تلبيس إبليس/الباب السادس
الباب السادس: في ذكر تلبيس إبليس على العلماء في فنون العلم
[عدل]قال المصنف: اعلم أن إبليس يدخل على الناس في التلبيس من طرق منها ظاهر الأمر ولكن يغلب الإنسان في إيثار هواه فيغمض على علم يذلله ومنها غامض وهو الذي يخفى على كثير من العلماء ونحن نشير إلى فنون من تلبيسه يستدل بمذكورها على مغفلها إذ حصر الطرق يطول والله العاصم
ذكر تلبيسه على القراء
[عدل]فمن ذلك أن أحدهم يشتغل بالقراآت الشاذة وتحصيلها فيفني أكثر عمره في جمعها وتصنيفها والإقراء بها ويشغله ذلك عن معرفة الفرائض والواجبات فربما رأيت إمام مسجد يتصدى للإقراء ولا يعرف ما يفسد الصلاة وربما حمله حب التصدر حتى لا يرى بعين الجهل على أن يجلس بين يدي العلماء ويأخذ عنهم العلم ولو تفكروا لعلموا أن المراد حفظ القرآن وتقويم ألفاظه ثم فهمه ثم العمل به ثم الإقبال على ما يصلح النفس ويطهر أخلاقها ثم التشاغل بالمهم من علوم الشرع ومن الغبن الفاحش تضييع الزمان فيما غيره الأهم قال الحسن البصري أنزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملا يعني أنهم اقتصروا على التلاوة وتركوا العمل به ومن ذلك أن أحدهم يقرأ في مخرابه بالشاذ ويترك المتواتر المشهور والصحيح عند العلماء أن الصلاة لا تصح بهذا الشاذ وإنما مقصود هذا إظهار الغريب لاستجلاب مدح الناس وإقبالهم عليه وعنده أنه متشاغل بالقرآن ومنهم من يجمع القراآت فيقول ملك مالك ملاك وهذا لا يجوز لأنه إخراج للقرآن عن نظمه
ومنهم من يجمع السجدات والتهليلات والتكبيرات وذلك مكروه وقد صاروا يوقدون النيران الكثيرة للختمة فيجمعون بين تضييع المال والتشبه بالمجوس والتسبب إلى اجتماع النساء والرجال بالليل للفساد ويريهم إبليس أن في هذا إعزازا للإسلام وهذا تلبيس عظيم لأن إعزاز الشرع باستعمال المشروع ومن ذلك أن منهم من يتسامح بادعاء القراءة على من لم يقرأ عليه وربما كانت له إجازة منه فقال أخبرنا تدليسا وهو يرى أن الأمر في ذلك قريب لكونه يروي القراآت ويراها فعل خير وينسى أن هذا كذب يلزمه إثم الكذابين ومن ذلك أن المقرئ المجيد يأخذ على اثنين وثلاثة ويتحدث مع من يدخل عليه والقلب لا يطيق جمع هذه الأشياء ثم يكتب خطه بأنه قد قرأ على فلان بقراءة فلان وقد كان بعض المحققين يقول ينبغي أن يجتمع اثنان أو ثلاثة ويأخذوا على واحد ومن ذلك أن أقواما من القراء يتبارون بكثرة القراءة وقد رأيت من مشايخهم من يجمع الناس ويقيم شخصا ويقرأ في النهار الطويل ثلاث ختمات فإن قصر عيب وإن أتم مدح وتجتمع العوام لذلك ويحسنونه كما يفعلون في حق السعاة ويريهم إبليس أن في كثرة التلاوة ثوابا وهذا من تلبيسه لأن القراءة ينبغي أن تكون لله تعالى لا للتحسين بها وينبغي أن تكون على تمهل وقال تعالى: { لتقرأه على الناس على مكث } وقال تعالى: { ورتل القرآن ترتيلا } ومن ذلك أن جماعة من القراء أحدثوا قراءة الألحان وقد كانت إلى حد قريب
وعلى ذلك فقد كرهها أحمد بن حنبل وغيره ولم يكرهها الشافعي أنبأنا محمد بن ناصر نا أبو علي الحسين بن سعد الهمذاني نا أبو بكر أحمد بن علي بن لال ثنا الفضل بن الفضل ثنا السياحي ثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعي أما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به ولا بأس بقراءة الألحان وتحسين الصوت
قال المصنف: وقلت إنما أشار الشافعي إلى ما كان في زمانه وكانوا يلحنون يسيرا فأما اليوم فقد صيروا ذلك على قانون الأغاني وكلما قرب ذلك من مشابهة الغناء زادت كراهته فإن أخرج عن حد وضعه حرم ذلك ومن ذلك أن قواما من القراء يتسامحون بشيء من الخطايا كالغيبة للنظراء وربما أتوا أكبر من ذلك الذنب واعتقدوا أن حفظ القرآن يرفع عنهم العذاب واحتجوا بقوله ﷺ لو جعل القرآن في إهاب ما احترق وذلك من تلبيس إبليس عليهم لأن عذاب من يعلم أكثر من عذاب من لم يعلم إذ زيادة العلم تقوى الحجة وكون القارئ لم يحترم ما يحفظ ذنب آخر قال الله تعالى: { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } وقال في أزواج رسول الله ﷺ: { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين }
وقد أخبرنا أحمد بن أحمد المتوكلي نا أحمد بن علي بن ثابت نا أبو الحسن بن زرقويه نا إسماعيل الصفار ثنا زكريا بن يحيى ثنا معروف الكرخي قال قال بكر بن حبيش: إن في جهنم لواديا تتعوذ جهنم من ذلك الوادي كل يوم سبع مرات وإن في الوادي لجبا يتعوذ الوادي وجهنم من ذلك الجب كل يوم سبع مرات وإن في الجب لحية يتعوذ الجب والوادي وجهنم من تلك الحية كل يوم سبع مرات يبدأ بفسقة حملة القرآن فيقولون: أي رب يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان فقيل لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم قال المصنف فلنقتصر على هذا الأنموذج فيما يتعلق بالقراء
ذكر تلبيس إبليس على أصحاب الحديث
[عدل]من ذلك أن قوما استغرقوا أعمارهم في سماع الحديث والرحلة فيه وجمع الطرق الكثيرة وطلب الأسانيد العالية والمتون الغريبة وهؤلاء على قسمين قسم قصدوا حفظ الشرع بمعرفة صحيح الحديث من سقيمه وهم مشكورون على هذا القصد إلا أن إبليس يلبس عليهم بأن يشغلهم بهذا عما هو فرض عين من معرفة ما يجب عليهم والاجتهاد في أداء اللازم والتفقه في الحديث
فإن قال قائل فقد فعل هذا خلق كثير من السلف كيحيى بن معين وابن المديني والبخاري ومسلم فالجواب أن أولئك جمعوا بين معرفة المهم من أمور الدين والفقه فيه وبين ما طلبوا من الحديث وأعانهم على ذلك قصر الإسناد وقلة الحديث فاتسع زمانهم للأمرين فأما في هذا الزمان فإن طرق الحديث طالت والتصانيف فيه اتسعت وما في هذا الكتاب في تلك الكتب وإنما الطرق تختلف فقل أن يمكن أحدا أن يجمع بين الأمرين فترى المحدث يكتب ويسمع خمسين سنة ويجمع الكتب ولا يدري ما فيها ولو وقعت له حادثة في صلاته لافتقر إلى بعض أحداث المتفقهة الذين يترددون إليه لسماع الحديث منه وبهؤلاء تمكن الطاعنون على المحدثين فقالوا: زوامل أسفار لا يدرون ما معهم
فإن أفلح أحدهم ونظر في حديثه فربما عمل بحديث منسوخ وربما فهم من الحديث ما يفهم العامي الجاهل وعمل بذلك وليس بالمراد من الحديث كما روينا أن بعض المحدثين روي عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره فقال جماعة ممن حضر قد كنا إذ فضل عنا ماء في بساتيننا سرحناه إلى جيراننا ونحن نستغفر الله فما فهم القارئ ولا السامع ولا شعروا أن المراد وطء الحبالى من السبايا
قال الخطابي: وكان بعض مشايخنا يروي الحديث أن النبي ﷺ نهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة بإسكان اللام قال وأخبرني: أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل الصلاة قال فقلت له إنما هو الحلق جمع حلقة وإنما كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة وأمر أن يشتغل بالصلاة وينصت للخطبة فقال قد فرجت علي وكان من الصالحين وقد كان ابن صاعد كبير القدر في المحدثين لكنه لما قلت مخالطته للفقهاء كان لا يفهم جواب فتوى حتى أنه أخبر أبو منصور البزار نا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال سمعت اليرقاني يقول قال أبو بكر الأبهري الفقيه قال كنت عند يحيى بن محمد بن صاعد فجاءته امرأة فقالت: أيها الشيخ ما تقول في بئر سقطت فيه دجاجة فماتت فهل الماء طاهر أو نجس فقال يحيى ويحك كيف سقطت الدجاجة إلى البئر قالت: لم تكن البئر مغطاة فقال يحيى: ألا غطيتها حتى لا يقع فيها شيء قال الأبهري فقلت يا هذه إن كان الماء تغير فهو نجس وإلا فهو طاهر
قال المصنف: وكان ابن شاهين قد صنف في الحديث مصنفات كثيرة أقلها جزء وأكثرها التفسير وهو ألف جزء وما كان يعرف من الفقه شيئا وقد كان فيهم من يقدم على الفتوى بالخطأ لئلا يرى بعين الجهل فكان فيهم من يصير بما يفتي به ضحكة فسئل بعضهم عن مسألة من الفرائض فكتب في الفتوى تقسم على فرائض الله سبحانه وتعالى
وأنبأنا محمد بن أبي منصور نا أحمد بن الحسين بن حبرون نا أحمد بن محمد العتيقي نا أبو عمر بن حياة نا سليمان بن إسحاق الحلاب ثنا إبراهيم الحربي قال بلغني أن امرأة جاءت إلى علي بن داود وهو يحدث وبين يديه مقدار ألف نفس فقالت له: حلفت بصدقة إزاري فقال لها بكم اشتريته قالت باثنين وعشرين درهما قال اذهبي فصومي اثنين وعشرين يوما فلما مرت جعل يقول آه آه غلطنا والله أمرناها بكفارة الظهار
قال المصنف: قلت فانظروا إلى هاتين الفضيحتين فضيحة الجهل وفضيحة الإقدام على الفتوى بمثل هذا التخليط واعلم أن عموم المحدثين حملوا ظاهر ما تعلق من صفات الباري سبحانه على مقتضى الحس فشبهوا لأنهم لم يخالطوا الفقهاء فيعرفوا حمل المتشابه على مقتضى الحكم وقد رأينا في زماننا من يجمع الكتب منهم ويكثر السماع ولا يفهم ما حصل
ومنهم من لا يحفظ القرآن ولا يعرف أركان الصلاة فتشاغل هؤلاء على زعمهم بفروض الكفاية عن فروض الأعيان وإيثار ما ليس بمهم على المهم من تلبيس إبليس
القسم الثاني قوم أكثروا سماع الحديث ولم يكن مقصودهم صحيحا ولا أرادوا معرفة الصحيح من غيره بجمع الطرق وإنما كان مرادهم العوالي والغرائب فطافوا البلدان ليقول أحدهم لقيت فلانا ولي من الأسانيد ما ليس لغيري وعندي أحاديث ليست عند غيري
وقد كان دخل إلينا إلى بغداد بعض طلبة الحديث وكان يأخذ الشيخ فيقعده في الرقة وهي البستان الذي على شاطئ دجلة فيقرأ عليه ويقول في مجموعاته حدثني فلان وفلان بالزقة ويوهم الناس أنها البلدة التي بناحية الشام ليظنوا أنه قد تعب في الأسفار لطلب الحديث وكان يقعد الشيخ بين نهر عيسى والفرات ويقول حدثني فلان من وراء النهر يوهم أنه عبر خراسان في طلب الحديث وكان يقول حدثني فلان في رحلتي الثانية والثالثة ليعلم الناس قدر تعبه في طلب الحديث فما بورك له ومات في زمان الطلب
قال المصنف: وهذا كله من الإخلاص بمعزل وإنما مقصودهم الرساة والمباهاة ولذلك يتبعون شاذ الحديث وغريبه وربما ظفر أحدهم بجزء فيه سماع أخيه المسلم فأخفاه ليتفرد هو بالرواية وقد يموت هو ولا يرويه فيفوت الشخصين وربما رحل أحدهم إلى شيخ أول اسمه قاف أو كاف ليكتب ذلك في مشيخته فحسب
ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلبا للتشفي ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع والله أعلم بالمقاصد ودليل مقصد خبث هؤلاء سكوتهم عمن أخذوا عنه وما كان القدماء هكذا فقد كان علي بن المديني يحدث عن أبيه وكان ضعيفا ثم يقول وفي حديث الشيخ ما فيه
أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري نا أبو سعيد بن أبي صادق نا أبو عبد الله بن باكويه ثنا بكر أن ابن أحمد الجيلي قال سمعت يوسف بن الحسين يقول: سألت حارثا المحاسبي عن الغيبة فقال احذرها فإنها شر مكتسب وما ظنك بشيء يسلبك حسناتك فيرضى به خصماءك ومن تبغضه في الدنيا كيف ترضى به خصمك يوم القيامة يأخذ من حسناتك أو تأخذ من سيئاته إذ ليس هناك درهم ولا دينار فاحذرها وتعرف منبعها فإن منبع غيبة الهمج والجهال من اشفاء الغيظ والحمية والحسد وسوء الظن وتلك مكشوفة غير خفية وأما غيبة العلماء فمنبعها من خدعة النفس على إبداء النصيحة وتأويل ما لا يصح من الخبر ولو صح ما كان عونا على الغيبة وهو قوله أترغبون عن ذكره اذكروه بما فيه ليحذره الناس ولو كان الخبر محفوظا صحيحا لم يكن فيه إبداء شناعة على أخيك المسلم من غير أن تسأل عنه وإنما إذا جاءك مسترشد فقال أريد أن أزوج كريمتي من فلان فعرفت منه بدعة أو أنه غير مأمون على حرم المسلمين صرفته عنه بأحسن صرف أو يجيئك رجل آخر فيقول لك أريد أن أودع مالي فلانا وليس ذلك الرجل موضعا للأمانة فتصرفه عنه بأحسن الوجوه أو يقول لك يا رجل أريد أن أصلي خلف فلان أو أجعله إمامي في علم فتصرفه عنه بأحسن الوجوه ولا تشف غيظك من غيبته
وأما منبع الغيبة من القراء والنساك فمن طريق التعجب يبدي عوار الأخ ثم يتصنع بالدعاء في ظهر الغيب فيتمكن من لحم أخيه المسلم ثم يتزين بالدعاء له وأما منبع الغيبة من الرؤساء والأساتذة فمن طريق إبداء الرحمة والشفقة حتى يقول مسكين فلان ابتلى بكذا وامتحن بكذا نعوذ بالله من الخذلان فيتصنع بإبداء الرحمة والشفقة على أخيه ثم يتصنع بالدعاء له عند إخوانه ويقول إنما أبديت لكم ذاك لتكثروا دعاءكم له ونعوذ بالله من الغيبة تعريضا أو تصريحا فاتق الغيبة فقد نطق القرآن بكراهتها فقال تعالى: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } وقد روي عن النبي ﷺ في ذلك أخبار كثيرة
ومن تلبيس إبليس على علماء المحدثين رواية الحديث الموضوع من غير أن يبينوا أنه موضوع وهذه جناية منهم على الشرع ومقصودهم ترويج أحاديثهم وكثرة رواياتهم وقد قال ﷺ: [ من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ] ومن هذا الفن تدليسهم في الرواية فتارة يقول أحدهم فلان عن فلان أو قال فلان عن فلان يوهم أنه سمع منه المنقطع ولم يسمع وهذا قبيح لأنه يجعل المنقطع في مرتبة المتصل ومنهم من يروي عن الضعيف والكذاب فينفي اسمه فربما سماه بغير اسمه وربما كناه وربما نسبه إلى جده لئلا يعرف وهذه جناية على الشرع لأنه يثبت حكما بما لا يثبت به فأما إذا كان المروي عنه ثقة فنسبه إلى جده أو اقتصر على كنيته لئلا يرى أنه قد ردد الرواية عنه أو يكون المروي عنه في مرتبة الراوي فيستحي الراوي من ذكره فهذا على الكراهة والبعد من الصواب قريب بشرط أن يكون المروي عنه ثقة والله الموفق
ذكر تلبيس إبليس على الفقهاء
[عدل]قال المصنف: كان الفقهاء في قديم الزمان هم أهل القرآن والحديث فمازال الأمر يتناقض حتى قال المتأخرون يكفينا أن نعرف آيات الأحكام من القرآن وأن نعتمد على الكتب المشهورة في الحديث كسنن أبي داود ونحوها ثم استهانوا بهذا الأمر أيضا وصار أحدهم يحتج بآية لا يعرف معناها وبحديث لا يدري أصحيح هو أم لا وربما اعتمد على قياس يعارضه حديث صحيح ولا يعلم لقلة التفاته إلى معرفة النقل وإنما الفقه استخراج من الكتاب والسنة فكيف يستخرج من شيء لا يعرفه ومن القبيح تعليق حكم على حديث لا يدري أصحيح هو أم لا ولقد كانت معرفة هذا تصعب ويحتاج الإنسان إلى السفر الطويل والتعب الكثير حتى تعرف ذلك فصنفت الكتب وتقررت السنن وعرف الصحيح من السقيم ولكن غلب على المتأخرين الكسل بالمرة عن أن يطالعوا علم الحديث حتى أني رأيت بعض الأكابر من الفقهاء يقول في تصنيفه عن ألفاظ في الصحاح لا يجوز أن يكون رسول الله ﷺ قال هذا ورأيته يحتج في مسألة فيقول دليلنا ما روى بعضهم أن رسول الله قال كذا ويجعل الجواب عن حديث صحيح قد احتج به خصمه أن يقول هذا الحديث لا يعرف وهذا كله جناية على الإسلام
ومن تلبيس إبليس على الفقهاء أن جل اعتمادهم على تحصيل علم الجدل يطلبون بزعمهم تصحيح الدليل على الحكم والاستنباط لدقائق الشرع وعلل المذاهب ولو صحت هذه الدعوى منهم لتشاغلوا بجميع المسائل وإنما يتشاغلون بالمسائل الكبار ليتسع فيها الكلام فيتقدم المناظر بذلك عند الناس في خصام النظر فهم أحدهم بترتيب المجادلة والتفتيش على المناقضات طلبا للمفاخرات والمباهاة وربما لم يعرف الحكم في مسألة صغيرة تعم بها البلوى
ذكر تلبيسه عليهم بإدخالهم في الجدل كلام الفلاسفة واعتمادهم على تلك الأوضاع
[عدل]ومن ذلك إيثارهم للقياس على الحديث المستدل به في المسألة ليتسع لهم المجال في النظر وإن استدل أحد منهم بالحديث هجن ومن الأدب تقديم الاستدلال بالحديث ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول ﷺ وأصحابه ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب
ومن لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لص فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم فإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم وقد كان بعض السلف يقول حديث يرق له قلبي أحب إلي من مائة قضية من قضايا شريح وإنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب ومن ذلك أنهم اقتصروا على المناظرة وأعرضوا عن حفظ المذهب وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عن آية أو حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل وإذا خفي على أحدهم شيء نبهه الآخر لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه على أصل بعلة يظنها فقيل له ما الدليل على أن الحكم في الأصل معلل بهذه العلة فقال هذا الذي يظهر لي فإن ظهر لكم ما هو أولى من ذلك فاذكروه فإن المعترض لا يلزمني ذكر ذلك
وقد صدق في أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل في باب النصح وإظهار الحق يلزمه ومن ذلك أن أحدهم يتبين له الصواب مع خصمه ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مع خصمه وربما اجتهد في رده مع علمه أنه الحق وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق وقد قال الشافعي رحمه الله ما ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني ولا قبلها إلا هبته: وما ناظرت أحدا فباليت مع من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه ومن ذلك أن طلبهم للرياسة بالمناظرة تثير الكامن في النفس من حب الرياسة فإذا رأى أحدهم في كلامه ضعفا يوجب قهر خصمه له خرج إلى المكابرة فإن رأى خصمه قد استطال عليه بلفظ أخذته حمية الكبر فقابل ذلك بالسب فصارت المجادلة مخاذلة ومن ذلك ترخصهم في الغيبة بحجة الحكاية عن المناظرة فيقول أحدهم: تكلمت مع فلان فما قال شيئا ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة ومن ذلك أن إبليس لبس عليهم بأن الفقه وحده علم الشرع ليس ثم غيره فإن ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئا وينسون أن الحديث هو الأصل فإن ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هذا كلام الوعاظ ومن ذلك إقدامهم على الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا في المشكلات كان أولى
فقد أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي نا محمد بن هبة الله الطبري ثنا محمد بن الحسين بن الفضل نا عبد الله بن جعفر بن درستويه ثنا يعقوب بن سفيان ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله ﷺ يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول قال يعقوب وثنا أبو نعيم ثنا سفيان عن عطاء بن السائب قال سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أيضا يقول أدركت في هذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله ﷺ ما منهم من يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا
قال المصنف: وقد روينا عن إبراهيم النخعي أن رجلا سأله عن مسألة فقال: ما وجدت من تسأله غيري وعن مالك بن أنس رضي الله عنه قال ما أفتيت حتى سألت سبعين شيخا هل ترون لي أن أفتي فقالوا نعم فقيل له فلو نهوك قال لو نهوني انتهيت وقال رجل لأحمد بن حنبل: إني حلفت ولا أدري كيف حلفت قال ليتك إذ دريت كيف حلفت دريت أنا كيف أفتيك
قال المصنف: وإنما كانت هذه سجية السلف لخشيتهم الله تعالى وخوفهم منه ومن نظر في سيرتهم تأدب
ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا فيقع بذلك الفساد لثلاثة أوجه الأول الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر علي الفقيه وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي والثاني العامي أنه يقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله فإن فلانا الفقيه لا يبرح عنده والثالث الفقيه فإنه يفسد دينه بذلك
وقد لبس إبليس عليهم في الدخول على السلطان فيقول إنما ندخل لنشفع في مسلم وينكشف هذا التلبيس بأنه لو دخل غيره يشفع لما أعجبه ذلك وربما قدح في ذلك الشخص لتفرده بالسلطان ومن تلبيس إبليس عليه في أخذ أموالهم فيقول لك فيها حق ومعلوم أنها إن كانت من حرام لم يحل له منها شيء وإن كانت من شبهة فتركها أولى وإن كانت من مباح جاز له الأخذ بمقدار مكانه من الدين لا على وجه اتفاقه في إقامة الرعونة وربما اقتدى العوام بظاهر فعله واستباحوا ما لا يستباح
وقد لبس إبليس على قوم من العلماء ينقطعون على السلطان إقبالا على التعبد والدين فيزين لهم غيبة من يدخل على السلطان من العلماء فيجمع لهم آفتين غيبة الناس ومدح النفس وفي الجملة فالدخول على السلاطين خطر عظيم لأن النية قد تحسن في أول الدخول ثم تتغير بإكرامهم وإنعامهم أو بالطمع فيهم ولا يتماسك عن مداهنتهم وترك الإنكار عليهم
وقد كان سفيان الثوري رضي الله عنه يقول: ما أخاف من إهانتهم لي إنما أخاف من إكرامهم فيميل قلبي إليهم وقد كان علماء السلف يبعدون عن الأمراء لما يظهر من جورهم فتطلبهم الأمراء لحاجتهم إليهم في الفتاوى والولايات فنشأ أقوام قويت رغبتهم في الدنيا فتعلموا العلوم التي تصلح للأمراء وحملوها إليهم لينالوا من دنياهم ويدلك على أنهم قصدوا بالعلوم أن الأمراء كانوا قديما يميلون إلى سماع الحجج في الأصول فأظهر الناس علم الكلام ثم مال بعض الأمراء إلى المناظرة في الفقه فمال الناس إلى الجدل ثم بعض الأمراء إلى المواعظ فمال خلق كثير من المتعلمين إليها ولما كان جمهور العوام يميلون إلى القصص كثر القصاص وقل الفقهاء
ومن تلبيس إبليس على الفقهاء: أن أحدهم يأكل من وقف المدرسة المبنية على المتشاغلين بالعلم فيمكث فيها سنين ولا يتشاغل ويقنع بما عرف أو ينتهي في العلم فى يبقى له في الوقف حظ لأنه إنما جعل لمن يتعلم إلا أن يكون ذلك الشخص معيدا أو مدرسا فإن شغله دائم ومن ذلك ما يحكى عن بعض الأحداث المتفقهة من الانبساط في المنهيات فبعضهم يلبس الحرير ويتحلى بالذهب ويحال على المكث فيأخذه إلى غير ذلك من المعاصي وسبب انبساط هؤلاء مختلف فمنهم من يكون فاسد العقيدة في أصل الدين وهو يتفقه ليستر نفسه أو ليأخذ من الوقف أو ليرأس أو ليناظر ومنهم من عقيدته صحيحة لكن يغلبه الهوى وحب الشهوات وليس عنده صارف عن ذلك لأن نفس الجدل والمناظرة تحرك الكبر والعجب وإنما يتقوم الإنسان بالرياضة ومطالعة سير السلف وأكثر القوم في بعد عن هذا وليس عندهم إلا ما يعين الطبع على شموخه فحينئذ يسرح الهوى بلا زاد ومنهم من يلبس عليه إبليس بأنه عالم وفقيه ومفت والعلم يدفع عن أربابه وهيهات فإن العلم أولى أن يحاجه ويضاعف عذابه كما ذكرنا في حق القراء وقد قال الحسن البصري: إنما الفقيه من يخشى الله تعالى قال ابن عقيل: رأيت فقيها خراسانيا عليه حرير وخواتم ذهب فقلت له ما هذا فقال خلع السطان وكمد الأعداء فقلت له بل هو شماتة الأعداء بك إن كنت مسلما لأن إبليس عدوك وإذا بلغ منك مبلغك ألبسك ما يسخط الشرع فقد أشمته بنفسك وهل خلع السطان سائغة لنهي الرحمن يا مسكين خلع عليك السطان فانخلعت به من الإيمان وقد كان ينبغي أن يلخع بك السلطان لباس الفسق ويلبسك لباس التقوى رماكم الله بخزيه حيث هونتم أمره هكذا ليتك قلت هذه رعونات الطبع الآن تمت محنتك لأن عدوانك دليل على فساد باطنك
ومن تلبيسه عليهم: أن يحسن لهم ازدراء الوعاظ ويمنعهم من الحضور عندهم فيقولون من هؤلاء قصاص ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع والقصاص لا يذمون من حيث هذا الاسم لأن الله تعالى قال: { نحن نقص عليك أحسن القصص } وقال: { فاقصص القصص } وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد ثم غالبهم يخلط فيما يورده وربما اعتمد على ما أكثره محال فأما إذا كان القصص صدقا ويوجب وعظا فهو ممدوح وقد كان أحمد بن حنبل يقول: ما أحوج الناس إلى قاص صدوق
ذكر تلبيسه على الوعاظ والقصاص
[عدل]قال المصنف: كان الوعاظ في قديم الزمان علماء فقهاء وقد حضر مجلس عبيد بن عمير عبد الله بن عمر رضي الله عنه وكان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهال فبعد عن الحضور وعندهم المميزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن
وقد ذكرنا آفاتهم في كتاب القصاص والمذكرين إلا أنا نذكر هنا جملة فمن ذلك: أن قوما منهم كانوا يضعون أحاديث الترغيب والترهيب ولبس عليهم إبليس: بأننا نقصد حث الناس على الخير وكفهم عن الشر وهذا افتيات منهم على الشريعة لأنها عندهم على هذا الفعل ناقصة تحتاج إلى تتمة ثم نسوا قوله ﷺ: [ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] ومن ذلك أنهم تلمحوا ما يزعج النفوس ويطرب القلوب فنوعوا فيه الكلام فتراهم ينشدون الأشعار الرائقة الغزلية في العشق
ولبس عليهم إبليس بأننا نقصد الإشارة إلى محبة الله تعالى ومعلوم أن عامة من يحضرهم العوام الذين بواطنهم مشحونة بحب الهوى فيضل القاص ويضل ومن ذلك من يظهر من التواجد والتخاشع زيادة على ما في قلبه وكثرة الجمع توجب زيادة تعمل فتسمح النفس بفضل بكاء وخشوع فمن كان منهم كاذبا فقد خسر الآخرة ومن كان صادقا لم يسلم صدقة من رياء يخالطه ومنهم من يتحرك الحركات التي يوقع بها على قراءة الألحان والألحان التي قد أخرجوها اليوم مشابهة للغناء فهي إلى التحريم أقرب منها إلى الكراهة والقارئ يطرب والقاص ينشد الغزل مع تصفيق بيديه وإيقاع برجليه فتشبه السكر ويوجب ذلك تحريك الطباع وتهييج النفوس وصياح الرجال والنساء وتمزيق الثياب لما في النفوس من دفائن الهوى ثم يخرجون فيقولون كان المجلس طيبا ويشيرون بالطيبة إلى ما لا يجوز ومنهم من يجري في مثل تلك الحالة التي شرحناها لكنه ينشد أشعار النوح على الموتى ويصف ما يجري لهم من البلاء ويذكر الغربة ومن مات غريبا فيبكي بها النساء ويصير المكان كالمأتم وإنما ينبغي أن يذكر الصبر على فقد الأحباب لا ما يوجب الجزع ومنهم من يتكلم في دقائق الزهد ومحبة الحق سبحانه فليس عليه إبليس: إنك من جملة الموصوفين بذلك لأنك لم تقدر على الوصف حتى عرفت ما تصف وسلكت الطريق وكشف هذا التلبيس أن الوصف علم والسلوك غير العلم ومنهم من يتكلم بالطامات والشطح الخارج عن الشرع ويستشهد بأشعار العشق وغرضه أن يكثر في مجلسه الصياح ولو على كلام فاسد وكم منهم من يزوق عبارة لا معنى تحتها وأكثر كلامهم اليوم في موسى والجبل وزليخا ويوسف ولا يكادون يذكرون الفرائض ولا ينهون عن ذنب فمتى يرجع صاحب الزنا ومستعمل الربا وتعرف المرأة حق زوجها وتحفظ صلاتها هيهات هؤلاء تركوا الشرع وراء ظهورهم ولهذا نفقت سلعهم لأن الحق ثقيل والباطل خفيف ومنهم من يحث على الزهد وقيام الليل ولا يبين للعامة المقصود فربما تاب الرجل منهم وانقطع إلى زاوية أو خرج إلى جبل فبقيت عائلته لا شيء لهم ومنهم من يتكلم في الرجاء والطمع من غير أن يمزج ذلك بما يوجب الخوف والحذر فيزيد الناس جرأة على المعاصي ثم يقوي ما ذكر بميله إلى الدنيا من المراكب الفاهرة والملابس الفاخرة فيفسد القلوب بقوله وفعله
فصل
[عدل]وقد يكون الوعظ صادقا قاصدا للنصيحة إلا أن منهم من شرب الرئاسة في قلبه مع الزمان فيجب أن يعظم وعلامته أنه إذا ظهر واعظ ينوب عنه أو يعينه على الخلق كره ذلك ولو صح قصده لم يكره أن يعينه على خلائق الخلق
فصل
[عدل]ومن القصاص من يخلط في مجلسه الرجال والنساء وترى النساء يكثرن الصياح وجدا على زعمهن فلا ينكر ذلك عليهن جمعا للقلوب عليه ولقد ظهر في زماننا هذا من القصاص ما لا يدخل في التلبيس لأنه أمر صريح من كونهم جعلوا القصص معاشا يستمحنون به الأمراء والظلمة والأخذ من أصحاب المكوس والتكسب في البلدان وفيهم من يحضر المقابر فيذكر البلى لفراق الأحبة فيبكي النسوة ولا يحث على الصبر
وقد يلبس إبليس على الواعظ المحقق فيقول له: مثلك لا يعظ وإنما يعظ متيقظ فيحمله على السكوت والانقطاع وذلك من دسائس إبليس لأنه يمنع فعل الخير ويقول إنك تلتذ بما تورده وتجد بذلك سد باب الخير وعن ثابت قال: كان الحسن في مجلس فقيل للعلاء تكلم فقال أو هناك أنا ثم ذكر الكلام ومؤنته وتبعته قال ثابت: فأعجبني قال ثم تكلم الحسن وإننا هناك يود الشيطان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحدا بخير ولم ينهه عن شر
ذكر تلبيسه على أهل اللغة والأدب
[عدل]قال المصنف: قد لبس على جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب وبما هو أفضل من علوم التفسير والحديث والفقه فأذهبوا الزمان كله في علوم لا تراد لنفسها بل لغيرها فإن الإنسان إذا فهم الكلمة فينبغي أن يترقى إلى العمل بها إذ هي مراده لغيرها فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل ولا من الفقه ولا يلتفت إلى تزكية نفسه وصلاح قلبه
ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس أنكم علماء الإسلام لأن النحو واللغة من علوم الإسلام وبها يعرف معنى القرآن العزيز ولعمري أن هذا لا ينكر ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب وهو أمر لازم وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه وإنفاق الزمان في تحصيل هذا الفاضل وليس بمهم مع ترك المهم غلط وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسنا ولكن العمر قصير فينبغي إيثار الأهم والأفضل
فصل
[عدل]ومما ظنوه صوابا وهو خطأ ما أخبرنا به أبو الحسين بن فارس قال: قيل لفقيه العرب هل يجب على الرجل إذا أشهد الوضوء قال: نعم قال والإشهاد أن يمذي الرجل
قال المصنف: وذكر من هذا الجنس مسائل كثيرة وهذا غاية في الخطأ لأنه متى كان الاسم مشتركا بين مسميين كان إطلاق الفتوى على أحدهما دون الآخر خطأ مثاله أن يقول: المستفتي ما تقول: في وطء الرجل زوجته في قرئها فإن القرء يقع عند اللغويين على الإطهار وعلى الحيض فيقول الفقيه: يجوز إشارة إلى الطهر أو لا يجوز إشارة إلى الحيض خطأ وكذلك لو قال السائل: هل يجوز للصائم أن يأكل بعد طلوع الفجر لم يجز على إطلاق الجواب فما ذكره فقيه العرب هو خطأ من وجهين أحدهما أنه لم يستفصل في المحتملات والثاني أنه صرف الفتوى إلى أبعد المحتملات وترك الأظهر وقد استحسنوا هذا وقلة الفقه أوجبت هذا الزلل
فصل
[عدل]ولما كان عموم اشتغالهم بأشعار الجاهلية ولم يجد الطبع صادا عما وضع عليه من مطالعة الأحاديث ومعرفة سير السلف الصالح سالت بهم الطباع إلى هوة الهوى فانبثت شرع البطالة يعبث فقل أن ترى منهم متشاغلا بالتقوى أو ناظرا في مطعم فإن النحو يغلب طلبه على السلاطين فيأكل النحاة من أموالهم الحرام كما كان أبو علي الفارسي في ظل عضد الدولة وغيره وقد يظنون جواز الشيء وهو غير جائز لقلة فقههم كما جرى للزجاج أبي إسحاق إبراهيم بن السري قال: كنت أؤدب القاسم بن عبد الله فأقول له إن بلغت إلى مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي: فيقول: ما أحببت فأقول له: أن تعطيني عشرين ألف دينار وكانت غاية أمنيتي فما مضت إلا سنون حتى ولي القاسم الوزارة وأنا على ملازمتي له وقد صرت نديمة فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد ثم هبته فلما كان في اليوم الثالث من وزارته قال لي: يا أبا إسحاق لم أرك أذكرتني بالنذر فقلت عولت على رعاية الوزير أيده الله وأنه لا يحتاج إلى إذكار لنذر عليه في أمر خادم واجب الحق فقال لي: إنه المعتضد ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد ولكن أخاف أن يصير لي معه حديث فاسمح بأخذه متفرقا فقلت افعل فقال: اجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار واستعجل عليها ولا تمتنع من مسائلتي شيئا تخاطب فيه صحيحا كان أو محالا إلى أن يحصل لك مال النذر ففعلت ذلك وكنت أعرض عليه كل يوم رقاعا فيوقع فيها وربما قال لي كم ضمن لك على هذا فأقول كذا وكذا فيقول غبنت هذا يساوي كذا وكذا فاستزد فاراجع القوم ولا أزال أماكسهم ويزيدونني حتى أبلغ الحد الذي رسمه قال: فعرضت عليه شيئا عظيما فحصل عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها في مدة مديدة فقال لي بعد شهور يا أبا إسحاق حصل مال النذر: فقلت: لا فسكت وكنت أعرض ثم يسألني في كل شهر أو نحوه هل حصل المال فأقول لا خوفا من انقطاع الكسب إلى أن حصل عندي ضعف المال وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتصل
فقلت: قد حصل ذلك بسعادة الوزير فقال فرجت والله عني فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل لك قال ثم أخذ الدواة ووقع لي إلى خازنة بثلاثة آلاف دينار صلة فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئا ولم أدر كيف أقع منه فلما كان الغد جئته وجلست على رسمي فأومأ إلي هات ما معك ليستدعي مني الرقاع على الرسم فقلت ما أخذت من أحد رقعة لأن النذر قد وقع الوفاء به ولم أدر كيف أقع من الوزير فقال يا سبحان الله أتراني كنت أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة وعلم به الناس وصارت لك به منزلة عندهم وجاه وغدو ورواح إلى بابك ولا يعلم سبب انقطاعه فيظن ذلك لضعف جاهك عندي أو تغير رتبتك أعرض علي رسمك وخذ بلا حساب فقبلت يده وباكرته من غد بالرقاع وكنت أعرض عليه كل يوم شيئا إلى أن مات وقد تأثلت مالي هذا
قال المصنف: انظروا ما يصنع قلة الفقه فإن هذا الرجل الكبير القدر في معرفته النحو واللغة لو علم أن هذا الذي جرى له لم يجز شرعا ما حكاه وتبجح به فإن إيصال الظلامات واجب ولا يجوز أخذ البرطيل عليها ولا على شيء مما نصب الوزير له من أمور الدولة وبهذا تبين مرتبة الفقه على غيره
ذكر تلبيس إبليس على الشعراء
[عدل]قال المصنف: وقد لبس عليهم فأراهم أنهم من أهل الأدب وأنهم قد خصوا بفطنة تميزوا بها عن غيرهم ومن خصكم بهذه الفطنة ربما عفا عن زللكم فتراهم يهيمون في كل واد من الكذب والقذف والهجاء وهتك الأعراض والإقرار بالفواحش وأقل أحوالهم أن الشاعر يمدح الإنسان فيخاف أن يهيجوه فيعطيه اتقاه شره أو يمدحه بين جماعة فيعطيه حياء من الحاضرين وجميع ذلك من جنس المصادرة
وترى خلقا من الشعراء وأهل الأدب لا يتحاشون من لبس الحرير والكذب في المدح خارجا عن الحد ويحكون اجتماعهم على الفسق وشرب الخمر وغير ذلك ويقول أحدهم: اجتمعت أنا وجماعة من الأدباء ففعلنا كذا وكذا - هيهات هيهات ليس الأدب إلا ما الله تعالى باستعمال التقوى له ولا قدر للفطن في أمور الدنيا ولا تحسن العبارة عند الله إذا لم يتقه وجمهور الأدباء والشعراء إذا ضاق بهم رزق تسخطوا فكفروا وأخذوا في لوم الأقدار كقول بعضهم:
( لئن سمت همتي في الفضل عالية*** فإن حظي ببطن الأرض ملتصق )
( كم يفعل الدهر بي ما لا أسر بهوكم يسيء زمان جائر حنق )
وقد نسي هؤلاء أن معاصيهم تضيق أرزاقهم فقد رأوا أنفسهم مستحقين للنعم مستوجبين للسلامة من البلاء ولم يتلمحوا ما يجب عليهم من امتثال أوامر الشرع فقد ضلت فطنتهم في هذه الغفلة
ذكر تلبيس إبليس على الكاملين من العلماء
[عدل]قال المصنف: إن أقواما علت هممهم فحصلوا علوم الشرع من القرآن والحديث والفقه والأدب وغير ذلك فأتاهم إبليس يخفي التلبيس فأراهم أنفسهم بعين عظيمة لما نالوا وأفادوا غيرهم فمنهم من يستفزه لطول عنائه في الطلب فحسن له اللذات وقال له إلى متى هذا التعب فأرح جوارحك من كلف التكاليف وافسح لنفسك في مشتهاها فإن وقعت في زلة فالعلم يدفع عنك العقوبة وأورد عليه فضل العلماء فإن خذل هذا العبد وقبل هذا التلبيس يهلك وإن وفق فينبغي له أن يقول: جوابك من ثلاثة أوجه
أحدها إنه إنما فضل العلماء بالعمل ولولا العمل به ما كان له معنى وإذا لم أعمل به كنت كمن لم يفهم المقصود به ويصير مثلي كمثل رجل جمع الطعام وأطعم الجياع ولم يأكل فلم ينفعه ذلك من جوعه
والثاني أن يعارضه بما ورد في ذم من لم يعمل بالعلم لقوله ﷺ: [ أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ] وحكايته ﷺ عن رجل يلقى في النار فتندلق أقتابه فيقول كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه وقول أبي الدرداء رضي الله عنه ويل لمن يعلم مرة وويل لمن علم ولم يعمل سبع مرات
والثالث أن يذكر له عقاب من هلك من العلماء التاركين للعمل بالعلم كإبليس وبلعام ويكفي في ذم العالم إذا لم يعمل قوله تعالى: { كمثل الحمار يحمل أسفارا }
نقد مسالك الكاملين من العلماء
[عدل]وقد لبس إبليس على أقوام من المحكمين في العلم والعمل من جهة أخرى فحسن لهم الكبر بالعلم والحسد للنظير والرياء لطلب الرياسة فتارة يريهم أن هذا كالحق الواجب لهم وتارة يقوي حب ذلك عندهم فلا يتركونه معه علمهم بأنه خطأ - وعلاج هذا لمن وفق إدمان النظر في إثم الكبر والحسد والرياء وإعلام النفس أن العلم لا يدفع شر هذه المكتسبات بل يضاعف عذابها لتضاعف الحجة بها ومن نظر في سير السلف من العلماء العاملين استقر نفسه فلم يتكبر ومن عرف الله لم يراء ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته لم يحسد
وقد يدخل إبليس على هؤلاء بشبهة ظريفة فيقول: طلبكم للرفعة ليس بتكبر لأنكم نواب الشرع فإنكم تطلبون إعزاز الدين ودحض أهل البدع وإطلاقكم اللسان في الحساد غضب للشرع إذ الحساد قد ذموا من قام به وما تظنونه رياء فليس برياء لأن من تخاشع منكم وتباكى اقتدى به الناس كما يقتدون بالطبيب إذا اجتمى أكثر من اقتدائهم بقوله إذا وصف
وكشف هذا التلبيس: أن لو تكبر متكبر على غيرهم من جنسهم وصعد في المجلس فوقه أو قل حاسد عنه شيئا لم يغضب هذا العالم لذلك كغضبه لنفسه وإن كان المذكور من نواب الشرع فعلم أنه إنما لم يغضب لنفسه بل للعلم وأما الرياء فلا عذر فيه لأحد ولا يصلح أن يجعل طريقا لدعاية الناس وقد كان أيوب السختياني إذا حدث بحديث فرق ومسح وجهه وقال ما أشد الزكام وبعد هذا فالأعمال بالنيات والناقد بصير وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم بذلك من ثلاثة أوجه: أحدها الفرح فإنه حصل بوجود هذه المعصية من المغتاب والثاني لسروره بثلب المسلمين والثالث أنه لا ينكر
وقد لبس إبليس على الكاملين في العلوم فيسهرون ليلهم ويدأبون نهارهم في تصانيف العلوم ويريهم إبليس أن المقصود نشر الدين ويكون مقصودهم الباطن انتشار الذكر وعلو الصيت والرياسة وطلب الرحلة من الآفاق إلى المصنف
وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انتفع بمصنفاته الناس من غير تردد إلى أو قرئت على نظيره في العلم فرح بذلك إن كان مراده نشر العلم وقد قال بعض السلف ما من علم علمته إلا أحببت أن يستفيده الناس من غير أن ينسب إلي ومنهم من يفرح بكثرة الاتباع ويلبس عليه إبليس بأن هذا الفرح لكثرة طلاب العلم وإنما مراده كثرة الأصحاب واستطارة الذكر ومن ذلك العجب بكلماتهم وعلمهم وينكشف هذا التلبيس بأنه لو انقطع بعضهم إلى غيره ممن هو أعلم منه ثقل ذلك عليه وما هذه صفة المخلص في التعليم لأن مثل المخلص مثل الأطباء الذين يداوون المرضى لله سبحانه وتعالى فإذا شفي بعض المرضى على يد طبيب منهم فرح الآخر وقد ذكرنا آنفا حديث ابن أبي ليلى ونعيده بإسناد آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومائة من أصحاب النبي ﷺ من الأنصار ما منهم رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه ولا يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه
قال المصنف: وقد يتخلص العلماء الكاملون من تلبيسان إبليس الظاهرة فيأتيهم بخفي من تلبيسه بأن يقول له: ما لقيت مثلك ما أعرفك بمداخلي ومخارجي فإن سكن إلى هذا هلك بالعجب وإن سلم من المسألة له سلم وقد قال السرى السقطي: لو أن رجلا دخل بستانا فيه من جميع ما خلق الله تعالى من الأشجار عليها من جميع ما خلق الله تعالى من الأطيار فخاطبه كل طائر بلغته وقال السلام عليك يا ولي الله فسكنت نفسه إلى ذلك كأن في أيديها أسيرا: والله الهادي لا إله إلا هو