جامع العلوم والحكم/الحديث التاسع والثلاثون
التجاوز عن المخطى والناسي والمكره
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول ﷺ قال إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه . حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما
هذا الحديث خرجه ابن ماجه من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي ﷺ وخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني وعندهما عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمرو رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين وقد خرجه الحاكم وقال صحيح على شرطهما كذا قال ولكن له علة وقد أنكره الإمام أحمد جدًا وقال ليس يروى فيه إلا عن الحسن عن النبي ﷺ مرسلًا وقيل لأحمد أن الوليد بن مسلم روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله فأنكره أيضًا وذكر لابن أبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي، وحديث مالك وقيل له إن الوليد روى أيضًا عن ابن لهيعة عن موسي بن وردان عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ مثله فقال أبو حاتم هذه أحاديث منكرةكأنها موضوعة وقال لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث عن عطاء وإنما سمعه من رجل لم يسمه توهم أنه عبدالله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم قال ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده قلت وقد روي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير مرسلًا من غير ذكر ابن عباس وروى يحيى بن سليم عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه خرجه الجوزجاني وهذا بالمرسل أشبه وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا رواه مسلم ابن خالد الزنجي عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى تجوز لأمتي عن ثلاث الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه خرجه الجوزجاني وسعيد العلاف وهو سعيد بن أبي صالح قال أحمد وهو مكي قيل له كيف حاله قال لا أدري وما علمت أحدًا روى عنه غير مسلم بن خالد قال أحمد وليس هذا مرفوعًا إنما هو عن ابن عباس قوله نقل ذلك عنه مهنا ومسلم بن خالد ضعفوه وروى من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد عن على الهمداني عن أبي حمزة عن ابن عباس مرفوعًا خرجه حرب ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي شيئًا وروى من وجه رابع خرجه ابن عدي من طريق عبد الرحيم بن زيد الأعمي عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي ﷺ وعبد الرحيم هذا ضعيف وقد روي عن النبي ﷺ من وجوه أخر وقد تقدم أن الوليد بن مسلم رواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا وصححه الحاكم وغربه وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك كما أنكره الإمام أحمد وأبو حاتم وكانا يقولان عن الوليد إنه كثير الخطأ ونقل أبو عبيد الآجري عن أبي داود قال روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل منها عن نافع أربعة قلت والظاهر أن منها هذا الحديث والله أعلم.
وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز عن أمتي عن ثلاث الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه ويزيد بن ربيعة ضعيف جدًا.
وخرج ابو حاتم من رواية أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والاستكراه قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن فقال أجل أما تقرأ بذلك قرآنا ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا البقرة وأبو بكر الهذلي متروك الحديث وخرجه ابن ماجه ولكن عنده عن شهر عن أبي ذر الغفاري عن النبي ﷺ قال إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكر هوا عليه ولم يذكر كلام الحسن وأما الحديث المرسل عن الحسن فرواه عنه هشام بن حبان ورواه منصور وعوف عن الحسن من قوله لم يرفعه ورواه جعفر بن حبيش بن الحسن عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعًا وجعفر وأبوه ضعيفان قال محمد بن نصر المروزي ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه البيهقي وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزل قوله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة قال الله تعالى قد فعلت وعن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنها لما نزلت قال نعم وليس واحد منهما مصرحًا برفعه.
وخرج الدارقطني من رواية ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها وما أكرهوا عليه إلا أن يتكلموا به أو يعملوا وهو لفظ غريب.
وقد خرجه النسائي ولم يذكر الإكراه وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر عن قتادة عن زرارة بن أوفي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وزاد فيه وما استكرهوا عليه خرجه ابن ماجه وقد أنكرت هذه الزيادات على ابن عيينة ولم يتابعه عليها أحد والحديث مخرج من رواية أبي قتادة في الصحيحين والسنن والأسانيد بدونها ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع.
فقوله إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان إلى آخره تقديره إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ أو ترك ذلك عنهم فإن تجاوز لا يتعدي بنفسه، وقوله الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فأما الخطأ والنسيان فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما قال الله تعالى {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} البقرة وقال تعالى {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} الأحزاب.
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص سمع النبي ﷺ يقول إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وحكم فأخطأ فله أجر.
وقال الحسن لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين يعني داود وسلمان لرأيت أن القضاة قد هلكوا فإنه أثني على هذا بعمله وعلي هذا باجتهاده يعني قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم الأنبياء وأما الإكراه فصرح القرآن أيضًا بالتجاوز عنه قال تعالى {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} النحل وقال تعالى {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} آل عمران الآية ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الحديث في فصلين أحدهما في حكم الخطأ والنسيان والثاني في حكم الإكراه.
الفصل الأول: في الخطأ والنسيان
[عدل]الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئًا فيصادف فعله غير ما قصده مثل أن يقصد قتل كافر فصادف قتله مسلمًا والنسيان أن يكون ذاكرًا لشيء فينساه عند الفعل وكلاهما معفو عنه يعني أنه لا إثم فيه ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم كما أن من نسي الوضوء وصلي ظانا أنه متطهر فلا إثم عليه بذلك ثم إن تبين له أنه كان قد صلى محدثا فإن عليه الإعادة ولو ترك التسمية على الوضوء نسيانا وقلنا بوجوبها فهل يجب عليه إعادة الوضوء فيه روايتان عن الإمام أحمد وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسيانا فيه عنه روايتان وأكثر الفقهاء على أنها تؤكل ولو ترك الصلاة نسيانا ثم ذكر فإن عليه القضاء كما قال النبي ﷺ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ولو صلى حاملا في صلاته نجاسة لا يعفي عنها ثم علم بها بعد أو في أثنائها فأزالها فهل يعيد صلاته أم لا فيه قولان وهما روايتان عن أحمد وقد روي عن النبي ﷺ أنه خلع نعليه في صلاته وأتمها وقال إن جبرائيل أخبرني أن فيهما أذي ولم يعد صلاته ولو تكلم في صلاته ناسيا لأنه في صلاة ففي بطلان صلاته بذلك قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد ومذهب الشافعي أنها تبطل بذلك ولو أكل في صيامه ناسيا فالأكثرون على أنه يبطل صيامه عملًا بقوله ﷺ من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطمعه الله وسقاه.
وقال مالك عليه الإعادة لأنه بمنزلة من ترك الصلاة ناسيا والجمهور يقولون أنه أتي بنية الصيام وإنما ارتكب بعض محظوراته ناسيا فيعفي عنه ولو جامع ناسيا فهل حكمه حكم الآكل نسيانا أم لا فيه قولان أحدهما وهو المشهور عن أحمد أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء وفي الكفارة عنه روايتان والثاني لايبطل صيامه بذلك كالأكل وهو مذهب الشافعي وحكي رواية عن أحمد وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ناسيا هل يبطل به النسك أم لا ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله ناسيا ليمينه أو مخطئا ظانا أنه غير المحلوف عليه فهل يحنث في يمينه أم لا فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن أحمد أحدها لا يحنث بكل حال ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق وأنكر هذه الرواية عن أحمد الخلال وقال هي سهو من ناقلها وهو قول الشافعي في أحد قوليه وإسحاق وأبي ثور وابن أبي شيبة وروى عن عطاء قال إسحاق يستخلف أنه كان ناسيا والثاني يحنث بكل حال وهو قول جماعة من السلف ومالك والثالث يفرق بين أن يكون يمينه بطلاق أوعتاق أو بغيرهما وهو المشهور عن أحمد رحمه الله وهو قول أبي عبيد وكذا قال الأوزاعي في الطلاق قال وإنما الحديث الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسيا وأقام على امرأته فلا إثم عليه فإذا ذكر فعليه اعتزال امرأته فإن نسيانه قد زال وحكي إبراهيم الحربي إجماع التابعين على وقوع الطلاق بالناسي ولو قتل مؤمنا فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب وكذا لو أتلف مال غيره خطأ بظنه أنه مال نفسه وكذا قال الجمهور في المحرم يقتل الصيد خطأ أو ناسيا لإحرامه أن عليه جزاءه ومنهم من قال لا جزاء عليه إلا أن يكون متعمدًا لقتله تمسكا بظاهر قوله تعالى {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} المائدة الآية وهو رواية عن أحمد وأجاب الجمهور عن الآية بأنه رتب على قاتله متعمدًا الجزاء وانتقام الله تعالى ومجموعهما يختص بالعامد وإذا انتفي العمد انتفي الانتفام وبقي الجزاء ثابتًا بدليل الآخر والأظهر والله أعلم أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع الإثم عنهما لأن الأمر مرتب على المقاصد والنيات والناسي والمخطئ لا قصد لهما فلا إثم عليهما وأما رفع الأحكام عنهما فليس مرادا من هذه النصوص فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر.
الفصل الثاني: في حكم المكره
[عدل]وهو نوعان
أحدهما من لا اختيار له باللية ولا قدرة له على الامتناع كمن حمل كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله أو حمل كرها وضرب به غيره حتى مات ذلك الغير ولا قدرة له على الامتناع أو أضجعت ثم زني بها من غير قدرة لها على الامتناع فهذا لا إثم عليه بالاتفاق ولا يترتب عليه حنث في يمينه عند جمهور العلماء وقد حكي عن بعض السلف كالنخعي فيه خلاف ووقع في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد والصحيح عندهم أنه لايحنث بحال وروى عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء وأحنثها زوجها كرها أن كفارتها عليه وعن أحمد رواية كذلك فيما إذا وطيء امرأته مكرهة في صيامها أو إحرامها أن كفارتها عليه والمشهور عنه أنه يفسد صيامها بذلك وحجها والنوع الثاني من أكره بضرب أو غيره حتى فعل هذا الفعل يتعلق به التكليف فإن أمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل ليس غرضه نفس الفعل بل دفع الضرر عنه فهو مختار من وجه غير مختار من وجه آخر ولهذا اختلف الناس هل هو مكلف أم لا واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يصح له أن يقتله فإنه إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل هذا إجماع من العلماء المعتد بهم، وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتد به فإذا قتله في هذه الحال فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود المكره والمكره لاشتراكهما في القتل وهو قول مالك والشافعي وفي المشهور عن أحمد وقيل يجب على المكره وحده لأن المكره صار كالآلة وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وروى عن زفر كالأول وروي عنه أنه يجب على المكرة لمباشرته وليس هو كالآلة لأنه آثم بالاتفاق وقال أبو يوسف لا قود على واحد منهما وخرجه بعض أصحابنا وجهان من رواية لا يوجب فيها قتل الجماعة بالواحد وأولي لو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير والمعصوم فهل يباح له ذلك فيه وجهان لأصحابنا فإن قلنا يباح له ذلك فضمنه المالك رجع بما ضمنه على المكره وإن قلنا لا يباح له ذلك فالضمان عليهما معا كالقود وقيل على المباشر المكره وحده وهو ضعيف ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة ففي إباحته قولان أحدهما يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} النور وهذه نزلت في عبدالله بن أبي بن سلول كانت له أمتان، وكان يكرههما على الزنا وهما يأبيان ذلك وهذا قول الجمهور كالشافعي وأبي حنيفة وهو المشهور عن أحمد.
وروى نحوه عن الحسن ومكحول ومسروق وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يدل عليه وأهل هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرجل على الزنا فمنهم من قال لا يصح إكراههم عليه ولا إثم عليه وهو قول الشافعي وابن عقيل من أصحابنا ومنهم من قال لا يصح إكراههم عليه وعليه الإثم والحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومنصوص أحمد وروى عن الحسن والقول الثاني إن التقاة تكون في الأموال ولا تقاة في الأفعال ولا إكراه عليها وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وأبي العالية وأبي الشعثاء والربيع بن أنس والضحاك وهو رواية عن أحمد وروى عن سحنون أيضًا وعلي هذا لو شرب الخمر أو سرق مكرها حد ولو على الأول ولو شرب الخمر مكرها ثم طلق أو أعتق فهل يكون حكمه حكم المختار لشربها أم لابل يكون طلاقه وإعتاقه لغوا فيه لأصحابنا وجهان وروى عن الحسن فيمن قيل له اسجد لصنم وإلا قتلناك قال إن كان الصنم تجاه القبلة فليسجد ويجعل نيته لله وإن كان إلى غير القبلة فلا يفعل وإن قتلوه قال ابن حبيب المالكي وهذا قول حسن قال أبو عطية وما يمنعه أن يجعل نيته لله وإن كان لغير القبلة وفي كتاب الله فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة وأما الإكراه على الأقوال فاتفق العلماء على صحته وإن من أكره على قول محرم إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه وقد دل عليه قول الله تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} النحل وقال النبي ﷺ لعمار وإن عادوا فعد، وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما يريدون من الكفر ففعل وأما ما ورد عن النبي ﷺ أنه أوصي طائفة من أصحابه وقال لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم فالمراد الشرك بالقلوب كما قال تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} لقمان وقال تعالى {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} النحل وسائر الأقوال متصور عليها الإكراه فإذا أكره بغير حق قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوا فإن كلام المكره صدر منه وهو غير راض به فلذلك عفي عنه ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة وبهذا فارق الناسي والجاهل وسواء في ذلك العقود كالبيع والنكاح أو الفسوخ كالخلع والطلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنذور وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك والشافعي وأحمد وفرق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه فقال لا يلزم مع الإكراه وماليس كذلك كالنكاح والطلاق والعتاق والأيمان فألزم بها مع الإكراه ولو حلف لا يفعل شيئًا ففعله مكرها فعلي قول أبي حنيفة يحنث وعلي قول الجمهور ففيه قولان أحدهما لايحنث كما لايحنث إذا فعل به ذلك كرها ولم يقدر على الامتناع كما سبق وهذا قول الأكثرين منهم والثاني يحنث هاهنا لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حمل ولم يمكنه الامتناع وهو رواية عن أحمد وقول الشافعي ومن أصحابه وهو القفال من فرق بين اليمين والطلاق والعتاق وغيرهما كما قلنا نحن في الناسي وخرجه بعض أصحابنا وجهالنا ولو أكره على أداء ماله بغير حق فباع عقاره ليؤدي ثمنه فهل يصح الشراء منه أم لا فيه روايتان عن أحمد، وعنه رواية ثالثة إن باعه بثمن المثل اشتري منه وإن باعه بدونه لم يشتر منه ومتي رضي المكره بما أكره عليه لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه والإكراه قائم صح ما صدر منه من العقود وغيرها بهذا القصد هذا هو المشهور عند أصحابنا وفيه وجه آخر أنه لا يصح أيضًا وفيه بعد وأما الإكراه بحق فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه فلو أكره الحربي على الإسلام فأسلم صح إسلامه كذا لو أكره الحاكم أحدًا على بيع ماله ليوفي دينه أو أكره موليا بعد مدة الإيلاء وامتناعه من الفيئة على الطلاق ولو حلف لايوفي دينه فأكرهه الحاكم على وفائه فإنه يحنث بذلك لأنه فعل ماحلف عليه حقيقة على وجه لايعذر فيه ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء فأدي عنه الحاكم فإنه لايحنث لأنه لم يوجد منه فعل المحلوف عليه.