(ص ٨، ٩) فإننا كنا في زمن الخلفاء العباسيين أكمل سائر البلاد، تمدنا، ورفاهية، وتربية زاهرة زاهية، وسبب ذلك أن الخلفاء كانوا يعينون العلماء وأرباب الفنون وغيرهم، على أن منهم من كان يشتغل بها بنفسه، فانظر إلى المأمون بن هارون الرشيد، فإنه زيادة عن إعانة ميقاتية1 دولته كان يشتغل بنفسه بعلم الفلك، وهو الذي قد حرر ميل دائرة فلك البروج على دائرة الاستواء، فوجده بالامتحان ثلاثًا وعشرين درجة، وخمسة وثلاثين دقيقة، وغير ذلك. وقد أعان «جعفر المتوكل» من العباسية «اصطفان»2 على ترجمة الكتب اليونانية؛ ككتاب «ذيسقوريدس» في الأدوية. وكذلك الملك «عبد الرحمن الناصر» صاحب الأندلس، فإنه طلب من ملك «قسطنطينية» المسمى «أرمانيوس» أن يبعث إليه رجلاً يتكلم باللسان اليوناني واللاطيني ليعلم له عبيدًا يكونون مترجمين عنده، فبعث له راهبًا يسمى: «نقولا» على غير ذلك.
فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الأمثال الحكمية: «الناس على دين ملوكهم».
وقد تشتت عز الخلفاء، وانهدم ملكهم، فانظر إلى الأندلس، فإنها بأيدي النصارى الأسبانيول، من نحو ثلاثمائة وخمسين سنة.
وقد قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم، وتدبيرهم، بل وعدلهم ومعرفتهم في الحروب، وتنوعهم واختراعهم فيها، ولولا أن الإسلام منصور بقدرة الله — سبحانه وتعالى — لكان كلاشيء، بالنسبة لقوتهم وسوادِهم، وثروتهم، وبراعتهم وغير ذلك. ومن المثل المشهورة: «إن أعقل الحكام أبصرَهم بعواقب الأمور».