روح الثورات والثورة الفرنسية/مقدمة المؤلف في الطبعة الخامسة عشرة
مقدمة المؤلف في الطبعة الخامسة عشرة
مختلف الآراء في الثورة الفرنسية
لم أضع هذا الكتاب لأمدح الثورة الفرنسية أو لأنمها بل لأفسرها بماذكرته من السنن النفسية في كتاب , الآراء والمعتقدات
ومع أن الغاية التي توخيتها تجعلني لا أبالى بالآراء التي قيلت في الماضي فانني رأيت الاطلاع عليها مفيدة خصصت فصلا لبيان ما أتي به المؤرخون من مختلف الأفكار في الثورة الفرنسية .
لا تغير الكتب إلا عن آراء أصبحت قديمة، وهي و إن أمكن أن تمي. الأفكار المستقبلة قليا تعرب عن الأفكار الحاضرة ، والمجلات والجرائد وحدها هي التي تعبر عن الوقت الحاضر تعبيرا صادقا ، ولهذا فان ما يجي فيها من النقد مفيد جدا .
يمكن أن نستخرج من المقالات التي نشرت حول هذا الكتاب ثلاثة آراء دالة على ما يدور الآن حول الثورة الفرنسية من الأفكار :
فالرأي الأول بعد الثورة الفرنسية معتقدة يجب قبوله أو رفضه برمته ، والرأي الثاني يعتبرها سرا غامضة ، والرأي الثالث يعدها حادثة لا يجوز الحكم فيها قبل نشر كثير من الوثائق الرسمية التي لم تطبع بعد ، ولا يخلو البحث بايجاز عن قيمة هذه الآراء الثلاثة من فائدة.
تعتبر الأكثرية في فرنسة تلك الثورة من المعتقدات ، ولذلك تظهر لهذه الاكثرية حادثة ميمونة قد أخرجها من طور الهمجية وحررها من ظلم الأشراف ، ولا يزال يعتقد كثير من رجال السياسة أنه لولا تشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أجراء عند الأمراء الإقطاعيين .
وقد ظهرت هذه الحالة النفسية في بحث مهم خصصه السياسي الشهير مسبو إميل أوليفيه لمناهضة كتابي ، فبعد أن ذكر هذا العضو الفاضل في المجمع العلى النظرية التي تعد الثورة الفرنسية حادثة غير نافعة قال :
. تناول غوستاف لوبون هذا الموضوع جاء في كتاب حديث بحث فيه عن روح الثورة الفرنسية وتجلت فيه قوة تأليفه و بیانه و أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لا بد من نيلها في نهاية الأمر الحضارة بلا عناء لم يرض أوليفيه هذا الرأي ، فالثورة الفرنسية عنده ضربة لازب ، وقد ختم كلامه بما يأتي :.
و هل يأسف على وقوع الثورة الفرنسية من لا يريد أن يكون مسخرآ لصيد الضفادع في الغدران کی لا تقلق الأمير الاقطاعي في نومه ؟ وهل ينوح على حدوثها من لا يريد أن يرى كلاب شاب علت تخرب حقله ؟ وهل يحزن على نشوبها من لا يريد أن يسجن في البستیل لولرع رجل من بطانة الملك بزوجته أو لانتقاده أحد الوجوه ؟ وهل يأسي على اشتعالها من لا يريد أن يبغي عليه وزير أو موظف وأن يكون تحت رحمة أحد من الناس وأن يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه وأن يمينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح ؟ - لذلك أشكر ، وأنا من الطبقة الوسطى ، أولئك الذين أنقذوني بعد عناء شديد من هذه القيود التي لولاهم لظلت تقيدني ، وأهنتهم على رغم زلاتهم ،،
المعتقد الذي تجلى في مثل هذه الكلمات قد ساعد ، قصة نابليون ، على جعل الثورة مرضية عنها في فرنة، ومصدر هذا الوهم الشائع ، حتى بين كثير من السياسة ، هو المبدأ القائل إن طرق الحياة عند الأمة تكون بحسب نظمها ، والواقع أن تلك الطرق تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية ، فتأثير القاطرة في مساواة الناس غير تأثير المقصلة ، ولا ريب في نيلنا منذ زمن طويل ما بلغناه و بلغته أمم كثيرة من المساواة والحرية سواء علينا اشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل .
و يؤدى الرأي الثاني القائل إن الثورة الفرنسية سرة غامض الى محافظة هذه الثورة على نفوذها أيضا ، فاليك ماجاء في مقالة خصصها مسيو دورمون مدير إحدى الجرائد الكبيرة في باريس البحث في كتابي :
ولم تزل الحوادث المدهشة التي زعزعت أركان العالم الغرة من الألغاز ، ولم تكتشف مباحث علم النفس سر تلك الأزمة العجيبة التي ستبقى معدودة من حوادث التاريخ الخارقة. أقطاب وينشأ عن تلقى الثورة الفرنسية على هذا الوجه ظن الناس أنها سلسلة وقائع نشات عن عوامل خفية، وتدل الكلمات التي أوردناها على درجة الشكوك والريب التي تزيد البحث في الثورة المذكورة إبهامة و تسوغ حكمة العلماء الذين يقتصرون على نشر الوثائق .
إذا يرى المنتصف، الذي يود أن يكون ذا رأی صائب في الثورة . نفسه الآن إما إزاء عقائد عمياء، وإما إزاء مزاعم قائلة أن هذا الحادث العظيم يتعذر إيضاحه المعارف الحاضرة .
وقد لاح لى ، عندما شرعت في درس الثورة الفرنسية مستعينا بطريقتي في علم النفس ، أن شكوك المؤرخين في هذه الأزمة الكبيرة ناشيء عن شرحهم بالمعقول ماصدر عن روح التدين والعاطفة والجماعات من الحوادث.
وفي كل صفحة من صفحات تلك الثورة برهان على ذلك ، فنطق الجماعات، لاالمنطق العقلي ، هو الذي يكشف لنا سبب استحسان المجالس الثورية التدابير المخالفة لرأي كل عضو من أعضائها ، ولا يوضح لنا العقل لماذا تنزل نواب الأشراف في ليلة شهيرة عن امتیازات كانوا شديدى التمسك بها مع أنهم لو كانوا قد أقلعوا عنها في وقت آخر لاجتذب نشوب الثورة الفرنسية على مايحتمل، وكيف يمكننا أن ندرك علة كون الأذكياء المسالمين من أبناء الطبقة الوسطى ، الذين كانوا وهم في بعض اللجات يضعون المقياس المتری و يأمرون بانشاء المدارس الكبيرة، قد استصوبوأ أفعالا وحشية كقتل لافوازيه والشاعر شيني وهدم قبور سان دني الفخمة إذا لم نطلع على تقلبات الذات باختلاف الأحوال ؟ مم يف يمكننا ادراك السبب في انتشار الحركات الثورية إذا لم تكن عارفين سنن الأقاع الحقيقية التي تخالف ما تدل عليه الكتب من الطرق مخالفة تامة .
وقد تأصلت قواعد المنطق العقلي في فرنسة تأصلا جعل الناس لا يتصورون معه امکان وقوع حوادث التاريخ بعيدة من العقل مع أنه يجب علينا لتفهم ما يعجز المنطق العقلي عن إيضاحه من الحوادث أن تغير الطرق التي نوضح بها وقائع التاريخ . أرى الأفكار التي بنتها في هذا المؤلفستشیع سريعة ، وما نشر من المقالات الكثيرة يثبت لنا أنها أثرت في كثير من العلماء المدققين. جاء في جريدة الامس التي هي أهم مصحف انكلترة ما يأتي :
ويجب على رجال السياسة كلهم أن يطالعوا کتاب غوستاف لوبون الذي لم يبال فيه بما قيل في تفسير الثورة الفرنسية من النظريات المدرسية فأوضح ما للشعب من الشأن الضئيل في الحركات الثورية وما في عزام أعضاء المجالس وهم يجتمعون من المناقضة المطلقة لعزائمهم وهم منفردون وما سير أبطال الثورة المذكورة من الروح الدينية وما للعقل من التأثير القليل فيهم ، فلولا هذه الثورة لصعب إثبات أن العقل لا يحول الرجال وأن المجمعات لا تتجدد كما يريد المشترعون نور السلطان العظيم
حقًا إن تاريخ الثورة الفرنسية سلسلة من الحوادث التي وقعت في الغالب مستقلة بعضها عن بعض کقصة النظام الملكي الذي نقض لعدم وجود من يدافع عنه وقصة المجالس الثورية وقصة الفتن الشعبية وزعمائها وقصة الجيوش وقصة النظم الجديدة وغير ذلك من القصص الدالة في الغالب على قوى نفسية متصادمة يجب درسها حسب طرق علم النفس.
نعم قد يجادل في قيمة ما أتينا به من الشروح ولكنني أعتقد أنه يصعب بعد الآن أن يكتب تاريخ الثورة الفرنسية من غير أن ينظر إلى ذلك.