رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /طريقتنا في التحقيق
ما نقول. وليس هذا وحده، وإنما في الرسالة أشياء لم يفهمها فصورها كما هي، وأعلام لم يسمع بها، وألبسة لا يعرفها، فهو ناسخ ضعيف، لا يرقى إلى مرتبة النساخ المثقفين.
ومن هنا كانت صعوبة القراءة، فعمدنا قبل كل شيء إلى مقابلة ما في المخطوطة على ما نقل منها ياقوت الحموي إلى معجم البلدان، فاذا بياقوت يتفق في كثير من الروايات ويختلف في قليل، وذلك لأنه وقع على نسخة قريبة من هذه النسخة أشد القرب، ولعل هذه المخطوطة من حفيداتها١، لولا شدة تصحيفها.
وشيء آخر أصاب هذه الرسالة فقد عدا عليها الإهمال ونزلت بها الرطوبة، فطمست كلمات منها في كثير من مواضع الصفحات، وحلت بها الأرضة فمحت مواضع أخرى ثم تناقلتها الأيدي فزقت آخرها، على عادة المخطوطات، لقلة التجليد وضعف العناية بالمخطوطات. أما ما وقعنا عليه في ياقوت مما يكمل المبتور ويوضح المطموس فقد أعدناه إلى مكانه وملأنا فراغه، وجعلناه بين معقوفتين؛ دلالة على إضافته من ياقوت. وأما مالم تقع عليه في «معجم البلدان»، فقد أعملنــا فيه التخمين والحدس، وجعلناه كذلك بين معقوفتين. وبقي أمر هام نحب أن نقف عنده، وذلك هو آخر النسخة فهي تقف عند الورقة (۲۱۲ظ) وتختتم بثلاثة سطور جاء فيها الحديث عن الخزر، بصورة مفاجئة، من غير تمهيد. وقد عوّدنا ابن فضلان أن يقص علينا أمر انتقاله من بلد إلى بلد ومن مملكة إلى مملكة وأن يشير إلى الطريق التي سلكها، والأيام التي قضاها، والطريقة التي قوبل بها. ولكنه هنا بعد أن ينتهي من الحديث عن ملك الروس وعاداته ينتقل فجاءة إلى ملك الخزر، فيقول: «فأما ملك الحزر...» فهل يصف هذا الإقليم بعد عودته من الروسية، أم يصفه في طريق الذهاب إليها، أم يوازن بين الروس والخزر في عاداتهم؟ إنه وضع خطته في عنوان رسالته فقال: «يذكر ماشاهد في بلد الترك والخزر والروس والصقالبة والباشغرد وغيرهم»، وقد تحدث عن خوارزم ثم عن الترك وقبائلهم وعاداتهم وأطال في ذلك، ثم عن البجناك، ثم الباشغرد، ثم بلغ إلى ملك الصقالبة، فأسهب في الحديث عن مهمته عندهم وعند مليكهم وعن طبيعة بلادهم وعجائبها. فاذا رأى الروس وافوا في تجاراتهم إلى «نهر إتل» عند الصقالبة تحدث عنهم، وقص حكاية الدفن فأفاض في صفحات ختمها بكلامه عن ملك الروس، وإذا به يتكلم عن ملك الخزر في ثلاثة سطور بترت بعدها الأوراق، وحل محلها الشك. وتكلم المستشرقون وتناقشوا في هذا الأمر كثيراً.
وقد رجعنا إلى ياقوت نستنجد به كما استنجدوا، فرأينا أنه يتحدث عن الخزر فيقول٢: «وقال أحمد بن فضلان رسول المقتدر إلى الصقالبة في رسالة له ذكر فيها ما شاهده بتلك البلاد فقال: الخزر اسم اقليم من قصبة تسمى إتل، وإتل اسم النهر يجري إلى الخزر من الروس و بلغار...» فصدمنا صدمة عجيبة، لأن ابن فضلان لم يعودنا الطريقة الجغرافية في الحديث عما زاره، وإنما يقول كما رأينا انه انتقل فرأى كذا، ثم وصل إلى بلد كذا، فهو حين يصل إلى الباشغرد يقول: «فوقفنا في بلد قوم من الأتراك يقال لهم الباشغرد، فحذرناهم أشد الحذر». وحين أراد الحديث عن الصقالبة قال: «فلما كنا من ملك الصقالبة وهو الذي قصدنا له على مسيرة يوم وليلة، وجه لاستقبالنا...» وتحدث عن الروسية فقال: ورأيت الروسية، وقد وافوا في تجاراتهم، ونزلوا على نهر إتل فلم أر أتم منهم أبداناً...» فليس من المعقول في شيء أن يبتدئ حديثه عن الخزر بذكر الإقليم وتعريفه والنهر وجريانه، ولا يمهد لذلك بقول كأقواله السابقة. ولكن ياقوت عوّدنا الصدق وأمانة النقل، وهو في كل ما نقله إلى معجمه عن ابن فضلان كان ثقة وكان يطابق مافي مخطوطتنا، فكيف وقعت منه هذه النسبة إلى ابن فضلان؟
إن الاصطخري وابن حوقل يتحدثان عن الخزر٣، ويقولان الكلام الذي قاله ياقوت في النصف الأول كلمة كلمة، لا يكادان يختلفان عنه إلا في بعض الكلمات، وإلا فيا تخطي فيه العين حين النقل، أو يمليه الحفظ واللب حين الكتابة. فالنصف الأول هو هو في الكتابين وفي ياقوت يتحدث عن الملك، ثم عن الفرق الدينية، والحكام والقضاة وشكل الأتراك وهيئاتهم. ويبدأ الاختلاف في النصف الثاني عند الحديث عن خاقان الخزر، والدخول عليه فينفصل الكتابان عن ياقوت تماماً في هذا الموقع، فكأنه اتفق معهما في الشق الأول فحسب. وهو في هذا القسم الأول يتحدث عن مساجد لم يرها ابن فضلان حتماً فإنما جاء ليبشر بالاسلام وليبني منبراً. وهذا لا يتفق مع مفهوم رسالته، وإنما قد يتفق لمن وصفها بعده وتأثر بعمله و تبشيره، فليس القسم الأول من إنشاء ابن فضلان وليس من رسالته.
والنصف الثاني عند ياقوت يتحدث عن ملك الخزر فيتفق والسطور الثلاثة التي بقيت في المخطوطة عند ابن فضلان، ويتسابع وفاق السطور المطموسة في الورقة، فكأنها متحدان منذ هذا الكلام فحسب، وكأن القسم الأول نقله ياقوت عن الاصطخري وابن حوقل، ونقل الثاني عن ابن فضلان، ونسي أن يذكر مصدره في الأول فجعل النصين معاً باسم ابن فضلان لغلبة الشعور عنده بأن الرجل زار هذه البلاد فتحدث عنها هذا الكلام كله. وهنا نقلنا القسم الثاني فقط مما أثبت ياقوت متمماً لعبارة ابن فضلان، ووصلنا بين السطور الثلاثة عندنا وتتمة النص من ياقوت، وجعلناه ذيلاً للمخطوطة، كأنه يعوّض علينا الورقة الضائعة أو الورقتين الضائعتين.
وبعض المستشرقين يظن أن نص الاصطخري منقول عن ابن فضلان في الأصل - والاصطخري٤ كان حياً في سنة ٣٤٠هـ، بعد حوالي ثلاثين سنة من رحلة ابن فضلان - فأثبته ياقوت على أنه له. وبعضهم يرى أنَّ ابن رسته والبكري والاصطخري والمسعودي يشبهون آراء ابن فضلان فيما وصفوا من تلك البلاد، ولعلهم نقلوا جميعاً عن الجيهاني، وقد ألف كتابه بعد سنة ٣١٠هـ، أي بعد رجوع ابن فضلان من رحلته. وكتاب الجيهاني ضاع ولم يصل إلينا لنوازن بينه وبين مؤلفنا ابن فضلان.
ونحن لا نحقق في الجغرافيين، ولا نكتب في صدد مادة الخزر نفسها، ولكننا وجدنا ثلاثة سطور في آخر المخطوطة عندنا، وقعت هي نفسها في ياقوت تبدأ بحثاً أتم نقله ياقوت، فنقلناه عنه. واطرحنا ما نسبه إلى ابن فضلان في الشق الأول لأنه لا يشبه أسلوب صاحبنا ولا يلم برحلته في شيء، وفيه إعادة وتكرار بين الشق الأول والثاني في الحديث عن خاقان الخزر، فكان ياقوت جمع بين مصدرين على عادته، ولكنه نسي أن يشير إلى مصدر الشق الأول، فجعل الاثنين لابن فضلان —كما قلنا—.
ولعل القارئ يعذرنا في الاطالة والإسهاب، فتحن أردنا أن نتحقق من من نسبة الرسالة إلى صاحبها وصحتها، بعد أن تحققنا من وقوع الرحلة، فأثبتنا وقوع النص في ياقوت وحده مشابهاً لما عند ابن فضلان في أكثر ما نقله. وليست المهمة سهلة كما تبسطها هذه السطور في يسر وسهولة، وإنما استغرقت زمناً ليس باليسير وجهداً ليس بالقليل، لا نمنّ ولا تتكلف في امتداح ما فعلناه، فقد نخطىء في هذا التخمين وفي هذا التقدير٥، ولكننا نريد أن نضع المشاكل بين يدي المطالع كما وقعت لنا، وأن نشركه في الرأي ليكون على اطلاع بما يقرأ من حيث النسبة والصحة والدقة، فلا يتهمنا بالإسراع والإغراق في التفاؤل، وإنما يعرف أننا شككنا في كلّ كلمة قرأناها، ورددناها إلى أصلها من العربية أو التركية أو الفارسية وأننا رجعنا إلى المعاجم على اختلاف ألوانها، تمدّنا بما عندها. وعدنا إلى المستشرقين نسألهم ونقرأ تعليقاتهم، ونأخذ منهم بما اتفقوا عليه. ولكنهم اختلفوا في كل شيء من هذه الرسالة؛ فقد وقفوا عند اسم ملك الصقالبة، فهو الحسن حيناً وهو «المش» حيناً آخر، وهو مسلم قبل أن يفد ابن فضلان، بل هو أسلم بعده، فأبوه كافر اسمه يلطوار أو بلطوار أو «فلاديمير» أي «أمير فولاذ». وهم يقفون في حيرة كما نقف، لضعف المصادر عن امدادهم بتاريخ تلك البلاد لذلك العصر. ولهذا بسطنا في التعليقات أمر شكهم وحيرتهم، وتركنا للقارئ الحكم به بعد ذلك.
ولن ننسى كذلك ما بسط هؤلاء العلماء من شك في تمام هذه الرسالة وكمالها فقد رأى بعض أنها موجز الرحلة، بدليل كلمة: «قال» التي تبدأ كل مقطع طويل ولعلهم على حق في ذلك، ولكننا نجد المؤلفين القدماء يكررون هذه الجملة في كتبهم التي لا ينالها شك في تمامها. فعسى أن يجود الزمان بعالم يكتشف النسخة الكاملة للرحلة، فيصحّح ما وقعنا فيه من خطأ، ويكمل ما بدأنا به. فقد عُرفتْ منها فصول أول الأمر حتى سنة ١٩٢٤ — كما قلنا —، ثم عرفت الرسالة كما ننشرها مبتورة في آخرها، والزمان كفيل بأن يظهرها كاملة مفصّلة بعد سنين — إن شاء الله — فتزول هذه المشكلة ويموت هذا الشك.
أما أسماء الأنهار فهي مشكلة كذلك، فقد تغيرت مواقعها وأسماؤها وحار المستشرقون كذلك في ردها إلى أسمائها اليوم، لذلك ذكرنا ما انتهى إليه أهل الصنعة في جغرافية تلك البلاد، ولسنا منهم في حال إلا أن نكون ناقلين مستنيرين بهدي غيرنا، ننتظر الصواب من كل فم، والتصحيح من كل عالم واقف على الموضوع.
فنحن لا ندعي أننا فعلنا كل شيء، ولكننا على ثقة بأننا صنعنا ما كان في إمكاننا، فاتخذنا الصورة الشمسية المكبرة عن كتاب كراتشكوفسكي وبسطناها على الورق، وعلقنا عليها، وصو بناها كما انتهى إلى علمنا. وقسمناها إلى مقاطع وإلى فصول، تمشياً مع طباعة اليوم، من غير أن نبدل في ترتيب المخطوطة وفي كلماتها. فلقد أثبتناها كما هي مع إضافة يسيرة يقتضيها العلم الحديث من وضع الترقيم في الفواصل والنقط والأقواس وأضفنا البسملة في صدر الرسالة والعناوين الموجزة بين الأقواس المعقوفة، وجعلنا أوراق المخطوطة معينة، ووضعنا أرقامها بالحواشي بين معقوفتين. وضبطنا بعض كلماتها، وفعلنا كل ما يقربها إلى العرض الواضح، والطباعة المبسّطة.
ونحن نعرف أن نشر النصوص قد اتخذ على يد بعض شبابنا٦ قاعدة أفسدته حين أشاروا بأن نطبع المخطوطة كما وصلت من غير تعليق أو شرح، فلو قد فعلنا ذلك لوقف القارئ دون الفهم، وجعلناه أمام مشكلة فهم النص، وبعثنا منه الحيرة والقلق، ودفعناه عن جمال الرحلة، وكأننا صنعنا كالمستشرقين فصوّرنا المخطوطة تصويراً فحسب. ولما كان من همنا أن نقربه منها وأن نحبِّبه إليها وأن نعرِّفه إلى النصوص القديمة وإلى تراثنا العبقري، أضفنا في الحواشي ماقد يستثقله بعض ويرمي به بعض، ولكنه لا يفسد النصّ كما يتراءى لهؤلاء الشباب وإنما ينير جوانبه. والنور في الشرح خير من الضلال في الصمت والسكوت عن المشاكل وإيثار العافية.
ونحن بعد هذا كله نرجو الأجر عند الله وحده فيما صنعنا فقد عملنا لخدمة الجيل الجديد، في عصر اليقظة العربية، وقد تلفَّت إلى ماضيه ليتثبت من مفاخر أجداده وليتأكد من ضخامة ما صنعوا لأجل لغته وبلاده، لعله ينهض بمثل ما نهضوا به فيصنع لمستقبلنا كما صنعوا لماضينا، ويتكافاً عند ذلك ماض ومستقبل، ونعود لمصافحة النجوم واستقبال المفاخر ونغدو من جديد أمة حيّة تستحق الخلود والإكبار كما كنا، فقد سطرنا صفحات البقاء والعبقرية في قائمة الأمم وخارطة العالم. فعسى أن تجد هذه الصفحات عند العرب ما وجدت عند الغرب من اهتمام لائق. وعند ذلك نجد السلوان والعزاء عما بذلنا من وقت وجهد وصحة ورحلة، والحمد لله على ما يسّر وأعان.
دمشق الشام في ١٨ ذي الحجة ١٣٧٨ هـ
الموافق ٢٥ حزيران (يونيو) ١٩٥٩ م
- ↑ ذكر ياقوت في معجم البلدان بمادة «مرو» أنه أفاد من خزائن هذه المدينة وأقام بها ثلاثة أعوام ينقل ويقتبس، فلعله رأى رسالة ابن فضلان في هذه المدينة.
- ↑ معجم البلدان، الطبعة الأوربية، ٢ / ٤٣٦
- ↑ کتاب مسالك المالك للاصطخري وهو معمول على كتاب صور الأقاليم للبلخي ، ط . ليدن ۱۹۲۷ ص ۲۲۰ - ۲۲٥، وابن حوقل، ۲/ ۰۳۸۹
- ↑ لم يكتب أحد عن حياة الاصطخري، حتى أن الناشر المستشرق لم يجد نوراً يهتدي به في الحديث عنه، ولكنه رأى أنه التقى بابن حوقل سنة ٣٤٠هـ.
- ↑ رأينا أن المستشرقين الروس فعلوا مثل هذا فالصقوا نص الخزر من الشق الثاني برسالة ابن فضلان وترجموه مع الرسالة.
- ↑ لقد أرسل بعض الشباب «قواعد في تحقيق النصوص» على قلة تجربتهم، ونحن نرجع إلى القدماء من محققينا فقد ساروا في تحقيق الأحاديث سيرة يقلدها الغربيون اليوم لأنها عاقلة حقاً.