ان الشرق كان رائعاً في محابح العمران ، فجاء الاسلام وطمس المدنيات الشرقية القديمة ! لولا ان الحقيقة هي كما قدمنا ان المدنيات الشرقية كانت كلها قد انقرضت أو انحطت قبل ظهور الإسلام بكثير ، وان الإسلام وحده لا غيره هو الذي جدد مدنية الشرق الدارسة ، واستأنف صولته الذاهبة الطامسة ، وبعث تلك الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة و سمرقند و بخارى ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وهلم جراً، فان كانت قد بقيت للشرق آثار مدنيات قديمة فان الاسلام هو الذي وطد بوانيها ، و طرز حواشيها ، وحمل السيف بيد والقلم بيد الى أبعد ما تصوره العقل من حدود الاقطار التي لم يسبق لشرقي ان يطأها بقدمه . فاذا كان الافرنج الصليبيون من الغرب ، وكان المغول أولئك الجراد المنتشر من الشرق ، قد دمروا ما بنى الإسلام في تلك الممالك ، ونسقوا عمران هاتيك الحواضر ، وكانت منافسات ملوك الإسلام الداخلية للشهوات ، و امعانهم في الضلالات ، وعيدهم عن جادة القرآن القويمة ، وفقدهم ما يزرعه في الصدور من الاخلاق العظيمة ، وقد قضت في الداخل ، على ما عجز عن تعفيته العدو من الخارج ، فليس الذي في هذا التقلص ذنب الإسلام ، ولا التبعة في هذا الانقلاب عائدة على القرآن ، وإنما الذنب هو ذنب الهمج من الافرنج ، وجناية ذلك الجراد الزحاف من المغول ، وإنما هي تبعة المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم واشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، إلا النادر منهم . وايضاً فقد تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس من ميلاد المسيح ، وبقيت أمم في شرقي أوروبة الى القرن العاشر حتى تنصرت ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجاً من هذه السيادة العظمى بقوة العلم والفن إلا من نحو أربعمائة سنة أي من بعد ان دانت بالانجيل بألف سنة ، ومنها بعد ان دانت به بسبعماية سنة ومنها بثمانمائة سنة ، ، الخ ..
۱۲۸