المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/تمهيد للمؤلف
نريد بهذه المذاهب الفقهية مذاهب الفقهاء المجتهدين الأربعة: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي. وهي المذاهب المعمول بها عند جمهور المسلمين إلى اليوم والتي كتب لهـا البقاء والتغلب على سواها من مذاهب أهل السنة. كمذهب سُفْيَان الثَّورِيِّ بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، والأوزاعي بالشام والأندلس وغيرهما، وابن جَرير الطْبرِيّ وأبي ثَوْر ببغداد، وداود الظاهري في كثير من البلدان وغيرها من مذاهب فقهاء الأمصار.
وكانت الفتيا – قبل حدوث هذه المذاهب - تؤخذ في عصر الصحابة عن القُرَّاء منهم، وهم الحاملون لكتاب الله، العارفون بدلالاته1 فلما انقضى عصرهم، وخلف من بعدهم التّابعُون،اتبع أهلُ كل عصرٍ فتيا من كان عندهم من الصحابة، لا يتعدَّونها إلا في اليسير مما بلغهم عن غيرهم. فاتبع أهلُ المدينة في الأكثر فتاوى عَبدِ الله ابن عُمَر، وأهلُ الكوفة فتاوى عبد الله بن مَسْعود، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وأهلُ مِصْرَ فتاوَى عبد الله بن عَمْرو ابن العاص2.
وأتى بعد التابعين فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ممن ذكرناهم، فاتبع أهل كل مصر مذهب فقيهٍ في الأكثر.
ثم قضت أسبابٌ انتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها، وبانقراض بعضها، فلم يطل العمل بمذهب الثّوريّ والبَصْريّ لقلّة أتباعهما، وبطل العمل بمذهب الأَوْزاعِيّ بعد القرن الثاني، وبمذهب أبي ثور بعد الثالث، وابن جرير بعد الرابع3.
كما انقرض غيرها من المذاهب، إلا الظّاهِرِيّ فقد طالت مدَّته، وزاحم المذاهب الأربعة المذكورة، بل جعله المقْدسي في «أحسن التقاسيم» رابع المذاهب في زمنه - أي في القرن الرابع بدَلَ الحنبلي وذكر الْحَنبَلِيَّةَ في أصحاب الحديث. وعده ابن فَرحون في الدّيباج الخامس من المذاهب المعمول بها في زمنه أي في القرن الثامن ثم دَرَس بعد ذلك ولم يبق إلا المذاهب الأربعة، ومذاهب أخرى خاصة بطوائف من المسلمين، لا يعدها جمهورهم من مذاهب أهل السنة، ولهذا لم نتعرض لذكرها.
وذكر ابن خلدون: أن المذهب الظَّاهريَّ دَرَس بدرُوُس أئمته وإنكار الجمهور على منتحله، ولم يبق إلا في الكتب وربما يعكف متكلّفو انتحاله عليها لأخذ فقههم منها، فلا يظفرون بطائل، ويصيرون إلى إنكار الجمهور عليهم. ولم يبق إلا مذهب أهل الرأي من العراق، وأهل الحديث من الحجاز.