خديجة أم المؤمنين (دار الفكر العربي، 1948)/الفصل 8
٨
وانقضى على استخفاء المسلمين بصلاتهم فى شعاب مكة ، ثلاث سنين ، وكان الناس يدخلون فى دين الله فرادى، وقريش تنظر اليهم فى استخفاف، يقل كلما خرج عليها واحد من أبنائها ... ثم انقلب هذا الاستخفاف ، الى شىء من العبوس عن ما استيقنت أن الأمر جد لا هزل فيه ، وأخذتها مسها يتحول على الأيام الى ما يشبه اللغط ، وأخذت النفوس تتهيأ ليوم لا كالأيام ، تدافع فيه قريش عن سننها الموروثة ، ونظمها القائمة، فى دفاعها عن آلهتها من لات وعزى .
فى هذه الفترة التى يغلب عليها السكون المنذر بالعاصفة ، أنزل الله سبحانه وتعالى على خاتم النبيين :
« وأنذر عشيرتك الأقربين ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، فان عصوك فقل إنى برىء مما تعملون :
وقلق النبى صلى الله عليه وسلم ، على أثر نزول هذه الآية قلقا لا مزيد عليه. وخافت خديجة ان هو أنذر عشيرته الأقربين يرى منهم ما يكره ، فليس من اليسير أن يتحولوا عن دين وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم ، وليس من السهل على نفوسهم، أن يتزحزحوا عن سلطانهم القائم بقيام هذا الدين، ومحمد يجرىء عليهم أبناءهم ، ويثير عبيدهم وإماءهم ، ويجتذب اليه نفرا من عقلائهم وسراتهم ، فلو دعاهم ، ما استجابوا ، بل وما انصرفوا عنه موفورين ، ولكنهم سيخاصمونه ، ويلجون فى الخصام ، ويناكرونه ويشدون النكير ، ... لهذا وجم الرسول ، ووجمت زوجه ، أم المؤمنين ، حتى جاءه جبريل وقال له : يا محمد إنك ألا تفعل ما تؤمر به ، يعذبك ربك .
وإذن . . فلا بد من أن يصدع بأمر ربه ، فينذر عشيرته الأقربين ، ويخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين . وخديجة التى اصطفاها االله سبحانه وتعالى له ، تقف الى جانبه ، كما وقفت من قبل، وقد استجمعت شجاعتها وشحذت عزمها ، تخرجه من قلقه وكآبته ، وتيسر له أمره وتهونه عليه .
وإنه ليخرج من الدار بعد هذا ، وفى عينيه مضاء مَنْ حشد نفسه لأمر عظيم، فصعد الصفا وهتف :
يا صباحاه ...!
قال بعضهم : من هذا الذي يهتف ؟ ..
قالوا : محمد .
واسترسل النبى صلى الله عليه وسلم فى هتافه :
يا بنى عبد المطلب ،... يا بنى عبد مناف ،... يا بنى أسد ... فاجتمعوا اليه .
فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرح بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقىَّ ؟ ..
قالوا : ما جربنا عليك كذبا ..
قال : فانى نذير لكم بين يدَىْ عذاب شديد .
فقال عمه عبد العزى : تبا لك ! ما جمعتنا الا لهذا ؟ ثم قام ، وتفرق الجمع بعده.
وعاد النبى الى خديجة ، وقد زاد وجومه ، وظهر الهم عليه.. وقص عليها نبأ الجمع ، وما كان من أمر عمه عبد العزى ، فأخذ العجب منها كل مأخذ ، عند ما سمعت أن أول من أعرض هو أقرب الأقربين اليه .. عمه وحمو بنتيه .. فكيف يسترسل في انذار عشيرته الاقربين ، وقد رأى منهم ما رأى ، ولما يزل فى أول الطريق ؟ .. وماذا يكون عندما يجادلهم ، ويظهر لهم فساد عقائدهم ؟ .. ولكن خديجة ،.. تقوى عزمه أن كانت تعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يخذل نبيه . فنزل عليه جبريل بقوله تعالى :
ما أغنى عنه ماله وما كسب
سيصلى ناراً ذات لهب
وامرأته حمالة الحطب
فى جيدها حبل من مسد »
وتعزى النبى صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة، وذهب الهم عنه ، وسرَّى عن خديجة ، لما علما بما ينتظر أبا لهب وأم جميل زوجه من عذاب مقيم ، لا نجاء لهما منه ، ولو بذلا كل ما لهما من طارف وتليد. ولعل أشياخ قريش وفتيانها بخففون من غلوائهم ، ويجنحون الى السلم فيما دعاهم اليه رسول الله ، مخافة أن يحيق بهم ما سيحيق بأبى لهب وزوجه .
وأخذت الآية الكريمة ننتقل على الألسنة والشفاه ، حتى بلغت مسامع أبي لهب وامرأته ، فاستشاطا غضبا، وتشامخاً صلفاً وكبراً ، وتصامما عن هذا الكلام فى النار التى سيصليانها، وأخذا يعيران النبى صلى الله عليه وسلم بفقره ، وبخاصة أم جميل المعتزة بأنها أخت أبى سفيان و بنت حرب بن أميه .
ودفعهما الحنق الى أن يحلا ما سبق أن عقداه ، فجمع أبو لهب ولديه عتبة وعتيبة وقال لهما :
رأسى بين رؤوسكما حرام ان لم تطلقا ابنتى محمد !
وقالت أمهما : إن رقية وأم كلثوم قد هبئتا فطلقاهما !
وصدع الفتيان بأمر هذين الأبوين المتجبرين ، لا ينظران ساعة غضبهما إلى قرابة أو مصاهرة، ولا يحفلان برغبات ولديهما فيما يصدران من أمر.
وطلق عتبة وعتيبة رقية وأم كلثوم قبل أن يدخلا بهما ، وقلباها يكادان ينفطران من الحزن، فرقية أجمل بنات خديجة وأشبههن بأمها ، وأم كلثوم من أرق بنات قريش حاشية. وأغضهن طرفاً .
وظن أبو لهب ، وظنت زوجه أن النبى سيحزنه طلاق بنتيه ، ولكنه خيب ظنهما ، وفرح بالنبأ أيما فرح، فما يريد أن يربط مصير بنتيه بابنى رجل لا يرعى آصرة ولا يحفظ رحماً ، وامرأة غليظة القلب أبطرها المال والنسب .
أما خديجة فقد حمدت الله على خلاص ابنتيها ، ولم تجار نساء قريش، فيما ذهبن اليه من أن عتبة وعتيبة، ممن يتشبث بهما، ويحرص عليهما لأنهما يجمعان بين محتدين ، محتد أمية ومحتد عبد المطلب .
وكانت رقية ذات جمال بارع، وكان عثمان يريد أن يخطبها لنفسه ، فلما تزوجها عتبة دخلت الحسرة قلبه ، لأنه لم يسبقه اليها . وما كاد يسمع نبأ طلاقها من عتبة ، حتى أفعم قلبه السرور ، وأسرع الى النبى صلى الله عليه وسلم ، فزوجه إياها مغتبطا راضيا ، وهكذا رأت خديجة أن الله سبحانه وتعالى، يعوضها وبناتها خيراً مما فقدن ، بعثمان بن عفان على غناه ودماثته كان من آثر الناس على رسول الله ، وأقربهم اليه وأسرعهم الى الدخول فى الاسلام ، وهو الى جانب هذا كله ، من أصبح قريش وجها ، وأشرفهم نسبا ، فأبوه من ولد أمية ، وأمه من ولد عبد المطلب، واقترن جماله بجمالها، وكان يقال : أحسن زوجين رآهما إنسان ، رقية وزوجها عثمان .
وأدركت أم جميل بأنها لم تغظ أحدا سوى ولديها، فامتلأت نفسها على محمد حقدا . وبيتت الشر لقريبها عثمان وزوجه. وبات أبو لهب من ابن أخيه على ضغن ووتر.