الباب التاسع والخمسون ذكرأشعار الظرفاء من الملوك والخلفاءأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب التاسع والخمسون ذكرأشعار الظرفاء من الملوك والخلفاء
قال أبو بكر الصديق رحمه الله:
لمّا رأيتُ نبيَّنا متحملاً
وضاقتْ عليَّ بعرْضهنَّ الدُّورُ
يا ليتني من قبل مَهلكِ صاحبي
غُيِّبْتُ في جَدثٍ عليَّ صُخورُ
فلتحدثُنَّ بدائعٌ من بعدهِ
تعيا بهنَّ جوانحٌ وصدورُ
وقال أيضاً رضي الله عنه:
علّل النَّفسَ بالكَفاف وإلاَّ
طلبتْ منك فوق ما يكفيها
ما لما قد مضى ولا للذي لم
يأتِ من لذَّةٍ لمستحليها
إنَّما أنت طولُ عمرك ما عُمر
تَ للساعة الَّتي أنت فيها
وقال معاوية:
سرحتُ بطالتي وأرحتُ حِلمي
وفيَّ علَى تحلّميَ اعتراضُ
علَى أنِّي اجتنبتُ إذا دعتني
إلى حاجاتها الحَدقُ المراضُ
وقال الوليد بن يزيد:
شاع شعري في سُلَيْمَى وظهرْ
ورواهُ كل بدوٍ وحضرْ
وتهادته الجواري بينها
وتغنَّين به حتَّى انتشرْ
لو علمنا لسليمى أثراً
لسجدنا ألفَ ألفٍ للأثرْ
وقال المهدي:
من العين واقفة عبرة
فلا هي تجودُ ولا تقطرُ
ومن تحت أحشائه لوعةٌ
إليكَ بها كبدٌ تزفرُ
فيا رامياً في حشا نفسه
بسهم الفراق وما يشعرُ
ببغداد ينزل من قد هويتُ
وأنت غداً مُربع منكرُ
وقال الرشيد:
ملك الثلاثُ الآنساتُ عناني
وجَلَلْن في قلبي بكُلّ مكانِ
ما لي تُطاوعني البريَّة كُلّها
وأُطيعهنَّ وهنَّ من عِصياني
ما ذاك إلاَّ أنَّ سلطان الهَوَى
وبه قَوين أعزُّ من سُلطاني
وذكروا أن الفضل بن الرَّبيع اشتكى شكاة، فكتب إليه الرشيد: أطال الله مدَّتك وأدام عافيتك، ما منعني من المسير إليك إلاَّ التطير من عيادتك واعذر أخاك فوالله ما جفاك ولا قلاك ولا استبدل بك سواك، وفيك أقول:
أعزز عليَّ بأن تبيت عليلا
أوْ أن يحلّ بك السّقام نزيلا
ولقد سألت فأُبت عنك بغصةٍ
إذْ قيل أوعك أوْ أُحِسَّ عليلا
فوددتُ أنِّي مالكٌ لسلامتي
فأعيركاها بكرةً وأصيلا
هذا أخٌ لك يشتكي إذْ تشتكي
وكذا الخليل إذا أحبَّ خليلا
وقال إبراهيم بن المهدي يرثي ابناً له:
نأى آخرَ الأيام عنك حبيبُ
فللعينِ سَحٌّ دائم وغروبُ
يؤوبُ إلى أوطانه كلُّ غائبٍ
وأحمدُ في الغيّاب ليس يؤوبُ
تبدّل داراً غيرَ داري وجيرة
سِوايَ وأحداثُ الزَّمانِ تنوبُ
أقامَ بها مستوطناً غيرَ أنَّه
علَى طول أيَّام المُقام غريبُ
قليلٌ من الأيَّام لم تروِ ناظري
بها منه حتَّى أغفلته شعوبُ
كطلّ سحابٍ لم يُقمْ غيرَ ساعةٍ
إلى أن أطاحتْهُ وطاحَ جنوبُ
أوْ الشَّمس لمَّا من غمامٍ تحسَّرت
مساءً وقد ولَّت وحانَ غروبُ
وكانَ نصيبَ العين من كلِّ لذَّةٍ
فأضحَى وما للعينِ منه نصيبُ
وكانت يدي ملأى به ثمَّ أصبحتْ
بعدل إلهي وهي منه سليبُ
فأصبحت مجنوناً كئيباً كأنَّني
عليَّ لمن ألقَى الغداةَ ذنوبُ
سأبكيك ما أبقتْ دموعي والبُكا
بعينيَّ ماءً يا بنيَّ يجيبُ
وما لاحَ نجمٌ أوْ تغنَّتْ حمامةٌ
وما اخضرَّ في فرع الأراك قضيبُ
وأُضمرُ إن أنفذتُ دمعيَ لوعة
عليك بها تحت الضّلوع وجيبُ
فما لي إلاَّ الموت بعدكَ راحةٌ
وليسَ لنا في العيشِ بعدك طيبُ
قصمت حياتي بعد ما هدَّ منكبي
أخوك ورأسي قد علاهُ مشيبُ
وإنِّي وإن قُدِّمتَ قبلي لعالِمٌ
بأنِّي وإن أبطأتُ منكَ قريبُ
وإن صباحاً نلتقي في مسائهِ
صباحٌ إلى قلبي الغداةَ حبيبُ
وقال إبراهيم يعتذر إلى المأمون في عقد البيعة في غيبته وادعائه الخلافة لنفسه:
واللهُ يعلم ما أقولُ فإنَّه
جهدُ الأليَّة من حَنيفٍ راكعِ
ما إن عصيتُكَ والغواةُ تمدُّني
أسبابُها إلاَّ بنيَّةِ طائعِ
فعلوتَ حتَّى لم يكُن عن مثله
عفوٌ ولم يشفَع لديك بشافعِ
إلاَّ العلوَّ عن العقوبة بعدما
ظفرتْ يداك بمستكين خاضعِ
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا
وحنينَ والهةٍ كقوسِ النازعِ
نفسي فداؤكَ إن تضلّ مُعاذري
وألوذُ منكَ بفضلِ حلم واسعِ
وقال المأمون حين أخذ إبراهيم:
لمَّا رأيت الذّنوب جلَّت
عن المجازاة بالعقابِ
جعلت فيه العقاب عفواً
أقصَى من الضَّرب للرقابِ
ذكروا أن المأمون أرسل غلاماً له إلى جارية يهواها فأبطأ عليه، فلما أقبل أنشأ يقول:
بعثتكَ مشتاقاً ففُزت بنظرةٍ
وأبطأتَ حتَّى قد أسأتُ بك الظّنَّا
ومازحتَ من أهوَى وكنت مقرَّباً
فيا ليتَ شعري عن لقائك ما أغنَى
وأمرحتَ طرفاً في محاسنِ وجهها
ومتَّعتَ باستمتاع نغمتها أُذنا
أرَى أثراً منها بعينك بَيِّناً
لقد سَرَقتْ عيناكَ من حسنها حُسنا
وقال المأمون أيضاً:
أَرَى ماءً وبي عطشٌ شديدٌ
ولكنْ لا سبيلَ إلى الورودِ
أما يكفيكِ أنَّكِ تمْلِكيني
وأنَّ النَّاسَ كلّهُمُ عَبيدي
وقال المتوكل:
جَزعتُ للحبِّ والحُمَّى صبرت لها
إنِّي لأعجبُ من صبرِي ومن جَزعِي
من كانَ يشغلَهُ عن إلفهِ وجعٌ
فليسَ يشغَلُني عن حبّكم وجعِي
وما أمَلُّ حبيبي ليتني أبداً
مع الحبيب ويا ليت الحبيبُ معِي
هذه مائة بيت من أشعار الخلفاء، ولو شئنا أن نختار من شعر واحد منهم مائة بيت لم يكن ذلك متعذراً، غير أنَّا لم نحب أن نزيد على ما شرطناه ولا نغيِّر الرسم عمَّا ابتدأناه.