تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب/الفصل الثاني
الفصل الثاني: فيما اتفق في أيام مولانا أبي العباس وولده مولانا أبي فارس عبد العزيز
وبعد خمسة أشهر من إسلامي قدمني السلطان لقيادة البحر بالديوان وكان قصده بذلك أن أحفظ اللسان العربي فيه لكثرة ما يتكرر علي من ترجمة التراجمة بين النصارى والمسلمين. فحفظت جميع اللسان في مقدار عام وحضرت لعمارة الجنوبيين والفرنسيسين على مدينة المهدية، وكنت أترجم للسلطان بما يرد من كتبهم ثم كبتهم الله تعالى وتفرقوا خائبين. وارتحلت مع السلطان إلى حصار قابس وكنت على خزائنه على حصار قفصة وفيه ابتداء مرضه الذي مات فيه ثالث شعبان ستة وتسعين وسبعمائة. ثم تولى الخلافة بعده ولده مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين أبو فارس عبد العزيز، فجدد لي جميع أوامر والده بمرتباتي ومنافعي كلها ثم زادني ولاية دار المختص. واتفق لي في أيامه بالديوان وأنا قائد البحر والترجمة أن مركبا قدم موسقا بسلع للمسلمين فلما أرسى دخل عليه مركبان من صقلية فأخذاه لحينه بعد أن هرب المسلمون منه برقابهم واستولى النصارى على أموالهم. فأمر مولانا أبو فارس صاحب ولاية الديوان وشهوده أن يخرجوا إلى خلف الوادي ويتحدثوا مع النصارى في فداء أموال المسلمين فوصلوا وطلبوا الأمان للترجمان الذي كان معهم فأمنوه فصعد إليهم لمراكبهم وتحدث معهم في الفداء فتغالوا في ذلك ولم يحصل منه شيء.
وكان قد ورد في هذا المركب قسيس كبير القدر من صقلية وكانت بيني وبينه صداقة كأننا إخوة فكنا نطلب العلم جميعا وسمع بإسلامي فصعب عليه فقدم في المركب ليستدعيني إلى الرجوع لدين النصارى ويأخذني بالصداقة التي كانت بيني وبينه. فلما اجتمع بالترجمان الذي صعد إليهم للمركب قال له: ما اسمك؟ قال له: علي. قال: يا علي خذ هذا الكتاب وبلغه للقائد عبد الله قائد البحر عندكم بالديوان، وهذا دينار وإذا أرددت لي جوابه أعطيتك دينارا آخر. فقبض منه الدينار والكتاب وجاء لخلف الوادي. فأخبر صاحب الديوان بكل ما قالوا له ثم أخبره بمقال القسيس وبالكتاب الذي أعطاه وبالدينار الذي استأجره به. فأخذ صاحب الديوان الكتاب وترجمه له بعض تجار الجنوبيين. فبعث الأصل والنسخة لمولانا أبي فارس فقرأه ثم بعث إلي فوصلت بين يديه فقال لي: يا عبد الله هذا الكتاب وصل من البحر فاقرأه وأخبرنا بما فيه. فقرأته وضحكت. فقال: ما الذي أضحكك؟ فقت: نصركم الله هذا الكتاب مبعوث إلي من عند قسيس كان من أصدقائي وأنا أترجمه لكم الآن. فجلست ناحية وترجمته بالعربية ثم ناولته الترجمة فقرأها ثم قال لأخيه المولى إسماعيل: والله ما ترك منه حرفا. فقلت: يا مولانا بأي شيء عرفت ذلك. فقال: نسخة أخرى ترجمها لنا الجنوبيون. ثم قال له: يا عبد الله وماذا عندك أيضا في جواب هذا القسيس. فقلت له: الذي عندي ما علمتموه فيّ من كوني أسلمت باختياري رغبة في دين الحق ولست أجيبه إلى شيء مما أشار إليه. فقال لي: قد علمت صحة إسلامك ولا عندنا فيك شك ولكن الحرب خدعة فاكتب له جوابك أن يأمر صاحب المركب أن يفدي سلع المسلمين ويرخص عليهم، وقل له إذا اتفقتم مع المسلمين على سعر معلوم فاخرج مع الوزان بقصد وزن السلع ثم أهرب إليكم بالليل. ففعلت ما أمرني به وأجبت القسيس لهذا الجواب ففرح وأرخص على المسلمين في فداء متاجرهم وخرج الوزان فلم أخرج معه وأيس مني ذلك القسيس فأقلع مركبه وانصرف وكان نص كتابه إلي بعد السلام عليك:
- من أخيك قرانصي القسيس. نعرفك أني وصلت هذا البلد برسمك لأحملك معي إلى صقلية. وأنا اليوم عند صاحب صقلية بمنزلة أني أولي وأعزل وأعطي وأمنع وأمور جميع مملكته بيدي. واسمع مني وأقبل إلى بركة الله ولا تخف ضياع مال ولا جاه ولا غير ذلك فإن عندي من المال والجاه ما يعم الجميع وأعمل لك ما تريد ولا تتحيل بشيء من أمور الدنيا فإنها فانية والعمر قصير والقبر بالمرصاد، فخف الله تعالى واخرج من ظلمة الإسلامية إلى نور النصرانية. واعلم أن الله ثالث ثلاثة في ملكه ولا سبيل أن تفرد ما جمعه لنفسه. وأنا أعلم أنك تعلم من هذا كله ما لا أعلم ولكن ذكرتك لأن الذكرى تنفع المؤمنين فانتبه من نوم الغفلة واجعل جواب هذا ورودك علي ومثلك لا يحتاج إلى معلم والسلام.
ذكر بعض سيرة مولانا أمير المؤمنين أبي فارس نصره الله
قد أقام سنة العدل في جميع رعاياه وساسهم بالكتاب والسنة ومن مناقبه إكرام العلماء وأهل الصلاح وتعظيم قدومهم عليه وإكرام الشرفاء آل بيت رسول الله ﷺ وبذل جزيل العطاء لهم حتى أنهم قدموا إليه من مشارق الأرض ومغاربها وكل من أقام في بلاده منهم مشى له المرتبات والعوائد والكسوات ومن ارتحل لأرضه أجزل صلته وأكرم وفادته وقد جعل لهم ستين دينارا في كل عام تدفع لزوارهم ليلة المولد العظيم الشريف لينفقوها في الوليمة، أخرج ذلك للمولود الكريم الشريف وجعلها من أعشار الديوان تحريا للحلال سوى ما يصحبها من الطيب وماء الورد والبخور. وأما إنصافه للمظلوم كائنا من كان البتة فقد اشتهر عنه حتى صار قواده وخواصه يسلكون طريقته في العدل ويجتنبون الحيف والأذى ولا يتركون أحدا يشكوهم إليه. وقد جعل قوته وقوت عياله وملابسهم وسائر ضرورياتهم من خوف الله تعالى على أعشار النصارى وجزية اليهود تحريا للحلال في ذلك فلا يزال يتعاهد أهل السجون في غالب أحيانه بسرح من استحق السراح وينجز أحكام الجنايات منهم. وأما كثرة صدقاته فأمر منتشر وقد رتب لتوزيعها ذماما يحتوي على من يستحقها من البنين وذوي الإحسان والمروآت وأسنده إلى الفقيه العدل المدرس أبي عبد بن سلام الطبري فيوصل كل ذي حق منها حقه من المال المعين والطعام والزيت وماشية البقر والغنم من الزكاة وهكذا يفعل في جميع عماله. ومن لطيف مآثره ما يوجهه في العام صحبة ركبان الحجاج لبيت الله الحرام وجيران قبر النبي ﷺ فيفرق بمكة والمدينة من الأموال ما يوسع به على القاطنين والمجاورين هناك أثابه الله تعالى ويوجه مع ذلك من المال والكسوة لمشايخ العرب المعروفة ببرقة من العصاة عوائد يمنعهم بها من اعتراض الحجيج ويرغبهم في تسهيل ذلك الطريق. ومن مناقبه ما مشى لأهل جزيرة أندلس من الإنفاق الدائم فعين لهم ألفي قفيز من القمح من عشر وطن وشنانة سوى ما يصحب ذلك من إدام ومال عين وخيل عتاق والعدة والسلاح الجيد وما لا يوجد من البارود النفيس. ومن ذلك اعتناؤه بمن في أيدي أعداء الدين من أسارى المسلمين وقد أدرك من ذلك غاية لم تسبق لأنه وقف لذلك أوقافا معتبرة كثيرة وقدم على النظر فيها أمين الأمناء أبا عبد الله محمد بن عزوز وأمره بخدمتها وحفظ مجابيها وكلما يتحصل من المجبا يشتري به ريعا برانيا ودخلانيا يحضره تونس وأعده أمير المؤمنين لفداء الأسارى بعد وفاته وإلا فقد التزم بفداء جميع من يرد لمرسى تونس من الأسارى من بيت المال مدة حياته. وحَضرتُه مرارا يرغب بحصار النصارى من جميع أجناسهم بكل ما يقدر عليه من أسارى المسلمين وعين لهم في كل شاب معهم ستين دينارا إلى سبعين وفي كل شيخ وكهل من الأربعين إلى الخمسين وأنا الذي كنت أترجم بينه وبين النصارى في ذلك فما كانت إلا مدة يسيرة حتى جاءه تجارهم بعدد كثير من الأسرى ففدا جميعهم من بيت المال وما زال يفعل إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب أجزل الله مثوبته. ومن عظيم مآثره بناؤه للزاوية خارج باب البحر من تونس وقد كانت فندقا تباح فيه كبائر معاصي الله تعالى جهارا من غير مغير ولا منكر لأن بعض كلاب النصارى التزمه باثني عشر ألف دينارا ذهبا في كل عام لأجل أن يبيع فيه الخمر وغيره من المنكرات وتجتمع فيه من عظائم المناكر ما يحزن قلوب المؤمنين المخلصين فترك مولانا أبو فارس تلك المجابي السحتية لوجه الله تعالى، ولم يقنع بإبطال تلك المعاصي وتغييرها حتى هدم الفندق المذكور وبنى عوضه زاوية عظيمة البناء والنفع وصارت متعبدا لإقام الصلاة والذكر والعبادات وإطعام الطعام على الدوام لأنه وقف عليها أوقافا جمة مفيدة من محرث وفدادين زيتون ومعصرة بإزائها وغير ذلك أثابه الله. وكذلك بناء الزاوية التي قرب بستان بارد والزاوية التي قرب الداموس وجبل الخاوي بقبلي تونس ووقف عليها ما يكفيها، وكذلك السقاية التي خارج باب الحديد والماجل الكبير التي تحت مصلى العيد وبناؤه للمحارس التي بإزاء روابي الجعد والحمامات والرفارف والشراف والقمريات. ومن عظيم مآثره خزانة الكتب التي جعلت بجوف جامع الزيتون من تونس وجمع فيها دواوين مفيدة في علوم شتى ووقفها مؤبدة لطلاب العلم ووقف عليها من فدادين الزيتون وغيرها ما فوق الكفاية للمتناول لها والشهود والحافظ بالباب. ومن عظيم مآثره تأسيس المارستان بتونس ولم يسبقه أحد في إفريقية من المتقدمين والمتآخرين ليمرّض به غير أهل الإسلام ووقف عليه ما يكفيه وذلك عام تأليفي هذا الكتاب وهو عام ثلاثة وعشرون وثمانمائة. ومن عظيم مآثره أموال عظيمة تركها لوجه الله تعالى من المجابي الخارجة عن قانون الشريعة المحمدية وهي مجابي كانت موظفة بجميع أسواق تونس لا يباع فيها بشيء دق أو جل إلا يؤدي بائعه لجانب السلطان شيئا معلوما من درهم إلى دينار أو أكثر فيما له بال وكانت ماضية مستمرة منذ أحقاب طويلة حتى ألهم الله هذا السلطان المبارك لقطعها وتركها فانقطع ضررها عن الناس فترك مجبا سوق الرهبنية وقدره ثلاثة آلاف دينار ذهبا ومجبا سوق دحية الطعام وقدره خمسة آلاف دينار ومجبا سوق العطارين وقدره خمسة آلاف دينار ومجبا رحبة الماشية وقدره عشرة آلاف دينار ومجبا فندق الزيت وقدره خمسة آلاف دينار ومجبا فندق الخضرة وقدره ثلاثة آلاف دينار ومجبا فندق الإدام وقدره خمسون دينارا ومجبا فندق الفحم وقدره ألف دينار ومجبا كبس العمود وقدره ألف دينار، وليس من فوائد الأسواق وإنما هو مال ضربه بعض الملوك المتقدمين على من بواد من بحيرة وغيرهم وهم أهل خيام وعمود ثبت ذلك عليهم أحقابا طويلة حتى أبطله ذلك الملك أبو فارس وقدره ألف دينار، ومجبا فائدة دار الشغل وقدره ألف دينار ومجبا سوق القشاشين وقدره مائتا دينار ومجبا سوق العرافين وقدره خمسون دينارا. وأباح الناس عمل الصابون بعد أن كان ممنوعا ومن ظهر عليه ذلك يعاقب في ماله وبدنه ولا يعمله إلا السلطان بموضع معلوم لا يباع إلا فيه. ومن أعظم درجات حسناته في هذا الباب ترك خرج المناكير وكان كثيرا فمنه الشرطة لحاكم المدينة كان بعض المكاسين يلتزمها بثلاثة دنانير ونصف في كل يوم فأبطل مولانا أبو فارس هذا وأوقف في ذلك رجلا من الثقاة والأمناء والنجباء على وجه الأمانة. وكان على الدفافين والقينات والمغنيات مغارم قبيحة سحتية فتركها عنهم وكان المخنثون الخول بتونس عليهم مغارم ووظائف خدمة دار السلطان فترك المغارم وأجلاهم عن جميع بلاده رحمه الله تعالى لما بلغه عنهم من قبيح المعاصي والمناكر.
وفي أول أيامه السعيدة غزا أسطوله مدينة طرقوبة بجزيرة صقلية فاستولى عليها عنوة وهدم سورها وأتى منها بالمغانم الكبيرة والسبي الكثير. وأما فتوحات بلاد إفريقية ومحوه الآثار المتواترة وأهل الفتن بها بعد المائتين من السنين فأمر عجيب لا يكاد يسعه مكتوب كمدينة طرابلس وقابس وحما وقفصة وتوزت ونفتة ويشكره وقسطينة وبجاية ثم تخطى إلى بلاد الصحراء مثل تعزة وأوجلة ودرج وغداس وجياد وأوغات وتوات حتى أزال الله بعزه كل جبار عنيد من العرب والعجم. وقد كانت عرب إفريقية قبله متغلبة بالاختيار على ملوكها ويحاصرون المدائن ويشاركون أهل السلطنة في مجابيها قهرا ولهم مع الملوك أخبار معلومة حتى قهرهم الله جلت قدرته بهذا السلطان المؤيد فصار يقودهم معه أجنادا في أغراض أسفاره شرقا وغربا بعد أن أباد كثرة أعيانهم ورؤس مشايخهم وصار يبعث قواده نجوع العرب لاستيفاء زكوات مواشيهم وهم صاغرون وتحت السمع والطاعة مذعنون زاده الله من فضله وأمده بنصره.