فأعظم مدائن الإفرنج مدينة «لوندرة»، وهي كرسي الإنكليز، ثم «باريز»، وهي قاعدة ملك فرنسا، و«باريز» تفضل على «لوندرة» بصحة هوائها، كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلة الغلاء التام.
وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة في وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين؛ وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا ينتحل دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسّنة والمقبّحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها، من حيث (ص ٢٣) إنها كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرته له في مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لا يصدق بشيء مما في كتب أهل الكتاب؛ لخروجه عن الأمور الطبيعية.
وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجدًا، ولا يهودي في بنائه بيعة، إلى آخره، كما سيأتي في ذكره سياستها، ولعل هذا كله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولى أبلغ من أربعين نفسًا، لتعلم هذه العلوم المفقودة، بل سائر النصارى تبعث أيضًا إليها، فيأتي إليها من بلاد «أمريكة» وغيرها، من الممالك البعيدة، وقد بعث أيضًا عدة طلاب للعلوم ببلاد الإنكليز، لكنهم ليسوا عديدين، وكذلك ببلاد النمسا، وبالجملة فسائر الأمم تطلب العز، وتسعى إليه، كما قال الشريف الرضي: «اطلب العز، فما العز بغال».
ولا أعز من العلوم والفنون تطلبها الولاة والحكام، فإنهم كلما كانوا أجلَّ خطرًا، وجب أن يكونوا أدق نظرًا.
الباب الرابع
قد بعث الوالي في السفر إلى بلاد فرنسا ثلاثة رؤساء من أكابر ديوانه، وجعلهم رباط نظر عام على من عداهم، وهم على هذا الترتيب:
فأولهم: صاحب الرأي التام، والمعرفة والأحكام، حائز فضيلتي السيف والقلم، والعارف برسوم العرب والعجم. حضرة عبدي أفندي المهردار.