داعي السماء: بلال بن رباح/العرب والأجناس
ألممنا في فصل سابق بأقوال بعض العلماء في مسألة العنصر وفوارق الأجناس، فأيًّا كان قول العلم في هذه العصبية العنصرية — أو الجنسية — فالقول الذي لا ريب فيه أن هناك شيئين مختلفين يدوران حول هذه العصبية، ويلتبسان في بعض الأحوال فتجب التفرقة بينهما: وهما المفاخرة الجنسية والعداوة الجنسية.
فقد تكون مفاخرة جنسية ولا عداوة.
وقد تكون عداوة جنسية ولا مفاخرة.
لأن المفاخرة طبيعة الجماعات حيث كانت من قديم أزمانها، وقد توجد المفاخرة في الأمة الواحدة بين أهل الحضر وأهل القرى، أو بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب، وقد تتفاخر البطون من القبيلة الواحدة ولا تتعادى، وقد تتعادى ولا تتفاخر، وقد تتفاخر وتتعادى في آن، وهي من جنس واحد وقبيلة واحدة.
وعندنا في مصر مفاخرات كثيرة بين أبناء القاهرة وأبناء الإسكندرية، وبين أبناء الصعيد وأبناء الريف، ومفاخرات أخرى حول اللهجات والأذواق والأطعمة لا تتجاوز الفكاهة إلى الجد في عامة أوقاتها.
ومثلها متكرر يشاهد بين أبناء الأقاليم الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو الألمانية، وحيثما تعددت الجماعات في صقع واحد ولو من أرومة واحدة.
وقد تتجاوز العناصر ألوف السنين ولا تتجاوز المنافسة بينها حدود المفاخرة اللسانية والمنافرة الكلامية، ولكنها تتجاوز المفاخرة العنصرية إلى العداء العنصري كلما اندفعت إلى التنازع بينها على مغنم واحد لا يتأتى لإحداها بغير القضاء على الأخرى أو إذلالها، ويستحكم العداء بينها على الزمن إذا تداولت بينها الذحول والغارات فلا يهمها المغنم يومئذ كما يهمها الثأر والانتقام.
والعرب قد عاشت في جزيرتها بمأمن من سطوة جيرانها إلا في أطراف الجزيرة، حيث لا يبلغ النزاع بينهم وبين أولئك الجيران مبلغ الإبادة والاستئصال.
وعاشوا ثمة وهم يحسون مكان جيرانهم ويحس جيرانهم مكانهم، فوجدت بينهم أسباب المفاخرة ولم توجد بينهم أسباب العداء اللدود.
وأملى التاريخ على العرب وجه المفاخرة إملاءً لا اختيار لهم فيه.
فقد كان جيرانهم الفرس والروم والأحباش أصحاب ثروة ودولة ومعاش ومتاع، وكانوا يعيرون جيرانهم العرب شظف العيش وسوء الطعام والكساء، وكان العرب لا يجهلون حظ هاتيك الدول من الجاه والترف وغزارة الأمواه والأزواد، فإذا فاخروهم تركوا المفاخرة بطعام أمتع من طعامهم وكساء أنفس من كسائهم وحطام أوفر من حطامهم، ورجعوا إلى فخرهم الذي يملكونه ولا يهابون المقالة فيه، وهو فخر الفصاحة وعراقة الأحساب والأعراض.
فهؤلاء كلهم عند العرب أعاجم!
وهؤلاء كلهم عند العرب أخلاط لا حساب عندها للحسب العريق.
وقد رضوا عن أنفسهم بهذا الفخر واستطاعوا المقالة فيه، ولم ينشب بينهم وبين مفاخريهم من العناصر الأخرى قتال طويل يبيدون فيه أو يبادون، فوقفوا بالمفاخرة دون اللدد في الخصومة الدموية، ونقلت عنهم وعن مفاخريهم أحاديث مستطرفات في هذا الصدد هي أقرب إلى مساجلات الأدباء في موقف الدعابة منها إلى المنازعات التي تسفك فيها الدماء.
إن فخر الروم والفرس ببياض الألوان قال العرب: تلك وجوه مقشرة!
وإن فخر الروم والفرس بالخوان الحافل فخر عليهم العرب بالجود وبذل الموجود.
وساجلوا وسوجلوا في هذا المجال فأثبتوا بحق أنهم أصحاب فصاحة وأصحاب أعراق.
لكنهم لم يعرفوا قط عداء العنصر أو عداء الجنس كما عرفه البيض والحمر في القارة الأمريكية، أو كما عرفه الأوروبيون والأصلاء في القارة الأسترالية، أو كما عرفه السلافيون والتيوتون في أوروبا الشرقية، أو كما عرفه الإسرائيليون والكنعانيون أو عرفه المغاربة والإسبان في زمن من الأزمان.
وإذا سمعت الزراية بالعبيد على لسان العربي فآخر شيء يتبادر إلى الذهن أنهم يقصدون عداء الألوان والأجناس، أو يخصون اللون الأسود بذلك الازدراء أو ذلك العداء.
فقد غلبت على بعض العرب أنفسهم سمرةٌ تضرب شديدًا إلى السواد، وكان من سادتهم من وصف بحلكة اللون وشابه الزنج بالإهاب الخشن والبشرة الفاحمة.
فإذا قالوا: «العبد» فهم لا يقصدون الزنجي ولا يخصون سواد اللون بالمهانة، ولكنهم يقصدون كل أسير لم يفك إساره وكل جليب يباع ويشرى في الأسواق، ومنهم صفر الوجوه وبيض الوجوه.
ويقصدون على الأخص كل إنسان مجهول النسب لا ينتمي إلى أصل من أصولهم المشهورة … إذا لم يكن في وسعهم أن يجهلوا مفخرة النسب، وقد فرضتها عليهم معيشة البادية ومفاخرة الحاضرة مئات السنين.
فلا يُزدرى العبد عندهم لأنه حالك اللون ولا لأنه من جنس يعادونه ويعاديهم، ولكنه يزدرى لعلة اجتماعية لا لعلة عنصرية، وقد تزول هذه العلة من حيث لا تزول علل العناصر وعداوات الأجناس.
وجاء زمن على الدولة العربية بعد اتساعها وسطوتها كثر فيه جلب الزنوج السود من القارة الأفريقية إلى فرضات البحار المقاربة للعاصمة العربية، وأكبرها البصرة في ذلك الحين، فشجر بين الزنج والعرب يومئذ عداء الأجناس في عصوره الحديثة والقديمة، ونشبت فتنة الزنج بالبصرة على مثال الفتن الجنسية التي نشهدها اليوم أو توصف لنا في التواريخ، ولكنها كانت غاشية عابرة لسبب عابر، فذهب أثرها بعد ذهابها بسنوات.
أما في غير تلك الآونة فقد كان الزنج قلة في بوادي الجزيرة وحواضرها، وكان الرجل العربي يولد الجارية السوداء ويتبنى وليدها إذا نجب وصلحت حاله وظهرت منه الفروسية والفصاحة، وربما كان له عبد يحمد خصاله فيعقته ويستلحقه ويزوجه بنته أو ذات محرم منه، ولا يمنعه أن يصنع ذلك عداء الجنس أو بغضاء اللون، بل يمنعه عرف اجتماعي توجد له النظائر في كل عرف يدور حول الزواج، ولو بين الأقرباء. وعلينا أن نحترس كثيرًا من نسبة كل عبد أسود يذكر في أيام العرب إلى الزنج أو أبناء حام كما يعرفون في علم الأجناس.
فلعله كان ساميًّا عبر إلى أفريقية كما عبر الإثيوبيون، ولعله أن يكون خلاسيًّا من الساميين والحاميين، ويغلب على الظن أن بلالًا — صاحب السيرة في هذا الكتاب — كان حاميًّا حبشيًّا ولم يكن زنجيًّا خالصًا من السود؛ لأن العرب يحسنون وصف الملامح التي تميز الأجناس والسلالات، ولم يذكروا من أوصاف بلال الفطس ولا الشعر الصوفي «المفلفل» اللذين يميزان معًا سلالة حام.
وقد كان بلال من أضنك العبيد حالًا قبل الإسلام، وكانت حال العبيد هي السُّوأى بين طبقات المجتمع العربي في الجاهلية ظلمًا للضعيف لا عداوة للجنس أو كراهة للسواد، فقد كان شأن العبيد كشأن كل صعلوك وضيع النسب قليل العضد غير محسوب له حساب في شريعة الثأر والدية، وكان العبيد أسوأ حالًا من وضعاء النسب؛ لأنهم لا ينسبون إلى أحد معروف، ولا يردع الظالم عن ظلمهم شرع ولا عرف ولا عقيدة، فكانوا ضحايا الظلم والتفرقة في المنازل والأقدار، وكان خلاصهم كله في عقيدة تنكر الظلم لأنه قسوة كما تنكره لأنه ينقض شريعة المساواة.
وقد تكفل الإسلام بهذا الخلاص من جانبيه، لأنه ينكر ظلم القسوة، وينكر ظلم الإجحاف والمحاباة.
فحق له أن يلبي دعوته، وأن يدعو إليه.