المدينة المسحورة (1946)/الليلة السادسة
فلما كانت الليلة السادسة قالت شهرزاد :
… و بينما كان وادي الشياطين، وكهف الساحرة، يدويان بعزيف الجان الحاد المبحوح، و برقصات الأميرة الهستيرية وخدم الساحرة العفاريت.. كانت المدينة تزخر بالزينات والأنوار والجماهير، وتنطلق في جوها الزغاريد والأغاني والأهازيج ؛ وقد نسى الشعب الأميرة وقصتها، واندمج في أفراح الملك وفتاة الغابة، ۸۰ و بخاصة بعد أن دعى الجميع إلى موائد الملك في الميادين والطرقات ، فأكلوا وشبعوا وانطلقوا يهزجون و يغنون ويرقصون . فإذا بقى من يذكر الأميرة ، فبعض النسوة والفتيات ، يذكرنها بالعطف والمودة في مقابل ما يذكرن فتاة الغابة بالزراية والغيرة ! ولكن التيار يجرفهن ، فيشاركن المدينة في أفراحها العظيمة . . أما في داخل القصر فقد كان هناك قلبان يشعان بالبهجة والمرح والحبور ، ويرفان بالسعادة والنشاط والتوثب ، و يفيضان بالرجاء والثقة والتطلع ، ويخفقان بالحب والفتنة والانطلاق : قلب الملك الشاب وقلب الحورية الفاتنة . وأطل الملك من شرفة القصر على الساحة و بجانبه عروسه ، فإذا الساحة الواسعة تموج بالمشاعل والناس والزينات ، و إذا الأغاني والأهازيج والهتافات تتعالى في الجو القريب ، وتترامى أصداؤها إلى بعيد ، فتلتقى الأصداء المنبعثة من شتى الأرجاء . فأحس العروسان أن الدنيا كلها ترقص وتهزج وتغنى ، واتصل الهزج الراقص ، والنغم الصادح ، بالأهازيج والأغاني الشائعة في دمائهما وفى كيانهما كله ، فاندمجا - على البعد – في ضجة الجماهير ، وهزج الجموع ، ونبار الراقصين ، ونسيا الملك والقصر، ( - 1 | ۸۱ وأوغلا في حلم سعيد مديد . . . ثم أفاقا فارتدا من الشرفة إلى المخدع ، والأصداء المختلطة تنساب في أسماعهما، والرؤى المتراقصة تنبض في خيالها ، حتى إذا انفردا قليلا غابت الضجة ، وانطوت الأصداء ، وتفتح لها عالم أوسع وأبهج ، يرودانه وحيدين ، و يجوبانه فريدين، وتترامى بهما آفاقه إلى أبعد مما تراه الأبصار . و باتا ليلة يا مولاي ، ليست مما تصوره الأقوال ، ولكن مما يتملاه الخيال ... ثم أصبح الصباح ! ثم تلاه إمساء و إصباح . والحياة تبسم للعروسين الشابين ، والدنيا تنبض بقلب العاشقين حتى دار الفلك دورته ، وأوفى العام على تمامه ... وكانت ليلة همست فيها العروس همسة في أذن العريس ، وفي عينيها إغراء وفرح ، وفى نبرتها فتنة و إدلال . ووثب الملك وثبة ألقى فيها عن عاتقه كل أعباء الملك وتقاليده ، ليرتد بشراً خفيفاً طليقا ؛ وراح يعانقها في فرح ونشوة ، و يضمها في انفعال وقوة ، وهي ترده عنها في لطف و إغراء . . . ومنذ تلك الليلة عادت الملكة تعيش بحساب ، وتتحرك بحساب ، وأصبح القصر ينتظر البشرى ، حين تتم الأيام ، وقلبان خافقان لا يكفان عن الخفقان ! ۸۲ حتى إذا أوفت الحامل أيامها ، وحانت الساعة المنتظرة ، امتلأ القصر بالأطباء والكهنة والعرافين ، واجتمعت « الدايات » المشهورات وعلى رأسهن «داية » القصر التي تلقت الملك يوم ميلاده؛ وتجمعت الوصائف والجواري في حركة ذاهبة آيبة لإعداد المعدات للقادم الجديد . والملك في قلق يداريه ، ولكنه يبدو على الرغم مما يصل إلى سمعه من الأخبار المطمئنة عن . حالة الملكة . ولم تعان الوالدة شيئاً من شدائد الوضع ، فقد كان جسمها كله سليما ناضحاً نامياً . و إن هي إلا فترة حتى أعلن في أرجاء القصر أن أميرة ملكية قد استنشقت أول أنفاسها ، وأن الملكة الأم في أتم صحة وأحسن حال ، فانطلق البشير ينادي في أرجاء المدينة بالنبأ السعيد ، ووفد العظماء والكبراء على القصر يهنئون ويبشرون ، ومدت للشعب الموائد وذبحت الذبائح في كل مكان ، وانقلبت المدينة تهزج كما صنعت قبل عام ؛ و إن تكن المولودة بنتا وليست بالغلام ! فقد كان فرح الملك لا يوصف بصحة الأم ونجاتها ، ومن فرحه الدافق فاضت المدينة بأفراحها . وأمر الملك فاجتمع الديوان ، وجيء بالكهنة والمنجمين والعرافين ، لينظروا في طالع الأميرة الوليدة ، ويروا نجمها و برجها ، ويدلوا بما يتراءى لهم عن مستقبلها وخلا الكهنة إلى هياكلهم ، والمنجمون إلى دفاترهم ، والعرافون إلى رملهم ، ثم عادوا ليقصوا على الملك ورجال الديوان ما تنبئهم به الأفلاك والطوالع . ولكنهم عادوا يغشاهم الوجوم ، و يبدو على وجوههم التهيب . فقالوا – وكأنما يدارون شيئا – خير بإذن الإله ، وسعادة في الحياة ونجاة . وأوجس الملك في نفسه خيفة ، وأحس « حور » كبير وزرائه ومشير به أن وراء الأمر ما وراءه ، فحاول أن يشير بإمهال الكهنة والمنجمين والعرافين بضعة أيام حتى يستوثقوا – وذلك إلى أن يدبر الأمر ويعلم السر - لولا أن الملك كان في حالة عصبية ، فأمر أن يفضوا بما لديهم حالا ، وألا يخفوا من الأمر شيئاً وتقدم كبيرهم فقال : - - ... AT . = - إن الطوالع تشير بأن حياة الأميرة الوليدة ، ستكون هانئة سعيدة . ولكن يقع في حياتها حادثان . أولهما واضح ظاهر ، والآخر غامض مبهم . وليس لنا أن نقول إلا بما نعلم . فأما الحادث الأول فيقع للأميرة عند ما تنضج وتتفتح وهو مرض خطير يحار فيه الأطباء ، و يعجز عنه العرافون ، حتى A 2 . يجي من الشمال طبيب ، فيشير بالعلاج الحاسم والدواء اللازم ، ويكون فيه الشفاء بعد العناء . وأما الحادث الثاني فيعقب الحادث الأول ، ولا تعبر عنه الأرصاد والطوالع ، إلا بالرموز والإشارات ، وآخر ما تكشف لنا : أن الأميرة فيه لن تموت ، ولكنها لن تكون في الأحياء . ولا علم لنا وراء هذا الرمز والإيماء ! و بدا العجب على وجوه الجميع من هذا الكلام الغامض العجيب ، وحسب الملك أن المنجمين يخفون عنه ما يعلمونه من شر سنصیب الأميرة خوفاً وحذراً ، فقال لهم : قولوا كل شيء ولكم منى الأمان . أما إذا أصررتم على الإنكار فلكم التنكيل والعذاب الشديد وأقسم الجميع بين يدى الملك أنهم لا يعلمون شيئاً غير ما قال كبيرهم ، وأن الطوالع والنجوم لم تفصح لهم عن شيء وراء ما قرروه ، وأن الغيب غيب ، وعلمهم لا يتجاوز مدى محدوداً ، فإذا شاء الملك أن ينكل بهم فالأمر أمره ، و لكنهم لن يزيدوا شيئاً على ما قالوه ، لأنه ليس لديهم شيء لم يقولوه . وتدخل حور في الأمر فقال : ۸٥ - - يامولاى إن هم إلا راجمون بالغيب ، وقد قالوا ما بدا لهم فلندع الأمر للسماء ، تدير الأمر بما كتب وراء الغيوب . فسكت الملك ، وأشار حور على المجتمعين بالانصراف . وقد خيم على الجو رهبة وسكون . فلما انصرف الجميع ، وخلا حور إلى الملك ، حاول أن يطمئنه و يبعث إلى قلبه السكينة ، ولكنه ظل قلقاً تساوره الأفكار والخيالات ، ويحاول أن ينفذ بخياله إلى ماوراء تلك الألغاز : كيف لا تكون الأميرة ميتة ، ثم لا تكون في الأحياء ؟ إن هذا إلا حديث مجانين ، أو أن هناك أمراً يخفون ولكن مرور الأيام ، ونمو الأميرة الصغيرة ، وصحة الملكة الأم ، جعلت الملك يطمئن ، و إن جعل القلق يساوره بين الحين والحين ، فيخبط في الأوهام والظنون . ومضى الفلك - يامولاى - يدور ، والشهور تعقب الأيام ، والسنون تعقب الشهور . والأميرة الصغيرة تنمو وتترعرع كالزهرة الندية الجميلة . . . ولكن لا يؤاخيها أحد ، ولا يعقبها مولود كأنها آخر العنقود . وعبثاً ذهبت جهود الأطباء والكهنة في في علاج العقم الذي لازم الملكة ، فزاد هذا من إعزاز الأميرة ... ۸۶ الوحيدة ، وضاعف المخاوف على حياتها ، وظلت النبوءة تعاود الوالدين في خشية و إشفاق، على ما كان يبذله «حور» من محاولات شتى لبث الطمأنينة في قلب الملك . حتى بلغت الأميرة السابعة من عمرها السعيد وتفنن رجال القصر ونساؤه في رعاية الأميرة ، وإحاطتها بالمباهج ومظاهر التدليل . فللا ميرة جناحها الخاص تحت إشراف أخلص الوصائف ، وهي تستيقظ في الصباح على نغمات موسيقية رقيقة ، تعزف في البهو خارج المخدع ، وترتفع شيئاً فشيئاً ، مختلطة بزقزقة العصافير في الحديقة، وتغريد البلابل والشحار ير في طلعة الصباح ، وتقترب من مخدعها قليلا قليلا ، بينما المباخر والمجامر تؤرج الجو بأريجها المعطر ، يتسلل إلى خياشيم الأميرة من الخارج وينعشها في أثناء يقظتها ، حتى إذا أحست الوصيفات أن الأميرة قد استيقظت ، تقدمت الوصيفة الخاصة ، ففتحت باب المخدع لتصبحها بالخير والسعادة . ثم ينقضى النهار بين اللعب والمراح . وتكر السنوات والأميرة تنمو وتتفتح ، حتى إذا بلغت الرابعة عشرة نهد ثدياها ، والتف خصرها ، واستدار ردفها ، وتوردت وجنتاها ، والتمعت نظراتها ، ونضح فيها الحياء المخدور ، . AY والرحيق المذخور ، ذلك الذي تودعه الحياة أنثياتها الفاتنات ! ثم تكر السنوات فتبلغ الثامنة عشرة . ويكون الربيع حينها تنزل إلى الحديقة تقفز وتجرى وتسابق الفراشات الزاهية الألوان . وتتوجه من أبيها نظرة إلى ملامحها الفاتنة ترده إلى ذكرى بعيدة عزيزة . .. إنها ملامح فتاة الغابة يوم أن رآها أول مرة تخطر وكأنها تطير ، وتمشى و إنها لتتوثب . يوم أحس أنها إحدى ظبيات الغابة ، أيقظها تفتح الربيع . ويخفق قلبه خفقاناً سريعاً ، ويشير إلى فتاته فتدنو منه ، فيحتضنها في حنان ظاهر وولع باد ، ثم يغمر وجهها في صدره ، و يربت عليها في حنان . وحينها ترفع الفتاة وجهها إلى أبيها تجد دمعة حائرة تترقرق . في عينيه ، وهو يطبع على جبينها قبلة حارة طويلة . و يروعها منظر الدموع في عينيه ، فلم يسبق لها أن رأته يبكى ، فترتاع ، وتسأل في لهفة عما ألم به . وعندئذ يفيق فيبسم لها و بهش ، و يفصح لها عن سبب اضطرابه ، ومبعث دموعه : إنها دموع الذكرى الحبيبة إلى نفسه . فلقد رأى في ملامحها اليوم ملامح أمها الجميلة يوم كانت في مثل سنها ، ويوم التقى بها أول مرة. إنها ذكرى عهد الشباب الذي لا يعود !
أما الفتاة فيدركها الوجوم لحظة. واسكنها تزهى بهذا الاطراء المستور لجمالها، فتنطلق من فيها العذب ضحكة رنانة. وهي تقول في دلال جميل وتخابث بريء :
– إذن أنت تحبها إلى هذا الحد يا أبتاه ! ولا يزال حبكما حيا على مدى الحياة ؟
ثم تنطلق راكضة كالظبي المدل وهي تقول :
سأذهب حالا لأفشى لها هذا السر الخطير !!!
وأبوها يتابع بنظره وقلبه خطواتها القافزة، وهو غارق في حلم جميل طويل. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح
هذا العمل في الملك العام في مصر وفق قانون حماية الملكية الفكرية لسنة 2002، إما لأَنَّ مُدة الحماية الَّتي كان يتمتع بها انقضت وَفقاً لأَحكام المواد 160–163 منه أو لأن العمل غير مشمول بالحماية بموجب المادتين 141 و142 منه.
|