مرات فرأيته من الأمور العجيبة التي ينبغي التفرج عليها، وفيه كثير من الصور التي لا تمتاز عن الناس إلا بعدم النطق، وفيه مصور كثير من ملوك فرنسا وغيرهم، وكل أقارب السلطنة وكل الأشياء الغريبة، وأغلب الأشياء الموجودة في حريم السلطنة مستحسنة من جملة جودة صناعتها لا نفاستها بالمادة؛ مثلاً سائر الفراش كالكراسي والأسرِّة حتى كراسي المملكة مشغولة شغلاً عظيمًا بالقصب المخيش، ومطلية الذهب إلا أنه لا يوجد بها كثير من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية في جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر.
ثم سائر الأغنياء «بباريس» يسكنون في الشتاء في نفس المدينة وقد أسلفنا في ذكر طبيعة إقليم «باريس» أن كل بيت به مداخن تتقد فيها النيران في القيعان (والأود) وأما في مدة الحر، فمن له يسار سكن في الخلاء؛ لأن القصور بالخلاء أسلم هواء من داخل المدينة، ومن الناس من يسافر في بعض بلاد فرنسا أو ما جاورها من البلاد؛ ليستنشق رائحة البلاد الغريبة، ويطلع على البلاد، ويعرف عوائد أهلها، خصوصًا في مدة من السنة تسمى عندهم مدة التعطيل، أو مدة الفراغ، يعني البطالة، حتى النساء فإنهن يسافرن وحدهن، أو مع رجل يتفق معهن على السفر، وينفقن عليه مدة سفره معهن؛ لأن النساء أيضًا متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها، أو ليس أنه قد يأتي منهن من بلاد الإفرنج إلى مصر؛ ليرى غرائبها من الأهرام والبرابي1 وغيرها، فهن كالرجال في جميع الأمور. نعم قد يوجد منهن بعض نساء غنيات مستورات الحال يمكن من أنفسهن الأجنبي، وهن غير متزوجات فيشعرن بالحمل، ويخشين الفضيحة بين الناس، فيظهرن السفر لمجرد السياحة أو لمقصد آخر ليلدن، ويضعن المولود عند مرضِع بأجرة خاصة ليتربى في البلاد الغريبة، ومع هذا فالأمر ليس بشائع، وبالجملة «ما كل بارقة تجود بمائها» ففي نساء الفرنساوية ذوات العرض، ومنهن من هي بضد ذلك، وهو الأغلب لاستيلاء فن العشق في فرنسا على قلوب غالب الناس ذكورًا وإناثًا وعشقهم معلل؛ لأنهم لا يصدقون بأنه يكون لغير ذلك إلا أنه قد يقع بين الشاب والشابة فيعقبه الزواج.
ومما يمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ، وإن كانت بالنسبة لبيوت أهل الفلمنك كلاشيء فإن أهل الفلمنك أشد جميع الأمم نظافة ظاهرية، كما أن
- ↑ المسلات.