انتقل إلى المحتوى

داعي السماء: بلال بن رباح/مسألة العنصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​داعي السماء: بلال بن رباح​ المؤلف عباس العقاد


 
 


مسألة العنصر


 
 

مسألة العنصر — أو الجنس — مسألة اجتماعية كثيرة الورود على ألسنة المعاصرين وأقلامهم، ولكنها على هذا من أقدم مسائل الاجتماع التي وُجدت مع وجود القبائل الأولى. وأكثر الباحثين في المسائل العنصرية من المختصين بها بين الغربيين يردون كلمة في لغتهم إلى أصل سامي يرجحون أنه هو اللغة العربية، Race العنصر أو الجنس ويعتقدون أنها مأخوذة من كلمة الرأس التي كانت تميز بين رءوس السلالات الآدمية وغير الآدمية. وأكثر الباحثين في المسائل العنصرية من المختصين بها بين الغربيين يردون كلمة العنصر أو الجنس Race في لغتهم إلى أصل سامي يرجحون أنه هو اللغة العربية، ويعتقدون أنها مأخوذة من كلمة الرأس التي كانت تميز بين رءوس السلالات الآدمية وغير الآدمية.

ولم يكن اختلاف القبائل وتفاخرها شرٍّا كله في بداية أمره، ولا كان مدعاةً للنزاع دون غيره. فمن علماء الاجتماع من يرجع بالوشائج الاجتماعية كلها والآداب الإنسانية برمتها إلى الواشجة الأولى التي نشأت في مبدأ الأمر مع نشوء القبيلة الهمجية، ثم كانت سببًا إلى التجاذب والتعارف بينها وبين القبائل الأخرى. ومصداق ذلك في القرآن الكريم حيث جاء في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأنُثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا … [الآية: ١٣]

فكانت الواجبات التي تفرضها القبيلة على أبنائها أساسًا لجميع الواجبات التي تعلَّمها الإنسان بعد ذلك، سواء فرضتها عليه القبيلة أو الأمة أو الجامعة العنصرية أو الإنسانية بأسرها.

وقد طُبع الناس على التفاخر بما يخصهم ولا يعم غيرهم كائنًا ما كان معدنه ومدار الفخر فيه. فشاعت بينهم المفاخرة بالأنساب والأصول، كما شاعت بينهم المفاخرة بمعالم

الأرض التي يسكنونها وصنوف الطعام التي يأكلونها، وتفاضلوا بالحقائق كما تفاضلوا بالأساطير والأوهام.

فمن قديم الزمن يفخر كل عنصر بعراقته وامتيازه على غيره، ويزيده إمعانًا في عادة التفاخر والمباهاة أن تتاح له فرصة الغلبة والاستعلاء فترة من الزمن، فإن كانت الغلبة قائمة حاضرة فهي آية الفخر وحجة المباهاة، وإن كانت غابرة داثرة فهي عنده علامة على عراقة أصله وحداثة غيره، وأنه أحق من ذلك الغير بالفخر والمباهاة، وإن خدمته الحظوظ والمصادفات في حاضر أمره.

فلم تعرف أمة قديمة قط خلت من مفاخرة بعنصرها واعتداد بنشأتها وبيئتها وبلادها. والذي قال:

بلادي وإنْ جارتْ عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كرامُ

قد جمع هذه الحقيقة من جميع وجوهها، وهو يدري أو لا يدري، فليس من اللازم أن تكون البلاد أطيب البلاد، ولا أن يكون الآل أكرم الناس ليفخر بهم الرجل الذي ينتمي إليهم، وتحسب سمعتهم عليه وسمعته عليهم، فإنه ليعظمهم ويبجلهم فرارًا من المهانة التي تصيبه إذا تقاصروا عن شأو العناصر الأخرى في التعظيم والتبجيل … فهو فاخر بهم إن عظموا مساهمة منه في فخارهم، وفاخر بهم إن هانوا دفعًا للهوان عنه إذا اعترف بهوانهم، ولا حساب للبحث أو للرأي في الحالتين إلا بعد حساب العاطفة والشعور.

كان المصري القديم يؤمن بأنه هو الإنسان الكامل، ثم تتلاحق الشعوب بعده إلى أن يأتي اليونان في المرتبة السادسة.

وكان اليوناني القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المهذب ومن عداه برابرة لا يدركون مكانه من الفهم والحضارة.

وكان العربي القديم يؤمن بأنه هو الإنسان المبين الكريم، ومن عداه «أعاجم» لا يفقهون ما يقال، ولا يدينون بدين المروءة والأحساب.

وكذلك كان أبناء فارس والهند والصين. بل كذلك كانت كل قبيلة من تلك القبائل حين ينظر إلى نظائرها وإن تلاقت جميعًا في أصل قريب من الأحساب والأنساب.


وبقيت هذه الشنشنة بين أمم الحضارة في العصر الحديث فاعتز بها الأوروبيون على أبناء القارات الأخرى، ولكنهم لبثوا فيما بينهم يفاخر كل شعب منهم جاره بالعادات والأخلاق والمآثر وإن تقاربوا في السلالة واللغة والعقيدة، فليس أشد تفاخرًا بين الأوروبيين من الطليان والإسبان والفرنسيين، وهم يرجعون بلغتهم إلى اللاتينية، وبعقيدتهم إلى المسيحية الرومانية، وبعناصرهم إلى مزيج متقارب من السلالات، ولكنهم تعلموا — بوحي المصلحة المتفقة — أن يجمعوا فخرهم كله إلى فخر واحد يتقارب فيه الأوروبيون كافة، وهو «اللون الأبيض» أو الانتماء إلى القارة المجتباة بين القارات. وجعلوا هذا اللون الأبيض رسالة يبشر بها الأوروبيون من عداهم من الشعوب الإنسانية، وسموا تلك الرسالة «عبء الرجل الأبيض» أو أمانة الرجل الأبيض، أو تبعته أمام الله لهداية خلقه الذين لم يبلغوا مبلغهم من العلم والارتقاء.

وصدق العالم الإنجليزي الحديث جوليان هكسلي حين قال: إن هؤلاء الدعاة مسبوقون إلى دعواهم قبل ميلاد السيد المسيح؛ فقد سبقهم «أشعياء» من أنبياء إسرائيل فقال في إصحاحه التاسع والأربعين:

اسمعي لي أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد. الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي. وجعل فمي كسيف حاد. في ظل يده خبَّأني وجعلني سهمًا مبريًّا. في كنانته أخفاني. وقال لي: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد. أما أنا فقلت عبثًا: تعبت، باطلًا وفارغًا أفنيت قدرتي. لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي.

والآن قال الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب إليه فينضم إليه إسرائيل. فأتمجد في عيني الرب وإلهي يصير قوتي. فقال: قليلٌ أن تكون لي عبدًا لإقامة أسباط يعقوب ورد محفوظي إسرائيل، فقد جعلتك نورًا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض. هكذا قال الرب فادي إسرائيل …

فرسالة الرجل الأبيض التي تمخض عنها القرن التاسع عشر كله لم يذهب أصحابها إلى أبعد من هذا المدى الذي سبقهم إليه بنو إسرائيل قبل ميلاد السيد المسيح بسبعة قرون.

وظلت المفاخر العنصرية كلها من قبيل هذه العادات الاجتماعية التي لا يرجع فيها إلى قياس منطقي ولا موازنة علمية، فكانت أشبه شيء بمفاخرات الصبيان بعضهم لبعض بآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وجيرانهم وبيوتهم التي يسكنونها ومدنهم التي ينشئون فيها، وكل شيء يتصل بهم وتنعقد فيه المقابلة بينهم وبين غيرهم. وفحوى مفاخر الأجناس من هذا القبيل أن كل جنس هو أفضل الأجناس لغير سبب. وليس هذا من القياس المنطقي ولا الموازنة العلمية في شيء.

ثم اتسع نطاق البحث العلمي في القرن التاسع عشر فأدخل الفوارق بين الشعوب في موضوعاته الكثيرة، وجعل لها علمًا خاصًّا أو بابًا خاصًّا من أبواب المعرفة يسمى معرفة الأجناس البشرية.

وانتهى به البحث إلى وجود الفوارق الصحيحة بين خمسة من الأجناس التي ينتمي إليها شعوب البشر كافة، وهي الجنس القفقاسي أو الأبيض، والجنس الزنجي أو الأسود، والجنس المغولي أو الأصفر، والجنس الأسمر أو أهل الملايا، والجنس الأحمر أو سكان القارة الأمريكية الأصلاء.

واختصر بعضهم هذا التقسيم إلى ثلاثة أقسام فجعل الأجناس الصفراء والسمراء والحمراء فروعًا من أصل واحد. وهو اختصار له سند معقول.

وقد عني أصحاب هذه التقاسيم بالفروق التي تورث وتنتقل مع الأجيال؛ أي بالفروق التي يسمونها فروقًا بيولوجية دون غيرها من الفروق الاجتماعية التي تكسب بالقدوة والمحاكاة.

وتناول العالم اللغوي الألماني ماكس موللر دراسة الأجناس من الناحية التي تعنيه، وهي ناحية المقابلة بين اللغات. فاستخدم كلمة اللغات الآرية وأحياها من جديد، بعد أن سبقه إلى استخدامها السير وليام جونس في أواخر القرن الثامن عشر، وقرر أن لهجات اللغة الهندية الفارسية نشأت من مهد واحد في أواسط آسيا التي كان الأقدمون يعرفونها باسم «أريانا»، وأنها كانت في نشأتها الأولى لغة قبيل واحد من الأجناس البشرية، وكلا القولين اليوم خطأ عند علماء هذه المباحث فيما أثبته جوليان هكسلي من كلامه عن الجنس في القارة الأوروبية.

وأحس العالم الألماني الكبير أن دعوة الجنس الآري ستخرج من حيز التفكير العلمي إلى ميدان الصراع على الشهوات السياسية، فحذر قراءه من الخطأ في تفسير كلامه وعاد إلى التحذير من ذلك في شيخوخته حيث قال: «لقد ناديت مرة بعد مرة أنني إذا ذكرت الآرية فلست أعني الدم ولا العظم ولا الشعر ولا الجمجمة. وإنما أرمي إلى قصد واحد وهو أولئك الذين يتكلمون باللغة الآرية … ومتى تكلمت عنهم فلست أتبع في ذلك الخصائص التشريحية، ولا أعني أن أبناء السكنديناف ذوي العيون الزرق والشعر الأصفر قد كانوا قاهرين أو كانوا مقهورين، ولا أنهم قد اتخذوا لغة السادة السمر الذين تغلبوا عليهم أو كان الأمر عل نقيض ذلك … وعندي أن عالم الأجناس الذي يتكلم عن العنصر الآري والدم الآري والعيون الآرية والشعر الآري إنما هو في خطيئته العلمية كاللغوي الذي يتكلم عن معجم مستطيل الرأس أو أجرومية مستديرته على حد سواء.»

وكان القرن التاسع عشر قرن «مذهب النشوء»، كما كان قرن المذاهب العلمية والفلسفية من شتى نواحيها، فما زالت الأقوال في مذهب النشوء تتسع وتتشعب حتى عرض لبعض الباحثين فيه أن الأجناس البشرية تنتمي إلى أصول متفرقة لا إلى أصل واحد أو شجرة واحدة، وأن القردة العليا هي أجناس بشرية سفلى، وأن المغولي والقرد المعروف بالأورانج نبتا من أصل واحد، وأن الزنجي والغوريلا والشمبانزي تنتمي إلى أصل آخر، وكان رأسَ القائلين بهذا الرأي عالم ألماني من علماء الأجناس هو الدكتور هرمان كلاتش Klaatsch أستاذ هذا العلم بجامعة برسلاو الألمانية. فأعلن في أوائل القرن العشرين رأيه هذا وأيده بما بدا له من الشواهد والملاحظات التي كشفت عنها مقابلاته بين أنواع القردة وأنواع الإنسان.

لكن القرن التاسع عشر لم يكن قرن المباحث العلمية ولا قرن النشوء والتطور دون غيرهما. بل كان كذلك قرن التوسع في الاستعمار وتسخير العلم لخدمة المطامع الاستعمارية والمنازعات السياسية … فظهر من الكتاب من يبشر بالجامعة اللونية أو العصبية الجنسية على أساس اللون والعنصر، وقام في أوروبا من يبشر بامتياز أجناس الشمال على سائر الأجناس البشرية، ومن يرد الفضل في كل فتح من فتوح العلم والثقافة والحضارة إلى أصل الجنس الآري المزعوم في الشمال، وأشهر من اشتهر بهذه الدعوى «آرثر دي جوبينو» في فرنسا، وهوستون شمبرلين الإنجليزي المتجرمن في ألمانيا، ولم تخل أمريكا من نصيبها من هؤلاء الدعاة، وهي ميدان نزاع بين الأجناس البيضاء والحمراء والسوداء، وميدان مفاخرة بين المهاجرين الأوروبيين الذين يمتون بالنسب إلى أصول مختلفة. كالسكسون واللاتين وأمم الشمال والجنوب. فكان لوثروب ستودارد  Lothrop Stoddard وماديسون جرانت Madison Grant على رأس المبشرين بهذه العقيدة في الولايات المتحدة، ولم تكن كراهة الأجناس الملونة هي الباعث الوحيد في نفوس هؤلاء إلى التبشير بمزايا الرجل الأبيض أو مزايا الجنس الآري خاصة من بين الشعوب البيضاء. وإنما كانت كراهتهم للحكومة الحرة — أو حكومة المساواة بين الطبقات — باعثًا آخر إلى إنكار صفاء الشعوب التي سمحت بهذه الحكومة الحرة، واتهامها بالنكسة والفساد من جراء امتزاجها بأجناس غير الجنس الآري أو الجنس الشمالي المجيد، فكانت هذه النكسة مدرجة لها إلى النزول عن أوج السيادة والإذعان لشريعة المساواة.

ولا شك أن حروب نابليون بونابرت كانت لها يد قوية في تمكن هذه النزعة بين الأمم الجرمانية خاصة؛ لأنها كانت سلاحها الذي تدرأ العار به عن فخارها القومي في مجال الصراع بينها وبين اللاتين أو بين أمم الشمال وأمم الجنوب، وقد كان نابليون — قائد فرنسا اللاتينية في صراعها مع الجرمان — منحدرًا من جنوب الجنوب بالقياس إلى القارة الأوروبية، فكانت صيحة الفخار القومي التي تستثار بها الأمم الجرمانية إلى الوحدة هي تعظيم مزايا الجنس الشمالي الذي ينتمون إليه، واتفق ذلك في عصر البحث عن الأجناس وعصر النشوء والتطور وعصر السباق إلى الاستعمار وعصر الديمقراطية التي تخلف فيها الجرمان عن جيرانهم، فكانت صيحة التفوق العنصري على أشدها بين الألمان، وكادت عقيدة الجنس الآري أن تنحصر فيهم بعد مولدها في بلاد الإنجليز على لسان واحد منهم وهو العلامة ماكس موللر الذي سبقت الإشارة إليه، ومن ثم بدرت دعوةٌ إلى التفوق العنصري لم تكن لها صلة بالثقافة الألمانية الحديثة من قريب أو بعيد.

 

وقد تعددت الأسباب التي ألهجت ساسة الألمان بعد الحرب العالمية الماضية (1914–1918) بمسألة العنصر ودعوى الآرية أو الأقوام الشمالية وما لها من الرجحان على خلائق الله كافة من أوروبيين وغير أوروبيين، سواء في الزمن القديم أو في الزمن الحديث.

فقد احتاج الساسة الألمان إلى محاربة المذهب الشيوعي فوضعوا بإزائه مذهب الاشتراكية «الوطنية» وهي تعتصم بالخصائص القومية في وجه الدولية التي يبثها الشيوعيون؛ وفاقًا لعقيدتهم المعروفة، وهي عقيدة الثورة على الأوطان والأديان.

ووافقتهم الخصائص القومية في حربهم للشيوعيين من وجه آخر غير المقابلة بين المذهبين، وذاك هو المقابلة بين عنصر السلافيين وعنصر التيوتون الذي ينتمي إليه الألمان. فكانوا يقولون: إنهم هم حماة الحضارة الأوروبية من زحوف البرابرة التي تهددها من قبل آسيا في الزمن الحديث.

واستغلوا دعوة العنصر الآري استغلالًا غير هذا وذاك في محاربة اليهود باسم الساميين.

واستغلوها مع هذا وذاك لاستنهاض نخوة الأمم الجرمانية بعد هزيمتها المنكرة في ميادين القتال، فنفخوا في أوداجها أنها أهل للظفر — وليست بأهل للهزيمة — لأنها خلقت للسيادة وتنزهت في سلالتها الآرية عن شوائب الأجناس، وأدخلوا في روعها أنها كانت وشيكة أن تظفر بأعدائها لولا خيانة العمال من قبل الشيوعية، وخيانة اليهود من قبل الشيوعية تارة ومن قبل أصحاب الأموال تارة أخرى.

فأصبحت دعوة العنصر هوسًا جامحًا كهوس التعصب في كل عقيدة من العقائد الشعورية، وبلغ من التهوس بالدم الآري المزعوم أنهم جعلوه فلسفة في الحكم وفلسفة في الأخلاق والفنون والآداب، فكانوا يقولون: إن الحكومة بنية حية تنبت من الدم القومي كما تنبت الجوارح في الأجسام، وإن الزعيم تركيب داخل في تلك البنية بتقدير من طبيعة الكون أو طبيعة الخلاق العظيم، وكان هتلر ينادي في كتابه:

 

إننا معشر الآريين لا نعرف الحكومة إلا كبنية ذات حياة يتلبس بها الشعب من الشعوب …

 

فهي شيء لا يدخل في الإرادة ولا في التربية السياسية ولا في نظم التشريع والانتخاب. وتطوح الغلو بدعاة هذه العنصرية حتى بلغوا بها — مع تلك البواعث النفسية والسياسية — مبلغًا لم يسبقهم إليه سابق في عالم البحث ولا في عالم الخيال، فجعلوا أجناس البشر فصائل تتعاقب طبقة تحت طبقة حتى تلتقي بالقردة ولا يبعد أن تناسلها، وجعلوا أنفسهم نخبة مختارة بين فصائل الآرية جمعاء ترتقي إلى الذروة العليا في ذلك الترتيب، وعادوا إلى كل رجل من أصحاب القرائح الخلاقة بين عظماء الأمم فألحقوه بالآريين على وجه من الوجوه، وعادوا إلى كل اختراع من مبتكرات الصناعة وأدوات الحضارة فنسبوه إلى شعبة آرية مقيمة في موطنها أو مهاجرة إلى وطن من الأوطان، فحصروا الخلق والقيادة في الآرية المزعومة دون غيرها، وجعلوا العناصر الأخرى جميعًا عالة على الآريين ينتفعون بما يخلقون، ويدينون لسيادتهم طائعين أو كارهين.

ولعل هذا الغلو من جانب دعاة العنصرية قد جنح بنقاد هذا المذهب إلى الغلو في إنكار خصائص الأقوام والأجناس، وهم إذا غلوا في هذا الطرف كان لهم شفيع من الحجج والشكوك أدنى إلى الإقناع من شفيع العنصريين.

وإنما نعرض للبواعث السياسية التي امتزجت بالحقائق العلمية في مسألة الجنس والعنصر؛ لأن الإلمام بهذه البواعث يعين على تجريد الحقائق العلمية من أخلاطها الغريبة ويرجع بها كرة أخرى إلى حيز الدراسة الفكرية والبحث المعقول.

ومن الواجب أن نصغي أولًا إلى دواعي التشكيك في تلك الدعوة الجازمة وهي كثيرة، فإنها على التحقيق تدعو إلى الشك في دعوة العنصريين، وتبطل اليقين بكل عقيدة من تلك العقائد التي خيل إليهم أنهم يؤمنون بها؛ لأنهم يشعرون بالحاجة إلى ذلك الإيمان.

فمن دواعي الشك في العنصرية الآرية أن العنصر الآري المزعوم لم يكن له وجود قط كأنه سلالة من السلالات الوراثية على النحو الذي تخيلوه، وإنما كان جامعة لغوية يشترك فيها أقوام مختلفون لا يتأتى ردهم اليوم إلى سنخ واحد، ولا يتشابهون في الخصائص العنصرية إلا كما يتشابه الأقوام الذين يتكلمون اليوم بلغة واحدة على تباين المواطن والألوان.

قال العالم الإنجليزي جوليان هكسلي في كلامه عن العنصر أو الجنس بالقارة الأوروبية: إن دعاة العنصرية يتكلمون عن الجرمان والآريين وأقوام الشمال «أو النورديين» كأنهم سلالة واحدة، وهذا خلط لا مسوغ له من الحقائق. وإنما المقطوع به أن هناك نموذجًا بشريًّا يعرف بالنموذج الشمالي موزعًا بين الأقطار الشمالية في أوروبا من الجزر البريطانية إلى التخوم الروسية، وأن هذا النموذج وهو على أقرب ما يكون إلى النقاوة والصفاء في بعض الأقاليم السكندنافية لم ينسب إليه قط فتح من فتوح الحضارة أو كشف من كشوف العلم أو أداة من أدوات الاختراع التي اشتهرت في التاريخ، وقد روجعت مخلفات العصر الحجري التي ترد إلى ما قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة في بريطانيا العظمى؛ فإذا هي تمثل ثقافة من ثقافات البحر الأبيض المتوسط حملها ذووها إلى شبه الجزيرة الأيبيرية — التي نعرفها باسم الأندلس — ثم إلى فرنسا فالجزر البريطانية.

ومن المحقق أن الخطوات الأولى التي خطاها الإنسان إلى الحضارة حين تعلم الحرث والكتابة وبناء المنازل ونقل الأحمال على الدواب قد تقدم بها في جوار البحر الأبيض، حيث تقيم الأمم السمراء التي لم تنسب إلى السلالة النوردية، ومن المحقق كذلك أن مشاهير الجرمان أمثال جيتي وبتهوفن وكانت كانوا مستديري الرءوس ربعة في القوام، وليس نابليون ولا شكسبير ولا أينشتين ولا غاليليو وعشرات من أمثالهم على الصفة التي يزعمونها للنورديين، ومن طرائف المصادفات أن اللون الأشقر والقوام الطويل الرشيق لا يعرفان لزعيم من زعماء الدعوة النوردية أو الآرية المزعومة. فهتلر أسمر وجورنج سمين بادن وجوبلز قصير دميم، وزعماء «الجنكر» من سكان ألمانيا الشرقية تختلط فيهم ملامح السلافيين والتيوتون، وهم أكبر الدعاة إلى السيادة الجرمانية على الأمم قاطبة.

ويتفق علماء الأجناس ووصف الإنسان على توزيع السلالات في العنصر الواحد، كما يتفقون على ندرة النقاوة المحض في عنصر أو سلالة. فالجنس الأبيض في القارة الأوروبية وما جاورها ينضوي إلى عنوان واحد، ولكنه ينقسم إلا السلالات النوردية والألبية وسلالة البحر الأبيض المتوسط، وهذه السلالة الأخيرة تنضوي إلى عنوان واحد ولكنها تنقسم إلى ليبيين وأيبيريين وليجوريين نسبة إلى جبال الألب ما بين البحر وسافونا السفلى، وقد يضاف إليهم البيلاسجيون Belasgian الذين ينعزلون وحدهم في بحر «إيجه» على مقربة من اليونان.

والجنس الأسود، على كونه من العناصر المتميزة بين أجناس البشر، يختلف في بعض الصفات وإن تماثل في اللون أو تقارب فيه، فقد عرفت القبائل السوداء في أستراليا ولكنها تخالف القبائل الأفريقية في الخصائص الوراثية؛ بل يقع الخلاف في بعض الملامح والأخلاق بين السود المتجاورين من أبناء القارة الأفريقية أو أبناء الإقليم الواحد منها، فالبوشمان والهوتنتوت كلاهما من سود أفريقية ولكن الأولين قصار وثَّابون مولعون بالصيد والقتال، والآخرين طوال يرعون الماشية ويميلون إلى الاستقرار، ويجاورهم السود من أبناء قبائل البانتو الذين يعمرون السودان الجنوبي وبعض أقاليم الصحراء إلى الشواطئ الغربية، وهم جماعات شتى بين رعاة رحل مقاتلين وزراع مقيمين موادعين، وليست فوارقهم في اللغات بأقل من فوارقهم الكثيرة في الملامح والسمات والعادات.

 

وبعض هذه الشواهد المتواترة يُقرر لنا أن السلالات البشرية لا تبقى على وحدتها وانفرادها مع تعاقب الأجيال واختلاف مطارح الهجرة والانتقال، ولكنها تتوزع وتتفرع وينتشر التوزيع والتفريع في خصائصها ومزاياها. وليس أدعى من ذلك إلى التشكيك في مزاعم العنصريين الذين يحصرون مزايا البشر العليا جميعًا في سلالة واحدة تنفرد بها وحدها بين سائر السلالات.

ومن دواعي الشك القوية في مزاعم العنصريين أن كثيرًا من المزايا التي يصفون بها سلالة من السلالات يسهل الرجوع بها إلى عواملها المحلية أو الاجتماعية التي لا تحسب من العوامل الوراثية الحيوية. ونعني بها ما يُعرف بالعوامل البيولوجية.

فقد زعموا — مثلًا — للسلالات الأوروبية أنها انفردت بحب المعرفة النظرية وملكة البحث عن حقائق الأشياء و«التفلسف» المجرد الذي لا يرمي إلى المنفعة القريبة سواء منها ما ينتفع به الأفراد أو ما تنتفع به الجماعات. وقالوا: إن الشعوب الشرقية لا تحب المعرفة هذا الحب ولا تتجرد للمباحث الفلسفية هذا التجرد، ولكنها تعنى بالعلم لتطبيقه في الصناعات ومرافق العيش ومطالب الحياة العملية، ودليلهم على ما يزعمون ذلك الفارق الظاهر بين ثقافة اليونان وثقافة المصريين.

وحقيقة الأمر أن البحث عن أسرار الغيب وقوانين الوجود يدخل في سلطان الكهانات القوية وأن هذه الكهانات القوية ترسخ وتتوطد وتبسط يديها على العقول إلى جانب الدول العظيمة التي لا بد من قيامها في أودية الأنهار الكبيرة. فحيثما وجد نهر كبير في صقع من الأصقاع لم يكن هنالك بد من قيام دولة عظيمة على شطيه تسوس الري والزرع وتصون الأمن وتضمن سلامة المعاملات، ومتى قامت هذه الدولة العظيمة لم يكن لها بد من الاعتماد على دعائم الدين وسلطان الكهانة والتفرد بحق البحث في العقائد والسيطرة على عالم الروح والضمير، وكثيرًا ما تجتمع الوظيفتان في شخصٍ واحد كما اتفق لبعض الملوك الأرباب أو «أنصاف الأرباب» في التاريخ القديم، فإذا أصبحت المباحث الغيبية والمعارف التي تتناول أصول الوجود حقًّا للكهانة تحميه الدولة، فليس من المعقول أن تتسع الحرية للناس يثبتون فيها وينكرون كما تتسع لهم في غيبة الكهانة القوية والدولة العريقة، ولا مناص من اختلاف مقاصد التفكير جيلًا بعد جيل بين الأمتين حتى يلوح للنظر العاجل في النهاية أنه اختلاف بين طبيعتين أو معدنين من معادن الخليقة الإنسانية.

وقد كانت أمم الشرق القديم دولًا لها كهانات قائمة قبل أن تظهر الفلسفة اليونانية بألوف السنين، فامتد تفكير اليونان إلى محاريب الفلسفة التي كانت حرمًا منيعًا في ظل الكهانات الشرقية لا يتخطاه عامة الناس.

وظهر الفارق من أجل ذلك بين ثقافة اليونان وثقافة الشرقيين، ولو انعكس الأمر بين أرض اليونان وأودية النيل ودجلة والفرات لانعكست الآية بلا مراء.

ومما يؤيد هذه الحقائق أن الكهانة القوية صُنعت في أوروبا حين توطدت فيها مثل ما صنعته الكهانات في الشرق القديم. فلما امتد سلطان الكنيسة البابوية على الأمم الأوروبية ضرب الحجر على العقول فأحجم الناس دهرًا طويلًا عن البحث المجرد والتفكير في حقائق الوجود، وبلغت الكهانة الأوروبية على حداثتها ما بلغته كهانات الشرق بعد أحقاب وأحقاب تتوالى من بداية عهد التاريخ.

كذلك زعم بعض النقاد العسكريين من أهل أوروبا أن الأوروبيين يمتازون على الآسيويين والأفريقيين في معدن الشجاعة والبطولة الحربية، واستدلوا على ذلك بانتصار اليونان مع قلتهم على الفرس مع كثرتهم في معركة ماراتون ومعركة سلاميس.

فالواقع الذي أسفرت عنه دراسات الثقات من النقاد العسكريين المحدثين، أن الفخار الوطني قد لعب لعبته المعروفة بأخبار المعركتين فبالغ فيها جد المبالغة وأضفى عليها ثوبًا من الحماسة الخيالية خرج بها من حيز التاريخ الصميم إلى حيز الملاحم الهومرية.

فلم يدر في خلد «دارا» يومًا من الأيام أن يستولي على أرض اليونان؛ لأنها أرض جرداء لا تنفعه للزراعة ولا للتجارة ولا يخشى منها الخطر العسكري على دولته المترامية الأطراف، وإنما عناه أن يؤدب إريتريا وأثينا لأنهما تجرأتا على معاونة اليونان الثائرين عليه في آسيا الصغرى، واغتنم لذلك فرصة الشقاق بين المستبدين وأنصار الحرية في أثينا أو قيل إنه تلقى من زعماء الشعب المتمرد وعدًا بالانضواء إليه وخذلان أولئك المستبدين.

فأخمد الثورة في آسيا الصغرى ثم زحف على «إريتريا» فعصف بها وأرسل أهلها أسارى وسبايا إلى شطوط الخليج الفارسي يسامون فيها سوم الأرقاء.

ثم تقدم إلى أثينا وفي حسابه أنها منقسمة على نفسها مسرعة إليه بالتسليم ولو من بعض طوائفها وزعمائها، فلما وقع ما لم يكن في حسبان الفرس ولا اليونان واتفقت كلمة الأثينيين على الدفاع عن بلادهم لم يشأ أن يطيل الحصار؛ لأنه لم يقصد إلى إسقاط المدينة ولم يجد في الأمر ما يستحق المطاولة والعناء.

أما معركة سلاميس فقد كانت المصادفة فيها أغلب من التدبير. شُغل الفرس بعد معركة ماراتون بالثورة المصرية ثم خرج زركسيس لقتال اليونان في جيش ضخم مختلط الأجناس لكنه دون الضخامة التي صورها اليونان بكثير، وكانت ضخامته واختلاطه عائقًا له ولم تكن من مزاياه ومرجحاته؛ لأن قيادة جيش كبير من قبيل واحد أيسر جدًّا من قيادة نصف هذا الجيش وهو مختلط الأجناس متعدد الأهواء، ولأن الجيش كان مرتبطًا بمعونة الأسطول الذي يلازم الشاطئ ويحمل له المئونة والعتاد ويتكفل بنقله في المجازات البحرية، فأصبح الجيش والأسطول معًا مقيدين بطريق واحد لا يعدوانه ولا يغيب علمه عن اليونان. ولما التقى الأسطولان في سلاميس كانت كثرة السفن الفارسية عائقًا للأسطول أيضًا ولم تكن من مزاياه ومرجحاته؛ لأن المكان أضيق من أن يتسع لمناورات الأسطول كله، ولأن زركسيس لم يتقدم إليه إلا لعلمه باختلاف قواد اليونان في إدارة المعركة البحرية، وكان الواقع أنهم مختلفون وأن بعضهم أعلن في مجلس الحرب نية التراجع بمعظم السفن من سلاميس.

فلما نشبت المعركة قبل أن يتم هذا التراجع كانت الكفة الراجحة في جانب اليونان، وأصبح تموين الجيش الفارسي ضربًا من المحال بعد ضياع السفن التي مني بخسارتها في المعركة، فعدل زركسيس عن المطاولة في المعركة البحرية وإن كان قد ظفر بالأثينيين في المواقع البرية.

ولا شك أن الذي أصاب الفرس في هذه المعارك قد كان يصيب اليونان لا محالة لو أنهم كانوا في موضعهم وكانوا ينقلون الجيش مثل نقلهم وهو في اختلاطه وتعدد أهوائه.

فليست المسألة كلها مسألة اختلاف في معدن القوم أو مناقب السلالة، ولكنها اختلاف في الأحوال والملابسات، وخليق بالذين ينسون آفة الاختلاط في الجيوش ويحسبون مغبتها على الفرس أو الشرقيين دون غيرهم، أن يذكروا أن الصليبيين على وفرة جموعهم وانتمائهم جميعًا إلى العنصر الأوروبي قد أصابتهم الهزيمة على أيدي الشرقيين وهم دولة واحدة تقل عنهم في العدد والعتاد ولم تعوز الصليبيين في تلك المواقع حرارة العقيدة وشدة المراس.

ومع هذا ألا يقول دعاة البدعة الآرية إن الفرس قديمًا من سلالة الآريين وإنهم أقرب إلى أمم الشمال من يونان الجنوب؟

إن العالم النمسوي فردريك هرتز يذكر أن اختلاط الزنوج بأهل أوروبا كان في الزمن القديم، ومن المفيد في هذا الصدد أن ننقل هنا ما أوردناه في كلامنا على مفاخر الأجناس بالجزء الثاني من «ساعات بين الكتب» وهذا بعض ما جاء فيه:

 
للزنوج أثر في أوروبا تدل عليه الجماجم التي وُجدت في ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وكرواتيا ومورافيا، ووجد ما يشابهها منذ ثماني سنوات في أفريقيا الجنوبية. وقد بقي أثر للأقزام السود في جبال الألب إلى عهد بنيني الذي تكلم عن هؤلاء الأقزام وعززت كلامه القصص والأساطير.
 
ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون في الشرق لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلًا في مدى سبعة وعشرين يومًا من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور أخرى؛ منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير إذن من زوجته، وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي ثم من شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان.

ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين. فيقول له هرتز: إن أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون ويحكم على أمم الشمال بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضًا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين — كرشمر وكيسلنج وفك — أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسًا واحدًا من الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة؛ لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب فيما يقول هيرودوت. والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سامي وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه اسم سامي آسيوي محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة الآخرين.

ولا يريد هرتز أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب ولا جنس من الأجناس؛ لأنه يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام. فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس وأحد كبار الشعراء في الدنيا، وسليمان وهو زنجي آخر كان في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني وأصبحت صديقة حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو معروف.

يقول هرتز: «لا ترى أحدًا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر. أما في بني الإنسان فالفرق اليسير — بالغًا ما بلغ من التفاهة — كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة. وما الفرق هنا مع هذا إلَّا اختلاف في الدرجة لا في الجوهر. فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في الجميع.»

كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندًا وأثبت بينة من كلام المغرقين في تمجيد الأوروبيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين.

فلا وقائع التاريخ ولا مباحث العلم ولا مشاهدات العيان تؤيد دعوى العنصريين الذين يستخلصون من النوع البشري كله نخبة واحدة ويفردونها بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق بين السلالات الإنسانية.

ولكننا نتجاوز الحد المأمون إذا تجاوزنا هذه الحقيقة إلى ما وراءها، فكل ما هو محقق في صدد المفاخر العنصرية، أن العلم لا يؤيد الامتياز المطلق الذي يدعيه العنصريون لبعض السلالات، ولكنه لا ينفي وجود الاختلاف بين العناصر ولا توارث الخصائص الجسدية وما يتعلق بها من الخصال النفسية. فهذه فروق موجودة يزداد ظهورها في بعض الأفراد وينقص في آخرين ولكنها لا تبطل ولا يتأتى لنا أن نتجاهلها ونتجاوز عنها إلا إذا تجاوزنا العيان وأغضينا عن المحسوس الماثل لجميع الأذهان.

وقد يوجد من العنصرين المختلفين شخصان يتشابهان وتصعب التفرقة بينهما على الباحث المحقق فضلًا عن الناظر في عرض الطريق. ولكن التشابه حينًا لا يمنع الاختلاف في جميع الأحيان، ولو ذهبنا نبطل المخالفة بين الأنواع كلما وجدت المشابهة بينها لأمكن إنكار الفارق بين الإنسان والحيوان على هذا القياس، فإذا قيل: إن الحيوان يمشي على أربع أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان يمشي على أربع، وإذا قيل: إن الحيوان أعجم أمكن أن يقال كذلك: إن بعض الإنسان أبكم وإن بعض الطير ينطق كما ينطق الإنسان، وإذا قيل: إن الحيوان مسلوب العقل والتفكير أمكن أن يشار إلى أفراد من الناس لا يعقلون ولا يفكرون. وإذا قيل: إن الإنسان والحيوان لا يتناسلان أمكن أن يقال: إن الكلب حيوان والهر حيوان وهما لا يتناسلان.

فوجود المشابهة في بعض الأفراد لا ينفي المخالفة في عامة الأفراد. وقد يتعذر الفارق الحاسم بلغة العلم المقرر ولكنه مع ذلك يبقى فارقًا حاسمًا إلى أن يوجد التعريف.

والحدُّ المأمون الذي لا نريد أن نتجاوزه في هذا الصدد هو ما أسلفناه من أن الدعوى التي تفرد بعض العناصر بأفضل المزايا وأشرف الأخلاق هي دعوى يعوزها الدليل القاطع من وقائع التاريخ ومباحث العلم ومشاهدات العيان. أما الاختلاف بين خصائص الأجناس فهو موجود لا شك فيه وإن تفاوتت درجات ظهوره في بعض الأفراد.

فمن المشاهدات — ومن البديهات معًا — أن العزلة في النسب وفي التعرض للمناخ والبيئة وأحوال المعيشة وعادات الاجتماع تعقب العزلة في الصفات الجسدية والخلائق النفسية على السواء.

ومن المشاهدات — ومن البديهات معًا — أن الشعب الذي يقضي عشرة آلاف سنة ولاءً في مكافحة العوارض الجوية والاحتيال على موانع الطبيعة والتأهب للمفاجآت من جيرانه ومن طوارق الأرض والماء والسماء، لا يشبه شعبًا قضى مثل تلك الدهور في الدعة أو في التعويل على المصادفات وهو معفي من الحيلة والجهد في صراع الحياة.

وقد أظهر العلم الحديث أن التوارث في الخَلق والخُلُق منوط بالناسلات Genes التي توجد في خلايا الذكور والإناث، وأن هذه الناسلات تتقارب في أفراد القبيل الواحد كما تتقارب في أفراد الأسرة الواحدة. ولكننا لا نعرف اليوم على وجه التحقيق كم من الزمن يكفي لتحويل العوارض التي تنشأ من البيئة والمعيشة إلى موروثات تستقر في تكوين الناسلات وتنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا نعرف على وجه التحقيق هل ما يوجد الآن من اختلاف الناسلات وليد الاستمرار الطويل في عوارض البيئة والمعيشة، أو هو وليد أصل آخر من أصول الاختلاف في التكوين؟

والذي يلوح لنا من المشاهدة المحسوسة، ونعتقد أن العلم وشيك أن يمثله في تجربة من التجارب المقررة — أن فراسة الوجه الإنساني تدل على كثير، وأن هذه الدالة مرتبطة أوثق الارتباط بالأعصاب ثم بالعظام.

فأنت لا تخطئ تاريخ الأمة كلها إذا نظرت إلى وجوه أبنائها، ولا يفوتك أن تعلم أن هذا الوجه السهل الذي تغلب فيه ملامح اللحم والدم على ملامح الأعصاب والعظام هو وجه أناس مارسوا في ماضيهم قليلًا من الكفاح وقليلًا من التجارب وقليلًا من حوافز النفوس، وأن ذلك الوجه الحازم الذي يلفتك إلى متانة الأعصاب والعظام قبل أن يلفتك إلى بضاضة اللحم والدم هو وجه أناس ثابروا على الاعتزام والجلد ولم يستسلموا لسهولة العيش منذ زمن بعيد، وليس في وسعنا، أن نعلم اليوم كيف تورث هذه الملامح الحازمة في الوجوه، فإن اللحم لا ينقلها والدم قد يخزن الناسلات ولكنه لا يخزن القوى التي هي من قبيل الطاقة الكهربائية في الأحياء وغير الأحياء، فأغلب الظن إذن أنها تُنقل في مخازن الأعصاب ثم في مخازن العظام، ولعلها تنحصر في الأعصاب على نحو لا يصعب على العلم — فيما نقدره — أن يهتدي إليه، وقد يكون للأعصاب فيها اتصال كبير بالدماغ وسرعة الاستجابة بينه وبين مواطن الانتباه والتنبيه.

ومهما يقل العلم غدًا في هذه المسألة فالذي نجزم به منذ الساعة، أن وجوه الأمم التي قضت ألوف السنين في الجلد والاعتزام تخالف وجوه الأمم التي تيسرت لها المعيشة طوال تلك السنين، وأن الاستدلال بملامح الوجوه طبيعة في جميع الأحياء؛ لأن الحيوان ينظر أول ما ينظر إلى وجه الحيوان الذي يقابله ليعلم هل يسالمه أو يناجزه ويتحداه، وإن كانت الوجوه لا تبدي كل ما في النفوس والعقول، فهي كذلك لا تخفي كل ما في النفوس والعقول.

وحسبنا الآن أن العلم يثبت كما تثبت المشاهدة أن خصائص الأجناس تورث إلى زمن بعيد ولا سيما حين ينحصر التزاوج في أبناء القبيلة الواحدة أو الوطن الواحد، وأن بعض العادات الاجتماعية التي تنجم من تشابه المعيشة تثبت في الأفراد بعد زوال أسبابها إلى حقبة طويلة، وأن الأبناء ينقلونها عن الآباء بالقدوة والتلقين وإن لم ينقلوها بالوراثة كما تنقل الخصائص التي تتمثل في الناسلات.

وليس بنا هنا أن نبسط القول في خصائص الأجناس جميعها؛ لأن الجنس الأسود هو الذي يعنينا منها في هذا الكتاب، وهو من الأجناس التي يسهل تمييزها بالخصائص الموروثة وعادات القدوة والمعيشة، والاختلاف في وصفه أقل من الاختلاف في وصف غيره من الأجناس البشرية الخمسة أو الثلاثة على قول بعض المتأخرين.

ونحن ننقل هنا شذرات من أوصافه في كتل علم الأجناس وعلم الإنسان ونصحح بعضها ببعض ونضيف إليه ما نعلمه من خصائص هذا الجنس بالمعاشرة والاختبار.

قال الدكتور سايس Sayce صاحب كتاب أجناس العهد القديم:

 
إن الزنجي مستطيل الوجه شديد بروز الفكين مع ضمور في الذقن، أنفه أفطس واسع المنخرين، وشفتاه غليظتان، وأسنانه كبيرة جيدة، وضرس العقل منها يظهر سريعًا ويذهب أخيرًا، وهو بسيط الجمجمة طويل الذراعين، وربلات ساقه معيبة، وقصبة رجله منبسطة مع انقباض في الإبهام، ومادة الصبغة السوداء في الزنجي كما أسلفنا تسري إلى عضلاته وقد تسري إلى دماغه، وهو بالقياس إلى الأدمغة الأخرى بسيط التلافيف. وميله إلى الفنون قليل ما عدا الموسيقى فهو مغرم بها أشد غرام، ومن عاداته أن يتأثر بالشعور دون التفكير. ويقال: إن أبناء الزنوج قلما يتقدمون بعد الرابعة عشرة، ويغلب عليه الكسل والإيمان بالخرافة ومن طبعه العطف والوفاء. وهما خصلتان ترغِّبان من قديم الزمن في اقتنائه واستخدامه. فمنذ عصور الفراعنة في الأسرة
الأولى كانوا يبعثون الحملات إلى بلاد كوش لاستجلاب العبيد منها، وكان عدد الزنوج المجلوبين كبيرًا على الأغلب في جميع الأزمان، ولعل عبد ملك الذي أنقذ حياة النبي أرميا كما جاء في الإصحاح الثاني والثلاثين كان من الزنوج وكذلك الكوشي جد اليهودي الذي جاء ذكره في الإصحاح السادس والثلاثين إذ يقول: «فأرسل كل الرؤساء إلى باروخ يهودي بن نثنيا بن شلميا بن كوشي قائلين: الدرج الذي قرأت فيه في آذان الشعب خذه بيدك وتعال.»

ومع قدم الاتصال بالحضارة المصرية تلك القرون الطوال لم يتعلم الزنجي منها على الأرجح غير صهر الحديد، فجاء عصر الحديد معقبًا لعصر الحجر توًّا في تاريخ بعض القبائل بغير توسط من عصر الشبَه أو النحاس. والزنجي مقلد شديد الميل إلى التقليد. ولهذا يلفت النظر أنه لم يظهر قط رغبته في الرسم خلافًا للمصري المثقف؛ بل خلافًا لأبناء قبائل البوشمان المقيمين بأقصى الجنوب في القارة الأفريقية، فإن رسوم الحيوان على الجدران التي تحتمي بها قبائل البوشمان حية ملهمة ومنها ما ليس يُخجل الفنان الأوروبي إذا نسب إليه، وهي على الجملة تفضي بنا إلى سؤال عن قدم الجنس الزنجي في التاريخ.

ففي جنوب مصر تشاهد الصخور الرملية التي تغطيها رسوم الحيوان والإنسان ومنها الحديث الذي لا شك في حداثته والقديم الذي لا شك كذلك في قدمه، ويرى على الصخر الواحد شيء من تلك الرسوم ونقوش ترجع إلى الأسرة الخامسة، فأما النقوش الأخيرة فيبدو عليها تغيير قليل من أثر العوارض الجوية حتى ليخيل إلى الناظر إليها أنها من عمل أمس القريب، وأما الرسوم الأولى فيبدو مما أصابها من أثر العوارض الجوية أنها قد مضى عليها رَدْح طويل من الزمان، ويرى — عدا هذا — بين الرسوم رسم الزرافة كثير التكرار، فإذا لاحظنا أن ذلك الإقليم كان أرضًا قاحلة من بداية التاريخ المصري، دل حضور الزرافة في رسومها على عهد بعيد القدم كانت فيه تلك الأرض بطاحًا مروية بالماء تغطيها أشجار الحسك التي يرعاها الزراف. وينتشر رسم النعامة في تلك الرسوم كما ينتشر رسم الزرافة مع اختفاء رسم النعامة من المقاطع الهيروغليفية التي تتمثل فيها الطيور المصرية على وفرة ملحوظة، وخليق بهذا أن يدلنا على أن النعامة لم تكن معروفة عند مخترعي الكتابة المصرية الأولى، وأن سيرفلاندرس بتري على حق حين يستخلص من هذا أن الرسوم التي ذكرناها هي بقايا متخلفة مما قبل التاريخ لأسلاف المصريين في وادي النيل. وتؤيد رأيه كشوف السائحين في جهات أخرى من أفريقية الشمالية حيث تشاهد أمثال تلك الرسوم في جنوب تونس ومراكش. وقد أستطيع الاهتداء إلى تاريخها التقريبي من حالة واحدة أمكن العثور عليها، فإن الدكتور بونيه Bonnet وجد في وهران الأداة الحجرية التي كانت تنقش بها تلك الرسوم ملقاة تحت بعض الصخور التي عليها تلك الرسوم ووجد على مسافة غير بعيدة منها المصنع النيولوتي الذي تصنع فيه تلك الآلات، ومن ثم يفهم أن الرسوم ترجع إلى العهد السابق لاستبدال الآلات المعدنية بالآلات الحجرية، وهو عهد في مصر جد بعيد.

فمن المحتمل إذن على ما يظهر أنه في العهد الذي كانت فيه الصحراء الكبرى مخصبة وكانت دال مصر ذراعًا من البحر الملح كان جيل من الناس قريب إلى جيل البوشمان ينزل في أفريقية الشمالية بين السواحل الأطلسية وشواطئ نهر النيل، ولعل قبائل الأكاسيين وغيرها من قبائل الأقزام المستديرة الرءوس في أواسط أفريقية بقية ذلك الجيل القديم، وقد أَجْلَتْهم عن مواطنهم غارات الزنج ولم تزل بهم غارات قبائل البانتو أو الكافرين حتى ألجأتهم إلى جنوب القارة الأفريقية، وقد كانوا جسديًّا دون أعدائهم في القوة وإن لم يكونوا دونهم في المزايا الأدبية، وكانوا على كلٍّ ذوي ملكة فنية تعوز الزنج والكافرين على السواء وهي ملكة الرسم؛ إذ لم يكن في وسع الزنجي أن يرسم أو يتمم رسوم الصخور في بلاد البوشمان ولا رسوم الصخور في أفريقية الشمالية.

وقد كانت الجبال التي تحد الصحراء من الشمال مسكن قبائل من اللوبيين منذ عهد سحيق في القديم، وقد وصفنا هذا الجيل آنفًا وبينا أنه ينتمي إلى سلالة مميزة بين سلالات الجنس الأبيض، وربما شاهدنا اليوم في قرى إنجلترة وأيرلندة فروعًا من تلك القبائل على حسب الملامح الظاهرة، والنموذج العتيق الذي تبديه لنا تلك القبائل تؤكد لنا الآثار المصرية كما تجلوه الملامح البيضاء التي بقيت له إلى الآن …

وكلام الدكتور سايس هذا في أوصاف الجنس الزنجي وتاريخه العريق قليل الخطأ كثير الصواب، أو هو من أصح ما كتب في هذا الموضوع، ويزاد عليه من كتب الأجناس الحديثة أو كتب علم الإنسان أوصاف أخرى يعد بعضها من قبيل التصحيح وبعضها من قبيل التكملة، تأتي عليها بإيجاز.

فاللون الأسود في الأجناس السوداء لا يتعمق إلى ما وراء البشرة الظاهرة ثم تتساوى ألوان الجسم الإنساني في جميع الأجناس، وإنما يأتي السواد من صبغة في الغشاء الذي يلي البشرة الظاهرة، ولا يسري على ما وراءه إلا عرضًا في قليل من الأفراد.

وقد نفهم دلالة الضيق والسعة في تركيب الجمجمة إذا فهمنا أن جمجمة الجنس الأبيض بين الأوروبيين ليست أوسع الجماجم الإنسانية ولا أوسع من جماجم غيرها من الأمم التي لا تجاريهم في الحضارة، فإذا حسبنا قطر الدماغ من الأمام إلى الخلف مائة فنسبة العرض إليه في الزنجي سبعون وفي الأوروبي ثمانون وفي الساموي من أبناء الجزر المعروفة غرب المحيط الهادئ خمسة وثمانون.

والزنجي طويل الذراعين تصل ذراعه إلى الركبة في بعض الأحيان. وشعره الصوفي المعروف هو أوضح العلامات المميزة له بين جميع الأجناس.

أما مزاياه الثقافية فيجب أن نتذكر حين نقابل بين تخلفه وتقدم الأجناس الأخرى أنه قد بلغ من الثقافة كل ما يحتاج إليه، وأن العبرة بالمجهود العقلي الذي يتطلبه فهم أمر من الأمور لا بالطبقة الثقافية التي تحسب لذلك الأمر في سلم الثقافة العامة. فالمعادلات الرياضية العليا أرقى في سلم المعرفة من الجمع والطرح في الحساب، ولكن المعادلة الرياضية العليا لا تتطلب من ذهن المهندس المتعلم جهدًا أكبر من جهد الرجل الزنجي حين يفهم أن خمسة في خمسة تساوي خمسة وعشرين. ولا سيما إذا كانت نهاية العدد عنده هي مجموع أصابع اليدين والرجلين؛ أي عشرين.

وقد عرف أن الزنجي في قبائل «الوي» التي تقيم عند «سيراليون» قد اخترع نوعًا من الكتابة يوائم حاجاته ولا يرجع إلى أساليب الكتابة الأخرى التي عرفت في بلدان الحضارة.

أما حظه من الفنون فليس بالحظ القليل إذا نظرنا إلى حاجاته الطبيعية ودواعيه الضرورية إلى المعيشة الاجتماعية. ولعل «هافلوك إيليس» حين قال: «إنه قد سلك سبيله إلى الحضارة راقصًا.» قد لخص ملكاته الفنية أجمل تلخيص.

فالرقص لا يكون بغير نغمات، والمرح المطبوع في الزنجي هو مبعث وحيه الذي ألهمه الرقص والغناء، فهو عظيم الولع بالأغاني سريع الأذن إلى التقاطها حين يسمعها مرة أو مرات قليلة، وينبغي أن نفرق بعض التفرقة بين ملكة الموسيقى وملكة الغناء والإيقاع؛ لأن الأصوات الموسيقية تبلغ من التراكب والتنوع مبلغًا يبعدها من الإيقاع الذي يصاحب حركات الأجسام في الرقص الفطري أو الرقص الحديث.

والزنجي يحب الغناء الراقص ويبرع فيه، وقد عرف به حيث نزل من بلاد العالم في عصور التاريخ، ومن هذا رقص النوبة الذي علمنا — في سيرة النبي عليه السلام — أنه دعا السيدة عائشة رضي الله عنها إلى التفرج به والنظر إليه، وكان يعرف بالزفيف لسرعته وتوالي الحركة فيه.

ولما اشتغل الزنجي بالفنون الأخرى كصنع التماثيل كان الإيقاع رائده الأول في هذه الصناعة التي قد يظهر للوهلة الأولى أنها بعيدة عن الغناء؛ لأن النسب التوقيعية كانت تغلب في التماثيل الزنجية على مشاهدات الحياة، وكانت منذ وجدت تنقل الشبه فتحسن نقله، ولكن على نمط واحد يقل التصرف فيه، وهي لا تزال اليوم بحيث وجدت منذ آلاف السنين.

وشيوع التماثيل وصوغ المعادن ونسج الثياب الموشاة بالخطوط والأشكال مع ندرة الرسم في قبائل الزنج أمر لا غرابة فيه؛ لأن تقليد الجسم في أبعاده الثلاثة أسهل من تقليده في بعد واحد، وهو التقليد الذي يوجب التصرف لتمثيل العرض والطول والقرب والبعد حيث لا عرض هناك ولا اقتراب ولا ابتعاد.

ولتماثيلهم — مع غلبة الإيقاع عليها — سمة أخرى تعرف بها بين سائر التماثيل القديمة، وهي سمة الخوف والتخويف، وهي كذلك سمة لا غرابة فيها إذا نظرنا إلى الأخطار التي تحدق بالزنجي بين الوحوش والحيات وآفات الأرض وصواعق السماء، ونظرنا إلى الغرض الذي يتوخاه من صنع كثير من تماثيله، وهو لبس الوجوه والأقنعة التي تخيف أعداءه في ميدان القتال.

ولم تزل فنون القتال عند الزنجي ضربًا من الفن الجميل؛ لأنها تمزج بين الحركة الرياضية وبين الرقص والإيقاع والغناء. وليس أشبه بمناظر الرياضة البدنية من منظر الزنجي وهو يقذف بالرمح ويوازن بين وضع يديه وكتفيه وبين وضع صدره وكشحه حين يقذف به فيقع حيث أراد، كأنه قد ركزه في الهدف بيمناه.

والزنجي شجاع مقدام لا يهاب الموت ولا ينكص عن الألم، وقد تلهبه السياط ويسيل الدم من إهابه الممزق وهو صابر لا يتلوى ولا يتأوه؛ لأنه يحسب الفرار من الألم كالفرار من الموت جبنًا لا يجمل بالرجال، وقد عودته مجالدة الوحوش والأفاعي والمحاذرة الدائمة من المتربصين به أن يقسو عليها وأن تقسو عليه، وأن يحتمل القسوة على نفسه كذلك … وفيه إلى جانب الصبر والشجاعة عناد شديد حين يخشى أن يتهم بالجبن إذا صدع بالأمر فرارًا من العذاب.

وهو مصدق وفي يؤمن بالعقائد التي توارثها عن أسلافه وأكثرها من قبيل السحر وعبادة الأرواح الخفية، وتقديس الرُّقَى والتعاويذ التي تعصمه من فعل تلك الأرواح.

والوفاء فيه طبيعة لأنه نشأ على طاعة الرئيس في القبيلة وطاعة الساحر الذي يعلمه ويحميه، وقلما يغدر أو يخون إذا وجد من يكسب ثقته ويشتمل على عطفه وولائه، وإنما يغدر ويخون إذا توجس وسلبت منه الطمأنينة، فإنه ليرجع إذن إلى حياة المخاوف والأخطار التي علمته الحذر الدائم بين الوحوش والآفات، أو بين الأسرار الغوامض التي يتكفل الساحر بجلائها له على ما يعتقد ويروم، فيعمل في حالة التوجس وسلب الطمأنينة عمل الطريد المطارد أو عمل الهاجم الذي يتوقع الهجوم من كل مكان، فلا يبالي ما يصنع وهو غاضب يائس محروم من العطف والحنان.

وينبغي — قبل مراقبة الزنجي وتسجيل غرائبه — أن ننسى أننا نراقب خلقة غريبة تخالف ما طبعنا عليه؛ لأننا حريون أن نستغرب كل شيء إذا نحن توقعنا الغرابة والاستغراب، فيمر بنا العمل الذي يعمله أبناء لغتنا وعنصرنا دون أن نلتفت إليه، ثم يمر بنا هذا العمل بعينه حين يعمله الغريب فنسرع إلى التنبه له ونحسبه من البدوات التي لا تصدر إلا عن أمثال ذلك الغريب، وكثير من غرائب الزنوج أو غرائب الأجناس عامة لا تحسب من قبيل الغرائب إلا على هذا الاعتبار.

 

لو شاء الناس لالتفتوا إلى هذه الملاحظة في الحقائق الاجتماعية الكبيرة كما يلتفتون إليها كل يوم في الحقائق الاجتماعية الصغيرة، فإننا نسمع العامة في كل مكان يتحدثون عن بعض المشهَّرين بالسوء فيقولون عنه: «إن صوفته حمراء.» ويعنون بذلك أنه يفعل الشيء الذي يفعله غيره فسرعان ما يتنبه إليه الناس ويتعقبونه بالذم والتشهير، ويمضي غيره بفعلته دون أن يتنبه أحد إليه فضلًا عن ذمه والتشهير بسمعته، وهم يستعيرون هذا الوصف من لغة الرعاة الذين يفردون الخروف «الأحمر» بالزجر والعقاب وهو لا يصنع شيئًا غير الذي يصنعه إخوته في القطيع من ذوات الفراء السود، ولكنه يظهر وهي لا تظهر، فيعاقب وحده وتنجو هي من الملاحظة والعقاب.

والجنس الأسود له غرائبه الكثيرة في الأخلاق والعادات، ولكننا إذا بدأنا بالاستغراب أو كان الاستغراب سابقًا للمراقبة كنا خلقاء أن نجد الغرابة حيث لا غرابة على الإطلاق، وحسبنا أنه يخالف الناس في أصول الطباع وهو لا يفعل إلا ما يفعله في مكانه سائر الخلق من أبناء آدم وحواء.

أما مداركه العقلية فمن الواجب قبل الحكم على طاقتها الأصيلة أن نذكر الضرورات المختلفة التي باعدت بينه وبين أجيال البشر الأخرى في مواطن الإدراك، وهي مباحث العلوم والصناعات.

فليس من قصور العقل وحده أن نجد الزنجي مقصرًا عن الأجناس البيضاء والسمراء في علوم الهندسة والفلك والطبيعة والكيمياء؛ لأن حياته لم تلجئه قط إلى الملاحة في البحار الواسعة فيعرف ما عرفته الأمم الأخرى من حركات الأجرام السماوية ومن علوم الفلك والظواهر الجوية والأنواء، ولم تلجئه قط إلى إقامة الصروح ومزاولة البناء بالأحجار فيعرف من قواعد الهندسة وصناعات النحت والعمارة ما عرفته الأمم التي تهيأت لها الوسائل ودفعتها الضرورات إلى التشييد والتعمير، ولم تلجئه قط إلى توقيت مواعيد الري ولا السيطرة على مجاري الماء فيتعلم الهندسة ويدرك خصائص الجوامد والسوائل ويراقب أسباب الخصب والقحط مراقبة المدير المسئول عن عواقب الإهمال في هذا التدبير، ولم تلجئه قط إلى الافتنان في طهو الغذاء ونسج الكساء وصوغ الآنية والأدوات التي تستخدم في هذه الأغراض، ولم تلجئه قط إلى تفتيق الحيلة في حفظ الطعام وادخاره وصيانته من العطب والفساد، ولا ألجأته إلى تفتيق الحيلة في ابتداع أفانين الحرب من مطاولة للحصار وتنويع للأسلحة واعتماد على أسلوب في الكر والفر غير أساليب الأحياء المحدقة به في الجرأة تارة والاستخفاء تارة أخرى؛ لأن أبناء القارة أجمعين درجوا على نمط واحد في الهجوم والدفاع واستخدام السلاح وتشابهوا في مواقع واحدة يسكنها المغيرون والمدافعون، فلا حاجة بهم إلى التفوق والاحتيال على مختلف المواقع والأسلحة والأساليب.

وكل ما احتاجوا إليه من ضرورات المعيشة وجدوه سهلًا ميسرًا غنيًّا عن الجهد والحيلة في مواعيده التي تعودوها، فإذا بقي من وراء ذلك سر يجهلونه أو محذور يتقونه فهنالك الساحر كفيل به يكفيهم مؤنته إذا صدقوه وأطاعوه، ومن ثم عاشوا حياتهم كلها وقضوا عصور التاريخ وما قبل التاريخ وهم بين الدعة والطمأنينة إلى العيش، وبين القتال والجلاد، وبين التصديق والتعوذ بالرقى والطلاسم. ولزموا هذه الحالة أعوامًا بعد أعوام وأحقابًا بعد أحقاب، بغير حاجة إلى التبديل أو التجديد.

فالأمم التي عرفت الهندسة والفلك والعمارة والكيمياء وأدوات البذخ والرفاهة إنما عرفتها لأنها لا تستطيع أن تعيش في بيئتها حقبة طويلة بغيرها، ولو عاشت في القارة الأفريقية كما عاش الزنوج لأهملتها ولم تفكر فيها، ولا شك أن الزنوج لو بدءوا الحياة الاجتماعية حيث بدأها أولئك الأقوام لاخترعوا وفهموا فهمهم وعرفوا معرفتهم وأعادوا سيرتهم بغير فارق كبير في جوهر الأمور.

أما الطب ومداواة الأمراض فكل ما حذقه الإنسان الفطري بمعزل عن الأمور الأخرى فقد حذقه السود وبرعوا فيه، ولم تفتهم خاصة لازمة لهم من خواص العشب والنبات أو خواص الإيحاء والتأثير بالعقيدة والتنويم.

ونحن لا نعني بهذه المقابلة بين ضرورات السود وضرورات غيرهم من أجناس البشر أن الفرق بينهم وبين تلك الأجناس معدوم أو قريب التحصيل والاستدراك، ولكننا نعني أنه يرجع إلى أسباب تجوز عليهم كما تجوز على غيرهم فهم وسائر البشر في أصولها سواء.

ولو نظرنا إلى النصيب الذي تيسر لهم من الثقافة الأدبية، فحصلوه وأجادوه لعلمنا أنهم حريون أن يبلغوا بالعطف والمعاملة الحسنة شأوًا محمودًا في مجال الآداب والعلوم، فقد نبغ منهم في العربية شعراء معدودون من طراز عنترة وسحيم عبد بني الحسحاس ونصيب والأغربة المشهورين الذين أجادوا الحماسة كما أجادوا الغزل والنسيب، وبين غزلهم والأغاني المرقصة التي عكف عليها السود من آلاف السنين صلةٌ قريبة لا تصعب النقلة فيها، ولكن الطبقة الفنية — والنفسية — التي ارتفعوا إليها في ذلك الغزل تدل على أن الآباد الطوال التي قضوها في المعيشة الآبدة لا تحجبهم عن الظرف الاجتماعي إذا وجدوا السبيل إليه، وما أحسب شاعرًا من شعراء الحضارة يترفع عن توقيع هذه الأبيات التي نظمها سحيم لمعشوقة مريضة فقال:

ماذا يريدُ السقامُ من قمرٍ
كلُّ جمالٍ لوجهِهِ تَبَعُ
ما يرتجي؟ خاب! مِن محاسنِها
أمَا له في القباحِ مُتَّسَعُ؟
غيَّر من لونها وصفَّرَها
فارتدَّ فيه الجمالُ والبِدَعُ
لو كان يبغي الفداءَ قلتُ له
ها أنا دونَ الحبيبِ يا وَجَعُ

ففي هذه الأبيات من روح الفكاهة ودعابة الظرف والفطنة إلى محاسن الملاحة المريضة والخبرة بتدليل النساء غير قليل.

ويبدو لنا أن فوارق الإدراك لم تضل العقول في أمر الجنس الأسود، كما ضللها ذلك اللون الماثل للنظر قبل مثول الفوارق العقلية والخلقية للبصائر والأفكار، فعاملتهم الأمم منذ أقدم العصور معاملة لا هوادة فيها وانطلق النخاسون في طريق البحر الأحمر وبحر الهند ونهر النيل يحملونهم إلى بلاد العرب وما بين النهرين كما يحملونهم إلى مصر واليونان والرومان.

ولم تكد الدنيا الجديدة تنكشف لأبناء الدنيا القديمة حتى شاطرتها في هذا السباء الذي بدأت به أقدم الأمم من ألوف السنين، ولعل فضائل هذا الجنس — وفي مقدمتها الوفاء والصبر والقناعة — كانت أسرع من نقائصه في الجناية عليه؛ ولهذا تمادى النخاسون في نقل السود إلى أمريكا وانقطعوا عن نقل الهنود الحمر إلى أوروبا بعد سنوات قليلة، لإخفاق التجربة وضياع الأمل في صلاح هؤلاء الهنود «للتطبيع» والعمل المفيد.

وخلاصة ما يقال في تاريخ الجنس الأسود: أنه جنس قديم معرق في القدم يوغل في أصوله إلى ما قبل التاريخ بزمن بعيد، وأنه جنس قد وقف به النماء عند حدود الفطرة الأولى؛ لأن معيشته في القارة الأفريقية لم تلجئه إلى كشف العلوم وتعمير المدن واختراع الصناعات وتدبير وسائل الادخار والحيطة للمستقبل البعيد، ولكنه عرف كثيرًا من الفضائل والملكات التي توائمه في بيئته المستقرة؛ لأنه عرف النضال والمرح والإيمان، فعرف الشجاعة والوفاء والصبر على الألم، واستنبط الفنون التي توافق مرحه وإيمانه بالمجهول.

وكأنما اتفقت عليه منذ القدم عوادي الإجحاف، ولم يسعده حظه بباعث واحد من بواعث الإنصاف والرعاية، فاصطلحت عليه أسباب الجشع والاستغلال وغرابة المظهر وقلة الحيلة في الدفاع وسهولة التطبيع والتعويد، وجعلته هدفًا يسيرًا للقناصين والنخاسين الذين يحفزهم الطمع ولا يزعهم عنه وازع من وشائج العطف أو زواجر الأخلاق.

ومضى العهد به على ذلك عصورًا طوالًا بعد عصور طوال إلى عصرنا هذا الذي نحن فيه، فقامت الثورات بعد الثورات باسم الإنسان وحقوقه، واشتعلت في الكرة الأرضية حربان عالميتان في النصف الأول من هذا القرن العشرين، ولا تزال الكلمة الباقية التي تقال لإنصافه وحماية حوذته أكبر وألزم من الكلمة التي قالتها الحضارةالحديثة إلى الآن ففي هذه السنة التي نحن فيها (1945) انعقد مؤتمر الجماعات التي تشتغل بالتبشير في الجزر البريطانية ووجه إلى العالم نداءً شديدًا أهاب فيه بأمم الحضارة إلى محو الفوارق القائمة بين البيض والسود في المستعمرات البريطانية، وأعلنت لجنة الكنائس البريطانية موافقتها على قرار المؤتمر وهي ترجو معه «أن تنجز الأمم المتحالفة وعودها المتكررة بالتسوية بين الألوان والعناصر في فرص التعليم والحياة».

ولا تزال الفوارق الجنسية قائمة في الولايات المتحدة على تعدد الدعوات فيها إلى المساواة والإعراض عن المزاعم العنصرية التي روَّجها خصوم الدولة الأمريكية في الحرب العالمية الحاضرة، ففي الولايات الجنوبية تقوم الفوارق بين البيض والسود بنصوص القوانين والأوامر الحكومية، ولا يباح للسود الجلوس مع البيض في المركبات العامة ولا النزول معهم في الحانات والفنادق، ولا تعليم أبنائهم في المدارس التي يتعلم فيها أبناء البيض، ولما صدر القانون الذي يخول الطفل الأسود حقًّا في التعليم كحق الطفل الأبيض مع انفصال المدارس والجامعات — تبين من التنفيذ أن المساواة صورة لا حقيقة، وأن التلميذ الأبيض يكلف الدولة في تسع ولايات من ولايات الجنوب نحو تسعة وخمسين ريالًا في السنة ولا تزيد كلفة التلميذ الأسود فيها على تسعة عشر ريالًا، على الرغم من نص القانون، وتبين أن الفارق في ولاية مسيسبي يتجاوز ذلك كثيرًا؛ لأن الدولة تنفق على الطفل الأبيض ريالين وخمسين ريالًا ولا تزيد نفقة الطفل الأسود على سبعة ريالات ونصف ريال.

وقد ألغي في ولايات الشمال معظم القوانين التي تنص على التفرقة بين البيض والسود، ولكن هذه التفرقة ما تزال قائمة بحكم العرف والعادة على نحو لا يقل في صرامته عن صرامة القانون، فلا يرى الأسود نازلًا بفندق من الفنادق الكبيرة أو جالسًا في مطعم من المطاعم الفاخرة، وإن كان من أصحاب الثراء.

 

وإبطاء الحضارة الغربية كل هذا الإبطاء في تقرير مبدأ الإنصاف — فضلًا عن تنفيذه — هو المقياس الصادق لسبق الشريعة الإسلامية في هذا المضمار الإنساني المتوعر المهجور من قديم الدهور، فإنها خلصت إلى أدب الإنصاف والمساواة بين بني الإنسان منذ أربعة عشر قرنًا بغير ما حافز من المصالح الاقتصادية أو من عادات العرف والأخلاق، بل خلصت إليه على كره من تلك المصالح وعلى رغم من تلك العادات. واجترأت على سلطان المادة الطاغية بسلطان الروح الرفيع، ولا يحسب الدين دينًا ما لم يكن له سلطان روحي يغلِّبه على طغيان المصالح والشهوات.

 

وقد كان هذا السلطان الروحي هو السلطان الذي أذعن له السادة والعبيد عند ظهور الدعوة الإسلامية بين قبائل البادية العربية، واشتمل على بلال بن رباح صاحب هذه السيرة وهو مولى ضعيف غريب في أرض الحجاز، كما اشتمل على أبي بكر والفاروق وعثمان بن عفان وهم سادات مكة وأقطاب قريش. والذي يعنينا في هذه المقدمة عن تاريخ الأجناس والجنس الأسود؛ خاصة أن نجمع الملتقي بينها وبين صاحب هذه السيرة بلال.

وليس الملتقى بينها بعسير.

فمن مجمل الصفات المتواترة التي وُصف بها بلال يتراءى لنا أنه قريب الملتقى بخصائص الجنس الأسود التي أجملناها في هذه الصفحات. ولا نحب أن نقول: إن الذي يتصف بتلك الصفات لن يكون حتمًا لزامًا إلا من الجنس الأسود بخصائصه المعلومة، فلا يزال من الجائز جدًّا أن يكون بلال على تلك الصفة — فيما عدا اللون — ولا يكون من القبائل الأفريقية السوداء، ولكن الذي يقال ولا يتجاوز حد الصحة في المقال أنه لو لم يكن كذلك لكان هذا من غرائب المصادفات، ولا داعية عندنا الآن لتقدير تلك المصادفات.

فلو لم يكن بلال أسود الإهاب لكانت في صفاته النفسية علامات لا تستغرب في الأجناس السوداء؛ لأنها من خصائصها المميزة التي تبرز فيها عند مراقبتها على الإجمال. ومنها حب الإيقاع الموسيقي وسليقة الإيمان والتضحية والعناد والصبر على عذاب الجسد والوفاء لمن يستولي منه على مكان الثقة والإعجاب.

ولكن الجنس الأسود لا يحتويه كله على ما يظهر من بعض صفاته الجسدية فيما عدا لون السواد، فلم يوصف بالفطس ولا بغلظ الشفتين ولا بالشعر المتقبض المتصوف الذي خص به الزنوج، والذين يُشاهدون على هذا التكوين بين أمم أفريقية الشرقية كثيرون حتى هذه الأيام، وتحقيق تاريخهم يدل على امتزاج قديم بالأجناس السامية أو بالعربية منها على التخصيص؛ لأن رحلات العرب إلى سواحل أفريقية الشرقية قديمة قبل الإسلام بزمن بعيد.

ومن علماء الأجناس من يربط بين جلة الأحباش وجلة العرب — ولا سيما اليمانية — برباط وثيق؛ لأن عبور أهل اليمن إلى الحبشة وعبور أهل الحبشة إلى اليمن ميسران معهودان من أقدم العصور.

وقد قيل في تاريخ بلال: إنه من الموالي المولدين بمكة أو بالسراة اليمانية، فأصدق ما يقال فيه: أنه من سلالة زنجية سامية، وأنه على أقرب ما يكون الزنج من خلائق العرب أو المستعربين.