والأغلب فيها عدم صحو الزمن وكثرة الغيوم، بحيث تمكث الشمس في الشتاء عدة أيام لا تنكشف ولا يرى جَرْمها غالبًا، فما كأنها إلا ماتت وعاش الليل، ويحسن هنا قول بعضهم:
وأما المطر، فإنه لا ينقطع في هذه المدينة في سائر فصول السنة، وإذا نزل في الغالب نزل بكثرة؛ فلذلك احتاجوا في دفع ضرره إلى جعل أعالي الدور منحدرة لتنزل منها المياه إلى أسفل الدور، وفي سائر البيوت والطرق مجاري وبالوعات، فترى وقت المطر سائر طرق «باريس» محدودة بمجار؛ كالقناة الجارية المياه، خصوصًا وأرض هذه المدينة مبلطة بالحجر، فلا تتشرب المياه أبدًا، بل تسير إلى هذه المجاري، ومنها إلى البالوعات.
وتغير مزاج الهواء والزمن في «باريس» أمر عجيب، فإنه قد يتغير في اليوم الواحد (ص ٤٩) أو مع ما بعده حال الزمن، مثلاً: يكون في الصباح صحو عجيب لا يظن الإنسان تغيره فلا يمضي نصف ساعة إلا ويذهب بالكلية، ويخلفه المطر الشديد، وقد يكون حر يوم من الأيام أربعًا وعشرين درجة، ولا يصل اليوم الآتي إلى اثنتي عشرة،2 وهكذا، فقل أن يأمن الإنسان تغير الوقت بهذه البلاد، فمزاجها كمزاج أهلها كما سيأتي. ومعلوم أنه ينبغي أن يتحفظ الإنسان من ضرر هذا التغير وإن كان هواء «باريس» في الجملة طيبًا مناسبًا للصحة، ومع أن حرها لا يصل إلى حر القاهرة في الغالب فهو غير مألوف أبدًا، ولعل ذلك للانتقال من شدة البرد إلى شدة الحر.
وأما بردها فإنه وإن كان في طاقة الإنسان تحمله من غير عظيم تعب، فإنه لا يمكن للناس الشغل إلا بالتدفئة بالنار؛ فلذلك كان في سائر قهاويها وخاناتها ومعاملها وحوانيتها مداخن مبنية في الأود، ليوقد فيها النار، وهي مرتبة على وجه بحيث لا ينتشر في الأودة دخان الحطب3 فإن هذه المداخن نافذة إلى الهواء، فيجذب الهواء الدخان،