المدينة المسحورة (1946)/الليلة العاشرة
فلما كانت الليلة العاشرة قالت :
منذ هذا الوقت — يامولاي — استحالت المدينة المسحورة أعجوبة الزمان ، وقصة كل لسان ، وتناقل الركبان أخبارها، فوفد عليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها ، ينظرون هذه العجيبة الغريبة ، و يتذاكرون حوادثها القريبة والبعيدة. وكان أعجب شي فيها غير التماثيل الآدمية الجامدة. ذلك الوقت الذي لا يتغير ليلا ولانهاراً. صيفاً ولا شتاء ، فهو دائماً مطلع صبح ، حينها ترسل الشمس أول خيوطها الذهبية.
ودار الفلك يامولاي ثم دار ، وانقرض الجيل الذي شهد الحادثة وتلته أجيال ، والمدينة قائمة بكل مافيها ومن فيها ، وقد وقف الزمن على بابها بأحداثه وغيره ، وتقلباته وأفاعيله ، فكل مافيها على حاله ، والدنيا من حولها تتغير وتتبدل.
واستحال الزمان ، وتغيرت الدول ، فدخلت المدينة والإقليم من حولها في المملكة الشمالية ، ثم ظلت الممالك الأخرى تندمج حتى صارت مملكة واحدة عظيمة.
أما المدينة المسحورة فقد قام عليها الحراس ينظمون زيارتها للوافدين عليها من مشارق الأرض ومغاربها ، والأدلاء يشرحون للزائرين قصتها ، و يروون لهم أعاجيبها ، جيلا بعد جيل ، حتى اكتملت ألف عام ، منذ أن وقف فيها الزمان . وفي ذات يوم قدم المدينة فيمن يقدمون كل يوم للزيارة شاب مثال بارع . جاء يستلهم الفن الإلهي القائم في التماثيل الآدمية بالمدينة المسحورة .
وطاف بالمدينة شارعاً شارعاً ، وبيتا بيتا ، فراعته هـذه المجموعة العجيبة من التماثيل المبثوثة . ووقف مبهوتاً أمام ذلك الغنى الفائض في التنويع الذي لانهاية له . في السحن والملامح ، والقسمات والمعاني ، فهناك آلاف التماثيل ليس فيها تمثال كتمثال : نساء وفتيات ، وشبان وشيوخ ، وأولاد و بنات ، من كل حجم ولون ، ومن كل طابع وشكل . ومئات الحركات ، وألوف اللفتات وأشتات لا حصر لها من المعاني الكامنة في السحن ، الناطقة في القسمات .
وقف ويستقرى أشتات المعاني وأشتات الرموز ، ويتأمل ۱۲۲ هذا المتحف الإلهي العظيم ، فأحس بالضآلة والصغر في نفسه، وفى فنه ، وفي نفوس المثالين أجمعين . إن جميع ما أخرجه مثالو الدنيا وما يخرجون ، لن يكون شيئاً أمام المدينة المسعورة ، وأمام الفنى الوافر في التنويع والتصوير . ثم دخل القصر ، وسار في أبهائه وردهاته ، وتأمل في أهله وشخصياته . . . وقاده الدليل إلى أعظم حجرة فيه : حجرة الأميرة المسحورة . . وما كاد الشاب يلمح الأميرة في وضعها الفني الجميل ، حتى وقف أمامها مبهوتا . . . إن أعظم مثال على هذه الأرض لن يستطيع إخراج هذا التمثال : في وضعه . في ملامحه . في قسماته . هذه الاثناءة في ذلك الجسد الفاتن . هـذا الصدر في بروزه الناهد . هذا الجيد المشرئب المتطلع . هذا الوجه الذي تفيض قسماته بشراً وسحراً ، هذا التغر الذي بابتسامة ساحرة . هاتان العينان الحالمتان المغرقتان في الحلم الوضىء . وقف الفتى لحظة مبهوتاً ، ثم خطا نحو التمثال، وكأنما يخطو في (13 ۱۲۳
محراب ، ثم باعد وقارب ، والدليل يثرثر من حوله بالقصة العجيبة وهو مستغرق في التمثال ، كأنما استعال إلى تمثال ! وظل الدليل ينتهى من القصة ثم يعيدها حتى مل ، فصمت و بدا عليه الضيق من هذا الزائر الذي ينظر ببلاهة إلى التمثال ولا يزايله ، ودخل زائرون آخرون وخرجوا ، وهو واقف وقفته الذاهلة . . . وأخيراً نبهه الدليل في استقال إلى أن وقت الزيارة قد انتهى . فخرح يجر رجليه جراً ، وهو يعاود النظر إلى التمثال بين لحظة وأخرى !
-
منذ ذلك اليوم - يامولاى – والفتى المثال ينتظر الصبح بفارغ الصبر ، لينطلق إلى المدينة المسحورة ، ثم لا يضيع لحظة واحدة في مشاهدة التماثيل الأخرى ، إنما يقصد توة إلى مخدع الأميرة ، حيث يقف طول مدة الزيارة حيالها كالعابد المتبتل الذي يتطلع إلى إله !
وتكررت زياراته ولاحظ الحراس والأدلاء أطواره ، فلقبوه بالمجنون ، وصاروا يتغامزون عليه كلما دخل أو خرج ، وهو ذاهل عنهم بالتطلع إلى تمثاله الجميل ! ١٢٤ وخيل إليه أنه قد حفظ في مخيلته أدق دقائق التمثال ، فآوى إلى مرسمه يحاول أن ينحت تمثالا مثله ، وهو يمنى نفسه بالمجد والشهرة والخلود . وعكف أياما على تمثاله الصخرى حتى أتمه ، صورة طبق الأصل من نموذجه . ثم وقف أمامه يراه . . . ولكن لم تمض إلا دقائق حتى أهوى بأزميله على التمثال فحطمه تحطها وتركه جذاذاً . لقد خيل إليه أن التمثال النموذجي حى ، أما تمثاله فميت . فانطلق يعدو إلى التمثال الحى الحبيب . وفى نفسه لهفة ومل روحه اشتياق . ودخل المخدع ، والحراس والأدلاء يتصايحون : لقد عاد المجنون . ولكنه اندفع لايعبأ بل لا يسمع . اندفع حتى وقف أمام التمثال ، ثم دنا فركع بجواره ، ثم قرب فعانق التمثال ، مغمض العينين ، تائه الحس ، موله النفس ، وجالت في نفسه أمنية عظمى ، جمع فيها نفسه وحسه ، حتى رآها حقيقة واقعة لفرط اندماجه فيها : آه . لو تدب فيها الحياة ! . هنا يامولاي . تمت المعجزة الكبرى . لقد انتفض التمثال .. ۱۲۰
الجامد حياً ؟ والفتى مغمض العينين تائه عن الوجود ، وحينها أحس بحرارة الجسد الهامد بين يديه كان لايزال في غيبوبته ، يطالع حلمه الذي يغمر نفسه . فما راعه إلا صوت قريب منه وصوت آخر بعيد :
صوت يجاور أذنه : يالله !كيف قد جئت وأنا لا أدرى ؟ ! وصوت بجوار الباب : رباه ! شاب في مخدع الأميرة ! كانت المعجزة قد تمت يا مولاي . ففي اللحظة التي انتفض فيها التمثال الجامد حيا سرت الحياة في القصر و المدينة جميعاً . وكانت الوصيفة القائمة بالباب تنظر فترى الفتى في مخدع الأميرة ، وكانت الاميرة تنظر فترى الشاب ، وهو هو فتاها . ( فهو من نسله وهو شبيهه )
وكاد يجن . وهو يبصر المعجزة الكبرى . وجمدت الالفاظ على شفتيه ، إلا جملة واحدة ظل يرددها ساها حالما مبهوتا : وقعت المعجزة . وقعت المعجزة . . .
وعجبت الأميرة : ما باله هكذا مبهوتا مأخوذاً . وحسبته يذكر معجزة النصر على المغيرين ، أو معجزة التقائه بها بعد اليأس والقنوط . فراحت تقول : وقعت وقعت . ولكن كيف دخلت ها هنا . وأنا لا أدرى ؟ وما هذه الملابس التي ترتديها ؟ ومالك هكذا مبهوتا ؟ وهو ماض في ترديد الجملة الوحيدة التي يملكها ولما يئست من أن يرد عليها بشيء . قالت : - إذا لم تستطع أن تتكلم فاعزف لى لحن الغابة ! وهمت واقفة فطوقته بذراعيها . فأجفل منها لحظة ، ثم اندفع يضمها ضما شديدا .
-
...
أما الوصيفة التي راعها ما شاهدت ، فقد انطلقت تعدو إلى الملكة تخبرها . وما كادت تقبل حتى وجدت بعض الحراس يهرعون إلى الملك في ذعر شديد ، يعلنون إليه نبأ اقتحام المدينة بمخلوقات كثيرة من أجناس لم يروها من قبل أصلا ! وكان الذي حصل أن فوجىء المتفرجون بالحياة التي دبت في المدينة في اللحظة الأولى . وفوجىء المبعوثون بهؤلاء الغرباء الذين لم يروهم من قبل أبدأ . وتنبه حراس القصر والمدينة القدماء فحسبوا المغيرين قد ارتدوا على المدينة ، فانثنوا يعملون فيهم أسلحتهم
دفاعاً عن مليكهم ومدينتهم . وعم الذعر أولئك الزائرين وهم يرون التماثيل تحيا ، وتتخن فيهم جرحاً وقتلا -۱۲۷
وتعالت الصيحات من كل جانب ، وهرب من الزائرين من هرب ، وأخذ منهم بعض الأسرى !
وجي بالأسارى أمام الملك ، وهم في فزع وذهول ، وقيل للملك : هؤلاء بعض المغيرين أما الآخرون ففروا فراراً ! وأخذ الملك في استجوابهم عن بقية الجيش المغير ، وكيف خدعوا المدينة وأهلها فهر بوا ثم عادوا ؟ . . . وفى خوف يعقد الألسنة وذهول يحير العقول ، حاول المساكين أن يفصحوا عن المعجزة التي وقعت بين أيديهم منذ لحظة . فوقع بيانهم من الملك وحاشيته موقعاً عجيباً . وحسبوهم يهزأون بهم ، كما ظنوا بعقولهم الظنون .
وكان الخبر العجيب قـد ترامي إلى سلطات المملكة من الحراس الذين هربوا ومن الزائرين الذين نجوا ، فأقبل الحكام والوزراء والأهالي والعساكر لرؤية المعجزة الكبرى . أما الذين هم داخل المدينة فلم يجل في خاطرهم إلا أن جيوش الأعداء قد مجمت مرة أخرى ، ورأوا لكثرة الهاجمين أن لا مفر من التسليم! وكان انتشار الخبر قد هز البلاد هزأ ، فوفد الناس من ، كل جهة ، وراحوا يتطلعون في دهش إلى هؤلاء الآدميين الغرباء ... ولم تمض يا مولاي إلا ساعات انطلق الزمن فيها من عقاله حتى بدا على هذه المخلوقات فعل ألف عام ، فإذا هم يتهاوون جثثاً هامدة، وعظاماً نخرة ، ورفاتاً سحيقاً . والناس من حولهم في ذهول شديد.
أما الأميرة — يا مولاي — فقد وقف الزمن إزاءها عاجزاً . لقد كانت تحب . وماذا يصنع الزمن — يا مولاي — في قلب يحب ؟
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|