كتاب الأم/الدعوى والبينات/الحكم بين أهل الكتاب
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: الذي أحفظ من قول أصحابنا وقياسه أنهم لا ينظرون فيما بين أهل الكتاب ولا يكشفونهم عن شيء من أحكامهم فيما بينهم وأنهم لا يلزمون أنفسهم الحكم بينهم إلا أن يتدارءوا هم والمسلمون فإن فعلوا فلا يجوز أن يحكم لمسلم ولا عليه إلا مسلم فهذا الموضع الذي يلزمون أنفسهم النظر بينهم فيه فإذا نظروا بينهم وبين مسلم حكموا بحكم المسلمين لا خلاف في شيء منه بحال، وكذلك لو تدارءوا هم ومستأمن لا يرضى حكمهم، أو أهل ملة وملة أخرى لا ترضى حكمهم وإن تداعوا إلى حكامنا فجاء المتنازعون معا متراضين فالحاكم بالخيار إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم وأحب إلينا أن لا يحكم فإن أراد الحكم بينهم قال لهم قبل أن ينظر فيه إني إنما أحكم بينكم بحكمي بين المسلمين ولا أجيز بينكم إلا شهادة العدول المسلمين وأحرم بينكم ما يحرم في الإسلام من الربا وثمن الخمر، والخنزير. وإذا حكمت في الجنايات حكمت بها على عواقلكم، وإذا كانت جناية تكون على العاقلة لم يحكم بها إلا برضا العاقلة فإن رضوا بهذا حكم به إن شاء وإن لم يرضوا لم يحكم فإن رضي بعضهم وامتنع بعض من الرضا لم يحكم.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقال لي قائل ما الحجة في أن لا يحكم بينهم الحاكم حتى يجتمعوا على الرضا، ثم يكون بالخيار إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم؟ فقلت له قول الله عز وجل لنبيه: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} الآية.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فإن جاءوك وجاءوك كأنها على المتنازعين لا على بعضهم دون بعض وجعل له الخيار فقال: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} قال فإنا نزعم أن الخيار منسوخ لقول الله عز وجل: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} قلت له فاقرأ الآية: {ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم}.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فسمعت من أرضى علمه يقول وأن احكم بينهم إن حكمت على معنى قوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فتلك مفسرة وهذه جملة وفي قوله: {فإن تولوا} دلالة على أنهم إن تولوا لم يكن عليه الحكم بينهم، ولو كان قوله: {وأن احكم بينهم} إلزاما منه للحكم بينهم ألزمهم الحكم متولين؛ لأنهم إنما تولوا بعد الإتيان، فأما ما لم يأتوا فلا يقال لهم تولوا وهم والمسلمون إذا لم يأتوا يتحاكمون لم يحكم بينهم إلا أنه يتفقد من المسلمين ما أقاموا عليه مما يحرم عليهم فيغير عليهم وإن كان أهل الذمة دخلوا بقول الله عز وجل: {وأن احكم بينهم} في معنى المسلمين انبغى للوالي أن يتفقد منهم ما أقاموا عليه مما يحرم عليهم وإن تولى عنه زوجان على حرام ردهما حتى يفرق بينهما كما يرد زوجين من المسلمين لو توليا عنه وهما على حرام حتى يفرق بينهما.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: والدلالة على ما قال أصحابنا أن رسول الله ﷺ أقام بالمدينة وبها يهود وبخيبر وفدك ووادي القرى وباليمن كانوا، وكذلك في زمان أبي بكر وصدرا من خلافة عمر حتى أجلاهم وكانوا بالشام، والعراق، واليمن ولاية عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم ولم يسمع لرسول الله ﷺ فيهم بحكم إلا رجمه يهوديين موادعين تراضيا بحكمه بينهم ولا لأبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي وهم بشر يتظالمون ويتدارءون ويختلفون ويحدثون فلو لزم الحكم بينهم لزوم الحكم بين المسلمين تفقد منهم ما يتفقد من المسلمين، ولو لزم الحكم إذا جاء الطالب لكان الطالب إذا كان له في حكم المسلمين ما ليس له في حكم حكامه لجأ ولجأ المطلوب إذا رجا الفرج عند المسلمين ولجئوا في بعض الحالات مجتمعين إن شاء الله تعالى، ولو حكم فيهم رسول الله ﷺ أو واحد من أئمة الهدى بعده لحفظ بعض ذلك إن لم يحفظ كله فالدلالة على أن لم يحكموا بما وصفت بينة إن شاء الله تعالى. وقلت له لو كان الأمر كما تقول فكانت إحدى الآيتين ناسخة للأخرى ولم تكن دلالة من خبر ولا في الآية جاز أن يكون قول الله عز وجل: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ناسخا لقوله: {وأن احكم بينهم}، وكانت عليها دلالة بما وصفنا في التنزيل قال فما حجتك في أن لا تجيز بينهم إلا شهادة المسلمين قلت قول الله عز وجل: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط}، والقسط حكم الله الذي أنزل على نبيه وقول الله عز وجل: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} والذي أنزل الله حكم الإسلام فحكم الإسلام لا يجوز إلا بشهادة العدول المسلمين، وقد قال الله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. وقال تعالى: {حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} فلم يختلف المسلمون أن شرط الله في الشهود المسلمين الأحرار العدول إذا كانت المعاني في الخصومات التي يتنازع فيها الآدميون معينة، وكان فيما تداعوا الدماء، والأموال وغير ذلك لم ينبغ أن يباح ذلك إلا بمن شرط الله من البينة وشرط الله المسلمين، أو بسنة رسول الله ﷺ أو إجماع من المسلمين ولم يستن رسول الله ﷺ علمناه ولا أحد من أصحابه ولم يجمع المسلمون على إجازة شهادتهم بينهم وقلت له أرأيت الكذاب من المسلمين أتجيز شهادته عليهم؟ قال لا ولا أجيز عليهم من المسلمين إلا شهادة العدول التي تجوز على المسلمين فقلت له فقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنهم بدلوا كتاب الله وكتبوا الكتب بأيديهم وقالوا: {هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} قال فالكذاب من المسلمين على الآدميين أخف في الكذب ذنبا من العاقد الكذب على الله بلا شبهة تأويل وأدنى المسلمين خير من المشركين فكيف ترد عنهم شهادة من هو خير منهم بكذب وتقبلهم وهم شر بكذب أعظم منه؟ والله أعلم.