلةِ كالآكلِ
مقالة السّوء إلى أهلِها
أسرعُ من مُنحدرِ السَّائلِ
ومن دعا النَّاس إلى عيبه
ذمُّوهُ بالحقِّ وبالباطلِ

وقال:

توخَّ من الطرقِ أوساطها
وعَدِّ عن الجانب المشتبه
وسمعكَ صُنْ عن سماعِ القبيح
شريك لقائله فانتبه

وقال لبيد بن ربيعة:

ستذكركم منَّا نفوس وأعينٌ
ذوارفُ لم تضننْ بدمعٍ غُروبها
وهل يَعْدُوَنْ بين الحبيب فراقه
نعمْ ذلُّ نفسٍ أن يَبين حبيبُها
رأيتُ عذابَ الماء إن حيل دونها
كفاك لما لا بدَّ منه شريبُها

وقال آخر:

وتجزعُ نفسُ المرءِ من شَدِّ مِرّةٍ
فيسمع ألفاً مثلها ثمَّ يصبرُ
فلا تعْذِراني إنْ أُسيءَ فإنَّما
شرارُ الرِّجالِ من يُسيء ثمَّ يُعذرُ

وقال ابن أوس المزني:

لعمرُكَ ما أدري وإنِّي لأوْجَلُ
علَى أيِّنا تعدُو المنيَّةُ أوَّلُ
وإنِّي لأرجو دائم العهد لم أحُلْ
إن أبزاك خطبٌ أوْ نبا بك منزلُ
أُحاربُ من حاربت من ذي عداوةٍ
وأحبسُ مالي إن غرمتَ فأعقلُ
وإن سؤتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ
ليقبلَ يوم منك آخر مقبلُ
ستقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتني
يمينك فانظر أيَّ كفَّيك تبذلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاكَ وجدتَهُ
علَى طرف الهجران إنْ كانَ يعقلُ
ويركبُ حدّ السَّيف من أن تضيمَهُ
إذا لم يكنْ عن شفرةِ السَّيف مَعدلُ
وفي النَّاسِ إن رثت حبالُكَ واصلٌ
وفي الأرض عن دار القلى مُتحوّلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيء لم يكنْ
إليه بوجهٍ آخِرَ الدَّهر تقبلُ

أخبرني محمد بن الخطاب أن فتى من الأعراب خطب لبنت عم له وكان معسراً فأبى عمُّه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات:

يا هذه كم يكون اللّوم والفَندُ
لا تعذلي رجلاً أثوابُهُ قِدَدُ
إن أُمسِ منفرداً فالبدرُ منفردٌ
واللَّيث منفردٌ والسَّيف منفردُ
أوْ كنتِ أنكرتِ طِمريه وقد خَلِقا
فالبحر من فوقه الأقذاء والزَّبَدُ
إنْ كانَ صرفُ الليالي رثَّ بزّته
فبين ثوبيه منها ضيغم لُبَدُ

قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال: ما أُريد بذلك صداقٌ غيرها فزوَّجه إيَّاها.

وفي الباب الستين ما جاء في ذم المزاح وكثرة الكلام، أخبرني أحمد بن عبيد ورجل من العرب قال: خرجت في بعض ليالي الظلم فإذا أنا بجارية كأنها صنم، فراودتها عن نفسها، فقالت: يا هذا ما لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين. فقلت: والله ما ترانا إلاَّ الكواكب. قالت: وأين مكوكبها؟ فأخجلني كلامها فقلت: إنَّما كنت أمزح. فأنشأت تقول:

فإيَّاك إيَّاك المزاحَ فإنَّهُ
يُجري عليك الطفلَ والرَّجل النَّذْلا
ويُذهبُ ماء الوجه بعد بهائه
ويورثُ بعد العزّ صاحبه الذُّلاَّ

وقال بعض الحكماء: لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عماله: امنعوا النَّاس من المزاح فإنَّه يذهب المروءة ويوغر الصدر. وقال بعض الشعراء:

مازحْ أخاكَ إذا أرادَ مُزاحا
وتوقَّ منه في المزاحِ جماحا
فلربَّما مزَحَ الصَّديق بمزحةٍ
كانتْ لبابِ عداوةٍ مفتاحا

وقال بعض الشعراء:

إمحض مودَّتك الكريم فإنَّما
مرعى ذوي الأحساب كلُّ كريمِ
فأخا الشّراف من الرِّجال مروءة
والموت خيرٌ من إخاء لئيمِ

وقال يحيى بن أكثم القاضي:

وقارنْ إذا قارنتَ حرّاً فإنَّما
يَزين ويُزري بالفتَى قُرناؤهُ
إذا المرء لم يختر صديقاً لنفسهِ
فناد في السّوق هذا جزاؤهُ

وأنشدني منشد:

طلبت امرءاً محضاً صحيحاً مُسلّماً
نقيّاً من الآفات في كلِّ موسمِ
لأمنحهُ ودِّي فلم أُدرك الَّذي
طلبتُ ومن لي بالصَّحيح المسلَّمِ
فلمَّا بدا لي أنَّني لستُ مدركاً
من النَّاس إلاَّ بالمريض المسقَّمِ
صبرتُ ومن يصبرْ يجدْ غِبَّ صبرهِ
ألذ وأحلا من جَنَا النَّحل في الفمِ
ومن لا يطبْ نفساً ويستبقِ صاحباً
ويغفرْ لأهل الودّ يصرَمْ ويُصرمِ

وأنشدني الحسن بن عليل الغنوي:

القَ بالبشر من لقيتَ من النَّ
اس جميعاً ولاقِهم بالطَّلاقة
تجنِ منهم بهِ ثمارَ عجيب
طيّبٍ طعمُهُ لذيذِ المذاقة
ودع التّيه والعُبوسَ عن النَّ
اس فإنَّ العبوس رأس الحماقة

وكان يقال: لا تهذر في منطقك ولا تخبر بذات نفسك ولا تغترَّ بعدوك ولا تفرط في حبِّ صديقك، واعلم أن شرَّ الأخلاق ملالة الصاحب وتقريب المتباعد. وأنشدني أحمد بن يحيى الكندي:

وكُن معدناً للحلمِ واصفحْ عن الأذَى
فإنَّك راءٍ ما عملت وسامعُ

وبلغني أن أبا نواس قال هذه الأبيات على البديهة في الوقت الَّذي كان فيه محمد الأمين أمير المؤمنين، وذلك أنَّه ركب الحرّاقات إلى الشماسية فاصطفت له الخيل والرِّجال على شاطئ دجلة وحملت معه المطابخ والخزائن، وكان ركوبه حراقة تمثال أسد فما رأَى النَّاس منظراً كان أحسن من ذلك المنظر والسير، وركب أبو نواس معه وكان يومئذ ينادمه فقال:

سخَّر اللهُ للأمين مَطايا
لم تُسخَّر لصاحبِ المحرابِ
وإذا ما ركابُهُ سرنَ برّاً
سارَ في الماءِ راكباً ليثَ غابِ
أسدٌ باسط ذراعيه يعدو
وافر الشدق كالح الأنيابِ
عجبَ النَّاسُ إذْ رأوك علَى ص
ورة ليثٍ تمرُّ مرَّ السَّحابِ
سبَحوا إذْ رأوك سرتَ عليه
كيف لو أبصروك فوق العُقابِ
باركَ اللهُ للأمين وأبقا
هُ وأبقى له رداءَ الشَّبابِ
ملِكٌ تقصُرُ المدائح عنهُ
هاشميّ موفقٌ للصَّوابِ

قال: وبلغني أن أبا نواس حضر يوماً مجلس محمد فورد على محمد كتاب العمَّال يُخبر أن رجلاً من الشُّراة، ويصف شدَّة شوكته وقوَّة أمره فقال لبشر خادمه وكان يحبّه: ينبغي أن توجّه أبا نواس إلى هناك يريد الشاري. وأظهر لأبي نواس جدّاً وكان مزَّاحاً، وأمر أن تُراح علَّته فيما يحتاج إليه من المال والسلاح وقال لبشر: انظر ما يرد عليك من أبي نواس في هذا الباب فاعرضه عليَّ. فلمَّا انصرف أبو نواس كتب إلى بشر الخادم بهذه الأبيات:

يا بشرُ ما لي وللسَّلاح ولل
حربِ ونجمي في اللَّهو والطَّربِ
لا تنفرني فإنَّني رجلٌ
أكعُّ عند اللّقاء والطَّلبِ
وليس لي همَّةٌ سوى طلبي
أي الفريقين خِيرَ للهربِ
وإن رأيتُ الشُّراةَ قد قربوا
ألجمتُ مُهري من جانب الذَّنبِ
ولستُ أيضاً فلا أغرّكما
أُفرقُ بين العنان واللببِ
ولستُ أدري ما السَّاعدان من ال
ترس ولا بيضة من اليلبِ
والرَّكض فوق الفراش منتطحاً
فإنَّني فيه فارس العربِ

فأوصلها بشر إلى الأمير فلمَّا قرأها استطار ضحكاً ثمَّ دعا به فأحسن صلته.