انتقل إلى المحتوى

خديجة أم المؤمنين (دار الفكر العربي، 1948)/الفصل 7

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ملاحظات: القاهرة: دار الفكر العربي (1948)، الصفحات ٤٦–٥٢
 

٧

ولم تنس خديجة على احتفالها بالدين الجديد، وتحمسها له ، ما يجب عليها نحو زوجها من تهيئة أسباب راحته وأمنه ، كانت تشاركه إيمانه وتعبده ، وتقوم في الوقت نفسه على شئونه وشئون أبنائه ، وكانت تحمل اليه الزاد بأعلى مكة كما كانت تفعل أيام تحنثه ، فزادت بذلك قربا من الله حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : أتانى جبريل فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة أتتك ومعها إناء فيه طعام وشراب ، فاذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام .

وأخذت الدعوة تنتشر رويداً رويداً بين أهل النبي، وخاصته وأصحابه وثقاته ، وإن خديجة لتعلم أن ذلك يزيد من أعبائها، ويضاعف من عملها ، وهي مغتبطة به راضية ، فأسلم زيد وكان ثانى من أسلم من الذكور بعد علىّ ، ثم أسلم أبو بكر أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها ، وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجال قومه بألفونه لعلمه وحسن مجالسته . فأخذ يدعو الى الله ، والى الاسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس اليه

وعرف هؤلاء السباقون الى الاسلام ، أن قريشاً ، لن تصبر عليهم طويلا لأنهم يدعون الى دين غير دين آبائهم وأجدادهم، وكان يبلغهم ما يتهامس القوم به من أمر دينهم وصلاتهم، فأخذوا يذهبون الى شعاب مكة ، يستخفون بصلاتهم ونجواهم ، واذا القوم رأوهم اهتزأوا بهم ، من ذلك أنه بينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبى قاص يومئذ رجلا من المشركين بلحى١ بعير، فشجه، فكان أول دم هريق فى الاسلام .

وكانت خديجة تلحظ هذه الجماعة الاسلامية الصغيرة في غير قليل من الاشفاق ، لم ترتب قط، في أن زوجها وصحابته وهى على حق . وأن سائر القوم على باطل ، ولكنها كانت تعلم، أن هذا التستر لا بد سيبلغ حدَّه ، وأن الله سبحانه وتعالى ، سوف يظهر دينه ، وأن تهامس قريش ، سوف ينتهى الى، المجاهدة فالملاحاه ، وها هم قد بدأوا يشتبكون مع المسلمين ، فتراق الدماء. إنها تخاف على زوجها وصحابته النذر ، وان كانت قوية الثقة بنفسها ، وبزوجها ، شديدة الايمان بدينها الجديد .

وقد أسلمت ابنتها زينب . ولم يسلم زوجها أبو العاص ، ولا أسلمت أمه هالة ، أخت خديجة ، وأسلمت رقية وأم كلثوم، ولم يسلم زوجاهما عتبة وعتيبة ، وأسلمت فاطمة . وهكذا تم إسلام أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم دون أصهاره ، وكان ذلك نذيراً بما سيكون بين الأصهار ، من فرقة وخلاف .

وإن مخاوف خديجة لتعظم ، وأن هموم نفسها لتشتد؛ لم تعد زوجة كسائر الزوجات ، ولا أماً كسائر الأمهات ، ينحصر عملها في القيام على الدار والولد ، ولكنها أصبحت زوجة النبى... تتسع نفسها . فتشمل الجماعة الإسلامية النامية. وتبسط أمومتها على المؤمنين جميعاً ، لكل منهم نصيب من عطفها ورعايتها؛ وما قد تتعرض له بناتها ، جانب مما تتعرض له الجماعة الاسلامية كلها . نعم .. إنها تحب لبناتها ما تحبه سائر الأمهات لبناتهن ، زوج صالح كريم ، وما يستطيع أحد أن يقول ، إن زينب تكره ابن خالتها أبا العاص ، وهو مقدم في قومه ، محبوب من عشيرته وأهله ، انها تحبه وهو رب بيتها ، ولكنها تحب الله رب العالمين أكثر منه ، وما يستطيع أحد أن يقول أن بنتاً من بنات قريش تطمع فى خير من عتبة وعتيبة ابنى عبد العزى ، وأبوها عين من أعيان قريش وهما فى الوقت نفسه ابنا رسول الله صلی الله عليه وسلم، ورقية وأم كلثوم تحسدان عليهما ، ان كان يحسد الانسان على أمل فحسب ؛ لقد مرت هذه المخاوف والهموم بنفس خديجة ، ولكنها كانت تتغلب عليها ، لا يخالجها ريب فى أن الايمان بالله الواحد الأحد . سوف يعمر جميع القلوب فيربأ الصدع ، ويلتئم الشمل ، ويتجدد الأمل ...

وكان ثمة رجاء ، يداعب نفسها بين حين وحين . كانت تريد أن تنجب لمحمد غلاما سريّا، يؤنسه ويخفف عنه ، وأخوف ما كانت تخافه، أن يظل أبتر لا ابن له ، والعرب يعيرون الأبتر ، ويقدرون أبا الولد . وكلما كثر أبناء العربى ، اشتد بهم ساعده وقويت شوكته .

والأيام تمر ، ورجاءها في هذا الولد يضعف شيئا فشيئا، وهى تدنو من ختام الحلقة السادسة من عمرها يوما بعد يوم . وليس من شك فى أن النبى صلى الله عليه وسلم ، كان يحب بناته حباً لا يعدله حب ، ولكنه كان يتمنى ، فى الوقت نفسه أن يكون له ولد تمتد حياته فيه أعماراً وأعماراً ، لقد وهب له القاسم، ولكنه قضى قبل أن تغمر الفرحة به ، قلبى والديه .

وأخيرا تحقق الأمل الذى كانت خديجة تصبو اليه ، وولدت له الابن المرتقب ، فسماه النبى ، عبد الله ، على اسم أبيه، ولقب بالطاهر والطيب لأنه ولد في الاسلام ، وفرح به أبواه وأخواته وأهل الدار جميعا ، ونسيت فيه خديجة جل همومها ومخاوفها ، ونسى فيه رسول الله، تهامس قريش عليه ، وعلى صحابته ودينه ، وأشرقت به وجوه أخواته ، وحمدت خديجة الله سبحانه وتعالى ، على ما أعطى ووهب ، وذبحت الشاة وفرقت لحومها على الفقراء والمساكين ، ابتهاجاً بمقدمه الذي طال انتظارها له ، وخوفها من انقطاع رجائها فيه .

ولم تكد الفرحة به ، تستقر فى النفوس ، ولم تكد الآمال تنعقد عليه ، بل ولم تكد الأمومة والأبوة تتهيآن لرعايته والعناية به ، حتى اختاره الله سبحانه وتعالى ، اليه برعما ، لما تنفتح أكمامه للحياة .

لقد مرت على خديجة المحن واحدة بعد أخرى ، فما فجعها أكثر من موت عبد الله ، ولولا إيمانها بالله عز وجل، وتجملها بالصبر ، وعزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ، لحزنت عليه حزن الجاهلية ... وهى يوم فقدت القاسم بالأمس ، لم تكن قد فقدت الأمل فى أن تنجب غيره ، ولكن أنى لها اليوم بغيره وهى على عتبة الستين ! . . أليس يحز فى نفسها أن زوجها لا يزال يكنى بأبي القاسم ، كلما نادى به أحد ، التفت! . . وكل ولد لا يعوض الآخر ، ووفاة عبد الله قد أحيت وفاة القاسم ، وهى ساعة تحزن عليه ، تحزن على الاثنين معاً .

وخديجة تعلم علم اليقين . أن زوجها المصطفى من الله سبحانه وتعالى ، ليس كغيره من الرجال ، ينصرف عن زوجه اذا يئست من الولد .. إنه أسمى من ذلك وأعظم ، والولد والبنت منه سواء، ولكنها كانت تحبه وتحب أن يكون له منها ولد . وخديجة تعلم علم اليقين كذلك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحفظ الرجال لوده، وأوفاهم لعهده ، لا يمكن أن يضار عليها، أو ينصرف عنها ، ولو لم تنجب له ولداً ولا بنتاً ؛ وخديجة تعلم علم اليقين أيضاً ، أن محمداً أب يفرح اذا بشر بالولد، ويحزن اذا نعى اليه ، وهو اذا واساها ، فإنما يواسى نفسه معها . لم تستطع أن تخفى حزنها أو تغالب دموعها التى تحتبس بين جفونها .

والله سبحانه وتعالى ، يمتحن نبيه ، يعطيه ثم يأخذ منه ، ليجعله مثالا في الصبر الجميل .

لقد عاد إلى زوجه بعد أن خط لحد عبد الله ، لم ينس فى حزنها حزنه وإن تشاغل به ، عما في نفسه . لقد كفكف دمع خديجة وواساها ، وما يفيدها أن تفقد ولداً قد لا تنجب غيره ، وهؤلاء المؤمنون جميعاً أبناؤها ، فلتتعز بهم عن عبد الله ، ولتدع لهم كما تدعو الأم لأبنائها من نصر مبين.


  1. اللحم الذى على الفخذ