انتقل إلى المحتوى

صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان/ترجمة المؤلف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


ترجمة المؤلف

معربة من كتاب "الياقوت والمرجان، في ذكر علماء سهسوان" للعلامة محمد عبدالباقي السهسواني

هو العلامة المحدّث النحرير مولانا الشيخ محمد بشير الفاروقي، ابن الحكيم محمد بدر الدين، بقية السلف الصالحين في الفضائل والكمالات، وأعظم مفخرة في العلم والحكمة، كان من المجددين للدين، وأد المحققين المتأخرين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق في عصره، ولد في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، وتوفي أبوه وهو ابن تسع سنين، وكان له أخوان أكبر منه وثالث أصغر.

قضى زمن طفولته في لكنو، وبدأ فيها تعلمه بالقراءة على الشيخ محمد واجد علي، وعلى بعض أفاضل فرنجي محل، قرأ فنون المعقولات والمنقولات المتداولة، ثم ذهب إلى دهلي لتكميل علوم التفسير والحديث والفقه والأصول، فقرأ على السيد أمير حسن بعض الكتب الدينية، وأخذ عن مولانا سيد حسين كتب الصحيح والسنن الستة وغيرها سماعاً وقراءة، واستجاز من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليمني والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي نزيل مكة، والشيخ محمد السهارنبوري المهاجر بمكة.

وبعد فراغه من الطلب استغل أولاً بتدريس العلوم العقلية من المنطق والفلسفة، ثم حصل له انهماك كثير من الفقه والأصول والأدب، وكان يفتي في الفقه موافقاً لمذهب الحنفية، ثم صاحب السيد أمير حسن فغلب عليه ذوق التحقيق في الدينيات، وتقدم في تحقيق اتباع القرآن والحديث، ومن ذلك حين رجع في تحقيق جميع المسائل الجزئية والفرعية إلى الكتاب والسنة، وشرع في العمل بالحديث على طريقة المجتهدين، وصار يفتي بوجوب ترك الآراء والتقليد الشخصي، وكل مسألة وقع فيها اختلاف بين الأئمة الأربعة كان يرجع فيها مسلك المحدثين بأقوال السلف وآثار الصحابة، وكان يستدل لكل مطلب بالحجج القوية، ويستنبط شواهده من الكتاب والسنة.

وكان رحمه الله وحيد عصره في سعة المعلومات والإطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد، ثم صار مدرساً للغة الفارسية والعربية في كلية سنت جونس بمدينة آكره، وزيادة على هذا كان يدرس للطلبة الذين يجيئون إلى داره فنون المعقول والمنقول، فقرأ عليه الحكيم مبارك علي والحكيم معصوم على كتاب (الأفق المبين) واشترك في هذا الدرس السيد أمير أحمد السهسواني.

وقد خرج حاجاً من آكره ولما رجع من الحج – أي بلا زيارة لقبر الرسول فاعترضوا عليه – صنف كتب ( القول المحقق المحكم، في حكم زيارة قبر الحبيب الأكرم)، فرد عليه الشيخ عبدالحي اللكنوي بكتاب أسماه (الكلام المبرور) فرد عليه الشيخ بكتابه (القول المنصور)، فكتب جوابه الشيخ عبدالحي اللكنوي (المذهب المأثور)، فكتب الشيخ جوابه وجمع فيه جميع الاعتراضات على هذه المسألة من قديم وحديث وأجاب عنها كلها بجواب جامع سماه (إتمام الحجة، على من أوجب الزيارة كالحجة)، والمعارضون له وإن كانوا قد كتبوا في جوابه لم يلتفت أهل التحقيق إلى جوابهم، ومع ذلك فقد كتب الشيخ جواباً على ذلك لكنه لم يطبع، وكان ابتداء هذا البحث من السيد إمداد على الذي كان من أكابر تلاميذ الشيخ بشير الدين القنوجي، لكن الشيخ إمداد على لما أحس بضعفه عن مقابلة الشيخ بشير دعا الشيخ عبدالحي لهذا الميدان وفوض إليه الأمر، وأعطاه جميع ما كتب، وإمداد على هذا كان نائب مدير المقاطعة، وكان الشيخ بشير المترجم مع ذلك كلما ذهب إلى لكنو نزل ضيفاً على الشيخ عبدالحي، فيستقبله بالاحترام والبشاشة، ويمسكه في ضيافته أياماً كثيرة أزيد مما يريد الشيخ، ويجلس في درس وعظه مستمعاً مع الأدب والتوقير للشيخ، وفي أيام مقامه بآكره حصل للشيخ أمير أحمد السهسواني مع الشيخ بشير اختلاف في بعض المسائل الفرعية، وكان الشيخ أمير أحمد يدفع فيها بلين والشيخ بشير يخالفه بالشدة، ثم انتهى الأمر إلى الاعتراف بالحق والمصالحة بينهما.

كان الشيخ بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه.

وفي 5 المحرم سنة 1295 استدعاه النواب صديق حسن خان بهادر من (آكره) إلى (بهوبال) وفوض إليه رياسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال، فكان يتبرع لتدريس التفسير والحديث، وكان يجيب عن المسائل ويكتب الفتاوى بطريق الاجتهاد، وفي كل جمعة يجلس لدرس الوعظ في جامع القاضي ويصرح برأيه ولو خالف الحكومة بلا مبالاة، ويقيم حجته على المخالفين تقريراً وتحريراً مع التواضع وحسن الخلق.

وكان يخالط أحبابه بلا تكلف ولا احتشام، وكان ديدنه إكرام الضيوف وإمداد الغرباء بلا رياء ولا عجب ولا سمعة، وكان نصب عينيه اتباع آداب الكتاب والسنة، حتى كان يثقل على طبعه ترك المستحبات، وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العملية واعترفوا له بها.

تناظر الشيخ أحمد دحلان مفتي مكة في زمانه 1، و الشيخ بشير في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ رداً عليه كتابه المسمى (صيانة الإنسان، عن وسوسة الشيخ دحلان)، واشتهر الكتاب وطبعه علماء نجد ولم يرد عليه أحد من المخالفين.

ولما حصل النزاع بين النوّاب صديق حسن خان والشيخ عبدالحي اللكنوي وكتبت كتب من الطرفين وقع في نفس الشيخ عبدالحي أن بعض رسائل الرد من تصنيف الشيخ، وصرح بذلك في كتابه (إبراز الغي)، فسعى الشيخ لدفع هذا الوهم عن فكر الشيخ عبدالحي وتصالحا بعد هذا.

ولما توفي النواب رحمه الله في جمادى الأولى سنة 1307هـ أراد الشيخ مفارقة بهوبال ولكن بيكم بهوبال 2 تعلقت به وعطفت عليه واستبقته، فكان يذهب في كل يوم اثنين من الأسبوع إلى تاج محل (قصر الأميرة بيكم) فيجلس للوعظ، ويجتمع عليه النساء المتصلات ببيكم لسماع وعظه وطلب الدعوات الصالحة منه، وكان يتكلم في وعظه هذا بالترغيب والترهيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا مداهنة ولا مبالاة، حتى توفيت بيكم رحمها الله في سنة 1319، ولما جلست بعدها على عرش ولايتها بنتها سلطان جيهان بيكم وأخذت في نشر العلوم العصرية والفنون الأوربية وتقليل شأن العلوم الدينية وا لقائمين بها ارتحل الشيخ عن بهوبال إلى دهلي بعد ما أقام فيها خمساً وعشرين سنة.

وكان الشيخ قد دعي لمنظرة مرزا غلام أحمد القادياني في دهلي فجاءها بأمر حكومة بهوبال، فأقبل عليه أهل العلم والدين والتجار وغيرهم ممن لهم تعلق بالشيخ نذير حسين كبير علمائها ورغبوا إليه أن يقيم بدهلي بسبب ضعف الشيخ نذير حسين وكبر سنه للقيام مقامه، ولكن لما كانت حكومة بهوبال لا تزال تعظم الشيخ وتسند إليه رياسة الأمور الدينية لم يستطع إجابتهم إلى رغبتهم حينئذ، فلما تغيرت الأحوال في بهوبال استأنفوا الطلب فأجابهم إلى ذلك، وتحول إليهم، ثم جلس في مقام شيخه يدرس ويفتي ويعظ.

وكان مرزا غلام أحمد ادعى أنه المهدي المنتظر، ثم ترقى عن دعوى المهدوية لنفسه إلى دعوى المسحية، وتحول عن اشتغاله بمناظرة المسيحيين وأرياسماج من الهندوس إلى مناظرة علماء المسلمين، وكان لا يناظر إلا بالقرآن معرضاً عن الأحاديث وأقوال الصحابة، واشتهر أمره حتى صرح بطلب المناظرة، حينئذ أمرت بيكم بهوبال الشيخ محمد بشير أن يتوجه إلى دهلي لمناظرة المرزا، ولما لم يرض مرزا بالمناظرة الشفوية تناظرا كتابة وهما في دهلي وكل منهما في محله.

كان مرزا يصرّح بموت المسيح مستدلاً بقوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ . فعارضه الشيخ مثبتاً حياة المسيح بقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ . ثم أخذ مرزا على عادته يجادل بالتأويلات، وينتقد القواعد النحوية والصرفية ليستدل على أن الآية لا تثبت حياة المسيح، فرد عليه الشيخ بأجوبة لم يستطع ردها، فانقطع عن المناظرة معتذراً بأن أحد أقاربه بقاديان مريض، وأنه سيسافر لعيادته. وجميع المكاتبات التي دارت في هذه المناظرة حتى انقطع المرزا مدونة في كتاب ( الحق الصريح، في إثبات حياة المسيح) وهو مطبوع، وكانت تلك المناظرة في سنة 1312هـ.

وفي مدة إقامته في دهلي كتب رسالة سماها "القول المحمود، في رد السود"3. وكان أصل تلك المسألة من الشيخ نذير أحمد الدهلوي.

ومن مفردات الشيخ أنه كان يجيز الأضحية إلى آخر ذي الحجة، وخالفه أهل العلم في ذلك، فجمع كتاباً استدل فيه على رأيه بأقوال أهل العلم، فجاء كتاباً ضخماً ولكنه لم يطبع.

وصنف كتاباً مبسوطاً في مسألة القراءة خلف الإمام سماه (البرهان العجاب، في مسألة فرضية أم الكتاب) طبع بعد وفاته.

وله غير ذلك رسائل دينية منسوبة إلى بعض تلاميذه.

وكانت عادة الشيخ مدة مقامه في دهلي أن يعقد مجالس للتدريس في جميع العلوم، ومن ذلك ساعتان بعد صلاة الصبح لتفسير القرآن بالحديث، وكان الناس يحضرون من أماكن بعيدة لاستماع هذا الدرس بشوق عظيم.

توفي رحمه الله في دهلي سنة 1326هـ، وكان عمره حينئذ أربعاً وسبعين سنة (إنا لله وإنا إليه راجعون) طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه، وقد جمع الشيخ (نظر أحمد) تاريخ وفاته بحسب الجمل الحرفية فكانت ( قد دخل الجنة بلا حساب) والشيخ إعجاز أحمد قد أخرج من لفظ (مغفور) تاريخ وافته، وأنشد في ذلك قصيدة عربية فصيحة بليغة لا بأس بإيراد شيء منها قال:

خطب أباد نفوسنا لكبيرُ = = = وكذا الزمان على النفوس يجور

أما الهدى فتضعضعت أركانه = = = والدين أسقمه ضنىً وفتور

شمس الضحى أفلت وغاب شروقها = = = فإذا النهار كليلنا ديجور

وقال بعد هذا ولله دره:

تبكي عليه مساجد ومنابر = = = ولأهل علم رنة وزفير

قد كان مجتهداً مصيباً ناسكا = = = يحمي الشرائع سعيه المشكور

متخاشعاً لله منقاداً له = = = متلألئاً من وجهه التنوير

نقاد إسناد الحديث متنه = = = كشاف أسرار الكتاب بصير

لما سألت القلب عام وفاته = = = فأجابني تاريخه (مغفور)


هامش

  1. لعل المناظرة كانت لما حج واجتمع بدحلان بمكة فنظره شفوياً، ثم لما رجع رد عليه بكتابه (صيانة الإنسان).
  2. هي زوجة النواب صديق حسن خان أمير بهوبال الشهيرة، و (بيكم) مؤنث بك، كما أن (خانم) وتنطق في مصر (هانم) مؤنث خان، وبك وخان – ومؤنثهما بيكم وخانم – من ألقاب التعظيم.
  3. أي الربا، والسود لغة أوردية.