انتقل إلى المحتوى

المذاهب الفقهية الأربعة وانتشارها عند جمهور المسلمين/المذهب الحنفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مذهب أهل الرأي:


هو أقدم الأربعة، وصاحبه الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، الكوفي رضى الله عنه، المولود سنة ٨٠هـ والمتوفى ببغداد سنة ١٥٠هـ على الأصحّ.

وكان منشأ هذا المذهب بالكوفة مَوْطنِ الإمام؛ ثمّ انتشر في سائر بلاد العراق.

ويقال لأصحابه أهلُ الرَّأْي، لأن الحديث كان قليلاً بالعراق، فاستكثروا من القياس ومهروا فيه. ولإمامهم مقام في الفقه لا يُلْحَق، شهد له بذلك أهـل جِلْدَتِه، وفي مقدمتهم مالك والشافعي1.

ويذكر أصحاب طبقات الحنفية أن هـذا المذهب شاع في بلاد بعيدةٍ ومدن عديدةٍ، كنواحي بغدادَ ومِضرَ، وبلاد فارس والرُّوم، وبَلْخ وبُخَارى وفَرْغَانَةَ، وأكثر بلاد الهند والسّنْـد وبعض بلاد اليمن وغيرها.

وفي طبقات للحنفية2 عندنا: أن أصحاب أبي حنيفة الذين دوَّنوا مذهبه أربعون رجلاً منهم: أبُو يُوسُفَ، وزُفَر، وأن أول من كتب كتبه أسدُ بن عَمْرو.

وفيها أيضاً أن نوح بن أبي مريمَ عُرِفَ بالجامع، لأنه أول من جمع فقه أبي حنيفة في قولٍ، وقيل: لقبَ بذلك لجمعه بين علوم كثيرة.

إیثار الحنفية بالقضاء:


ثمّ لما قام هرون الرشيد في الخلافة، وَوَلّى القَضَاء أبا يُوسف صاحب أبي حنيفة، بعد سنة سبعين ومائة، أصبحت تولية القضاء بيده، فلم يكن يُولّى ببلاد العراق وخراسان، والشام ومصر – إلى أقصى عمل أفريقية – إلّا من أشَارَ به، وكان لا يولِّي إلَّا أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه، فاضْطُرَّت العامة إلى أحكامهم وفتاواهم، وفشا المذهب في هذه البلاد فشواً عظيماً.

كما فشا المالكيّ - بالأندلس بسبب تمكَّن يحيى بن يحيى بن كثير عند الحكَم المنتصر، حتى قال ابن حزم: مذهبان انتشرا في بدء أمرها بالرئاسة والسلطان: الحنفيّ بالمشرق، والمالكيُّ بالأندلس3.

ولم يزل هذا المذهب غالباً على هذه البلاد، لإيثار الخلفاء العباسيين الحنفيَّة بالقضاء، حتى تبدّلت الأحوال وزاحمته المذاهب الثلاثة كما سيأتي في الكلام عليها. وبلغ من تمسّكهم به في القضاء أن القادر بالله استخلف مرة إياس (العباس أحمد بن محمد البارزي الشافعي) عن أبي محمد بن الأكفافي الحنفي قاضي بغداد، بإشارة أبي حامد الإسفرايني، فأجيب إليه بغير رضا الأكفاني، وكتب أبو حامد إلى السلطان محمود بن سبكتكين وأهل خراسان: أن الخليفة نقل القضاء عن الحنفية إلى الشافعية. فاشتهر ذلك وصار أهل بغداد حزبين ثارت بينهما الفتن، فاضطر الخليفة إلى جمع الأشراف والقضاة، وأخرج إليهم رسالة تتضمن أن الإسفرايني أدخل على أمير المؤمنين مداخل أوهمه فيها النَّصح والشفقة والأمانة، وكانت على أصول الدَّخَل والخيانة، فلما تبيّن له أمره، ووضح عنده خبث اعتقاده فيها سأل فيه من تقليد البارزيّ الحُكْمَ، وما في ذلك من الفساد والفتنة، والعدول بأمير المؤمنين عما كان عليه أسلافه من إيثار الحنفية وتقليدهم واستعمالهم، صرف البارزيَّ، وأعاد الأمر إلى حقه، وأجراه على قديم رسمه، وحمل الحنفية على ما كانوا عليه من العناية والكرامة والحرمة والإعزاز. وتقدم إليهم ألّا يَلْقوا أبا حامد، ولا يقضوا له حقّاً، ولا يَرُدُّوا عليه سلاماً. وخلع على أبي محمد الأكفاني، وانقطع أبو حامد عن دار الخلافة، وظهر التسخّط عليه، والانحراف عنه، وذلك في سنة ٣٩٣هـ. واتصل ببلاد الشام ومصر4.

في أفريقية وصقلية:


وكان الغالب على أفريقية السُّنَنْ والآثار، إلى أن قدم عبد الله ابن فرُّوح أبو محمد الفاسي بمذهب أبي حنيفة، ثمَّ غلب عليها لما وَلِيَ قضاءَها أَسدُ بنُ الفُرات بن سنَان5. ثم بقى غالباً عليها حتى حمل المعزَّ بن بَادِيسَ أهلها على مذهب مالك6 وهو الغالب إلى اليوم على أهلها إلا قليلاً منهم يقلّدون المذهب الحنفي.

وفي «الديباج» لابن فرحون: أن المذهب الحنفيَّ ظهر ظهوراً كثيراً بأفريقية إلى قريب من سنة ٤٠٠هـ. فانقطع ودخل منه شيءٌ ما وراءها من المغرب قريباً من الأندلس ومدينة «فاس». وفي «أحسن التقاسيم»: أن أهل صقلية حنَفِيُّون.

وذكر أيضاً أنه سأل بعض أهل المغرب: كيف وقع مذهب أبي حنيفة – رحمه الله - إليكم ولم يكن على سابلتكم؟

قالوا: لما قدم وَهْب بنُ وهْب من عند مالك رحمه الله، وقد حاز من الفقه والعلوم ما حاز، استنكف أسد بن عبد الله أن يدرس عليه، لجلالته وكِبَر نفسه، فرحل إلى المدينة ليدرس على مالك، فوجده عليلاً، فلما طال مقامه عنده، قال له: إرجع إلى ابن وهب فقد أَوْدَعْتُهُ عِلْمِي وكَفَيْتكُم بِهِ الرِّحلَة. فصعب ذلك على أسد وسأل: هل يُعْرَف لمَالِك نَظِيرٌ؟ فقالوا: فتى بالكوفة يقال له محمد ابن الحسن صَاحِبُ أبي حنيفة.

قالوا: فرحل إليه، وأقبل عليه محمد إقبالاً لم يقبله على أحد، ورأى فيه فهماً وحرصاً، فزقّه الفقه زقاً.

فلما علم أنه قد استقلّ وبلغ مُرَاده فيه، سيَّبه إلى المغرب، فلما دخلها اختلف إليه الفتيان، ورأوْا فروعاً حيّرتهم، ودقائق أعجبتهم، ومسائل ماطنت على أذن ابن وهب. وتخرج به خَلْقٌ، وفشا مذهب أبي حنيفة رحمه الله بالمغرب.

قلت : فَلِمَ لم يَفْشُ بالأندلس؟

قالوا: لم يكن بالأندلس أقلّ منه ها هنا، ولكن تناظر الفريقان يوماً بين يدي السلطان فقال لهما: من أين كان أبو حنيفة؟.

قالوا: من الكوفة. فقال: ومالك؟. قالوا: من المدينة. قال: عالم دار الهجرة يكفينا. وأمر بإخراج أصحاب أبي حنيفة وقال: لا أحبَّ أن يكون في عملي مذهبان: وسمعت هذه الحكاية من عدَّة مشايخ بالأندلس… انتهى.

قلنا: وفي هذه القصة ما لا يخلو من نظر، فإن وهب بن وهب هذا لا نعلم أحداً ذكره فيمن أخذ عن الإمام مالك، وإنما الآخذ عنه عبد الله بن وهب، وهو لم يرحل إلى المغرب، بل كان بمصر ومات بها.

وأما أسد بن عبد الله فصوابه على ما يظهر أبو عبد الله، ويكون المراد به أبا عبد الله أسد بن الفرات، فهو الذي لقي محمد بن الحسن وتفقه بأصحاب الإمام أبي حنيفة، ونشر مذهبه بأفريقية، وذلك بعد أن رحل إلى الإمام مالك وأخذ عنه، ولم يصادفه عليلاً، فأحاله على ابن وهب كما ذكروا، بل قال له لما استزاده بعد فراغه من السماع منه:

«حَسْبُك ما للناس، أو حَسْبُك يا مغْربيّ، إن أحببت الرأي فعليك بالعراق».

الحنفية في مصر:


وكان أهل مصر لا يعرفون هذا المذهب حتى ولي قضاءها إسماعيل بن الْيَسَع الكوفيّ من قبل المهدي سنة ١٤٦هـ وهو أول قاض حنفي بمصر، وأول من أدخل إليها مذهب أبي حنيفة، وكان من خير القضاة؛ إلا أنه كان يذهب إلى إبْطَال الأحْبَاس، فثقل أمره على أهل مصر وقالوا:

أحدث لنا أحكاماً لا نعرفها ببلدنا: فعزله المهديُّ7.

ثم فشا فيها بعد ذلك مدة تمكن العباسيين، إلّا أن القضاء بها لم يكن مقصوراً على الحنفية، بل كان يتولاء الحنفيّون تارةً، والمالكيون أو الشافعيُّون أخرى.

إلى أن استولى عليها الفاطميُّون وأظهروا مذهب الشيعة الإسماعيلية، وولّوُا القضاة منهم، فقوي هذا المذهب بالدولة وعمِلَ بأحكامه – إلا أنه لم يقض على المذاهب السنية في العبادات، لأنهم كانو يبيحون للرعيّة التعبّد بما يشاءون من المذاهب.

وقال القلقشندي في «صبح الأعشى»: «كانوا يتألّفون أهل السنّة والجماعة، ويمكنونهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، ولا يمنعونهم من إقامة صلاة التراويح في الجوامع والمساجد8 على مخالفة معتقدهم في ذلك، ومذاهب مالك والشافعي وأحمـد ظاهرة الشعار في مملكتهم بخلاف مذهب أبي حنيفة، ويراعون مذهب الإمام مالك، ومن سألهم الحكم به أجابوه» انتهى.

قلنا: بل أقام وزيرهم أبو علي أحمد بن الأفضل ابن أمير الجيوش قضاة من المالكية والشافعية، لما حجر على الخليفة الحافظ لدين الله وسَجَنَه، فإنه أعلن مذهب الإمامية وأقام أربعة قضاة: اثنين شيعيّين أحدهما إمامي والآخر إسماعيلي. واثنين سُنِّيين أحدها مالكي والآخر شافعيّ، فكان كل قاض منهم يحكم بمذهبه، ويورَّث بمقتضاه. فلما قُتِل أبو عليّ عاد الأمر إلى ما كان عليه من مذهب الإسماعيلية9.

ويظهر لنا أن غضّ الفاطميين من المذهب الحنفي لم يكن إلا لأنه مذهب الدولة العباسيّة المناوئة لهم في المشرق.

ثم لما قامت الدّولة الأيوبية بمصر، وكان من سلاطينها شافعية، قضَوا على التشيع فيها، وأنشأوا المدارس للفقهاء الشافعية والمالكية.

وكان «نور الدين الشهيد» حنفياً فنشر مذهبه ببلاد الشام، ومنها كثرت الحنفية بمصر، وقدم إليها أيضا عدة فقهاء منهم من بلاد المشرق. فبنى لهم «صلاح الدين الأيوبي» المدرسة السُّيُوفيَّة بالقاهرة، وما زال مذهبهم ينتشر ويقوى، وفقهاؤهم يكثرون بمصر، إلّا في آخر هذه الدولة10.

وأوّل من رتب دروساً أربعة للمذاهب الأربعة في مدرسة واحدة هو «الصالح نجم الدين أيوب» في مدرسة الصَّالِحِيَّة بالقاهرة سنة ٦٤١هـ11.

ثم كثر هذا النوع من المدارس في الدولتين التركية والجركسية. وحدث في الأولى جعل القضاة أربعة، فعاد الحنفية إلى القضاء بعد انقطاعهم عنه مدة الفاطميين، والاقتصار مدة الأيوبيين على نواب منهم، ومن المالكية والحنابلة عن القاضي الشافعي.

ثم لما استولى العثمانيون على مصر حصروا القَضَاء في الحنفية، وأصبح المذهب الحنفي مذهب أمراء الدولة وخاصتها، ورغب كثير من أهل العلم فيه لتولّي القضاء، إلا أنه لم ينتشر بين أهل الريف والصعيد12 انتشاره في المدن، ولم يزل كذلك إلى اليوم.

في البلاد الإسلامية الأخرى:


أما بدء دخول المذهب الحنفي في سائر البلاد الإسلامية فَيَعْسَرُ تعيينهُ لكل بلد، وغاية ما وقفنا عليه من انتشاره في القرن الرابع، ما ذكره المقدسي في «أحسن التقاسيم» في كلامه على كل إقليم.

ومنه يعلم أنه كان الغالب على أهل صنعاء وصعدة باليمن، والغالب على فقهاء العراق وقضاته، وكان منتشراً بالشام، تكاد لا تخلو فيه قصبة أو بلد من حنفي، وربما كان القضاة منهم، إلا أن أكثر العمل فيها كان على مذهب الفاطمي في زمنه، أي كما كان بمصر.

وكان في إقليم الشرق أي خراسان وسجستان وما وراء النهر وغيرها، إلا في بلاد منها ذكرها، فإن أهلها شافعية وكان أهل جرجان وبعض طبرستان من إقليم الدَّيلَم حنفية. وكان غالباً على أهل «دبيل» من إقليم الرحاب الذي منه الران وأرمينية وأذربيجان وتبريز، وموجوداً في بعض مدنه بلا غَلبة.

وكان غالباً على أهل القرى من إقليم الجبال، وكثيراً في إقليم خوزستان المسمى قديماً الأهْوَاز13. وكان لهم به فقهاء وأئمة وكبراء.

وكان بإقليم فارس كثير من الحنفية إلا أن الغلبة كانت في أكثر السنين للظاهريّة، وكان القضاء فيهم. وكانت قَصَبَاتُ السِّند لا تخلو من فقهاء حنفيّة.

وفى «معجم البلدان لياقوت»، أن أهـل الريّ كانوا ثلاث طوائف: شافعية وهم الأقل، وحنفية وهم الأكثر، وشيعة وهم السواد الأعظم.

ثم فني أهلُ المذهبين وغلب الشيعة على ما سيأتي، وذكر أيضاً أن أهل سجستان كانوا حنفية.

وذكر ابن تغري بردي في «المنهل الصافي» أن ملوك بنجالة بالهند كانوا جميعاً حنفية.

وسنذكر في الخاتمة مبلغ انتشار هذا المذهب اليوم في البلاد.

عقائد الحنفية:


ويتبع الحنفية في الأصول الإمام أبا منصور محمد الماتريديّ الحنفي، وليس بين أصحابه وأصحاب الإمام الأشعري خلاف إلّا في بضع عشرة مسألة، ومنهم أشعرية ولكن على قلة حتى قيل: من المستظرف أن يكون حنفيٌّ أشعرياً14.

والذي في «طبقات السبكي»، أن الحنفية أكثرهم أشاعرة، أعني يعتقدون عقيدة الأشعري - لا يخرج منهم إلا من لحق بالمعتزلة.

وذكر أنه تأمل عقيدة الطحاوي التي زعم أنها «ما كان عليه الإمام أبو حنيفة وصاحباه» فلم يجد إلا ثلاث مسائل خالف فيها

الأشعرية في العقائد ثلاث عشرة مسألة، منها ست معنوية والباقي لفظي.

قلنا: وكأنه يريد أَنَّ خلافهم في هذه المسائل لا يخرجهم عن كونهم أشعرية، وإن تَسَمَّوْا بالماتريدية، لتصريحه بعد ذلك بأنها كالمسائل التي اختلف فيها الأشاعرة فيما بينهم، ولأنَّ المسائل الثلاث عشرة لم تثبت جميعها عن الشيخ، ولا عن الإمام أبي حنيفة.

* * *

  1. عن ابن خلدون
  2. نرجح أنها المرقاة الوفية للفيروزآبادي: انظر الخزانة التيمورية.
  3. عن المقريزي ونفح الطيب وبغية الملتمس.
  4. عن المقريزي.
  5. عن المقريزي. والمراد بأفريقية - ما يشمل طرابلس وتونس والجزائر، وجعلها بعضهم أقل من ذلك. وتفصيل الخلاف فيها ليس هذا موضعه. ويستفاد من «معالم الإيمان»، أن ابن فروح سمع من الإمامين مالك وأبي حنيفة، وكان اعتماده على مالك ولكنه كان يميل إلى قول أهل العراق إذا ظهر عنده صوابه، أو سمع ابن الفرات من مالك وأصحاب أبي حنيفة، ونشر مذهب أهل العراق بأفريقية لسبب ترك صاحب «المعالم» ذكره.
    وذكر ابن خلدون أنه كتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً ثم انتقل إلى مذهب مالك.
  6. عن الكامل لابن الأثير. وكانت ولاية المعز سنة ٤٠٧ وتوفى سنة ٤٥١هـ.
  7. من «طبقات الحنفية»، المتقدم ذكرها و«رفع الإصر»، للحافظ ابن حجر و«قضاة مصر لعلي بن عبد القادر الطوخي
  8. وقع أن بعض خلفائهم كانوا يمنعون الناس من صلاة التراويح، وعاقب أحدهم شخصاً وجد عنده الموطأ - فمراد القلقشندي: ما كان متبعاً عندهم في الغالب.
  9. عن المقريزي وغيره
  10. عن المقريزي
  11. عن المقريزي، وتحفة الأحباب للسخاوي.
  12. كانوا قديماً يعبرون بالريف عن الوجه البحري. وبالصعيد عن الوجه القبلي فجاريناهم في ذلك.
  13. هو المسمى الآن بالمحمرة.
  14. عن الكامل لابن الأثير و«الفوائد البهية» تيمور.