وكيف نتناول ذلك الدواء ونتغذى بذلك القوت الإلهي؟ السبيل واحد لا ثاني له، وهو: العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعمًا لذيذًا، ويروِّح النفس الواجمة، ويرضي الطباع الساخطة، ويصرف العواطف المتلازبة في منافذ ومخارج حسنة العائدة على المرأة الواحدة وعلى من يلوذ بها. فلتعمل المرأة أيَّ عملٍ ينتظر يدًا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جِدِّيٍّ إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهريُّ هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه وتكبر به مهما كان صغيرًا حقيرًا، ولكن لفظة الحقارة لا تصلح لمعنى العمل؛ لأن كلَّ عمل شريف في ذاته، وليس منظِّف الشوارع بين الغبار والأقذار بأقلَّ أهمية من الرجل العظيم في قصره بين التهليل والإكبار، ولا هو أقلُّ نفعًا لأمته وللإنسانية.
إذا أحبت المرأة ذاتها حبًّا رشيدًا كانت لنفسها أبًا وأمًّا وأختًا وصديقة ومرشدة، وأنمت ملكاتها بالعمل، وضمنت استقلالها بكفالة عيشتها؛ لأن الأهل الذين تتكل عليهم قد يموتون، وللإخوة والأخوات عائلاتهم وسبلهم في الحياة، والأصدقاء يتغيرون وينسون، والثروة الطائلة قد تنقلب هباء، أما هي فلا تخون ذاتها ولا تنسى ذاتها ولا تفقد ذاتها، والثروة كلُّ الثروة في الإباء والاستقلال الفرديِّ وتعاطي عمل ما بجِدِّ واهتمام وبراعة، والأعجوبة أن هذا العمل الذي نباشره؛ هربًا من الملل، ورغبةً في قتل الوقت، لا يلبث أن يصبح ذا شأن كبير ويعين لنا غاية عظيمة مشيرًا إلى وسيلة الحصول عليها، بل لا أعجوبة في ذلك ما دام العمل الكبير مجموع تفاصيل صغيرة دقيقة، أليس أن الجوامع الأثرية البديعة، والمآذن الهيفاء الباذخة إنما برزت وثبتت بتناسق الحجر قرب الحجر؟ أو ليس أن العَلَم الذي تتفيَّأ بظله أماني الأمة ورغباتها إنما نسج من خيوط واهية، يكاد يكون كل منها بلا أهمية في ذاته؟
كذلك فلتكن مجموعة أعمالنا غايةً جليلةً نقوم بها عاليات الجباه تحت أكاليل العزم والجهاد، وقد اختفت من عيوننا خيالات الخضوع والمسكنة، وحلَّت محلها نظرة من هي لم تعد عبدة المجتمع، ولا عبدة الحاجة، ولا عبدة الرجل، ولا عبدة قلبها وهو أعظم جائر مستبد، بل نظرة من أصبحت سيدة نفسها تطيع مختارة، وتعمل مختارة بهدوء من فاز أو قُدِّر له أن يفوز في الحياة، فتكتشف عند كلِّ خطوة جمالًا جديدًا وتفرح كلَّ يوم كأنها خلقت خلقًا جديدًا.