العقد الفريد/الجزء الثاني/3
باب الأدب في العيادة مَرِض
أبو عمرو بن العَلاء فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه فقال له: أَريد أن أُساهرَك الليلةَ قال له: أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي فالعافية لا تَدَعك أن تَسهر والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر ولأهل البلاء الصَّبر. ودَخل كُثير عَزَّة على عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض فقال: لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ ولكن أسأل الله لك أيها الأمير العافية ولي في كَنفك النِّعمة. فضحِك وأَمر له بجائزة فخرج وهو يقول: ونعودُ سيِّدَنا وسيِّد َغَيْرنا ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ لو كان يُقْبَل فِدْيةٌ لفَدَيْتُه بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي وكتب رجلٌ من أهل الأدب إلى عَليل: نُبِّئت أنّكَ مُعْتَلّ فقلتُ لهم نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ يا ليتَ عِلّته بي ثَمَّ كان له أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ وكتب آخر إلى عليل: وَقَيْنَاك لو نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ وكان شاعرٌ يختلف إلى يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له أيهذا الأمير أكرمك الل ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ أَجَميلاً تراه أصلحك الله لكَيما أراه أيضاً جَميلاً أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك قَلِيلاً لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا ألذنب فما عَلِمْتُ سوى الشّك ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا أم مَلالاً فما عَلِمْتًك للحا فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا قد أَتى الله بالصَّلاح فما أَن كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا وأَكلتُ الدًّرَّاج وهو غِذاء أفَلت عِلّتي عليه أُفولا وكَأَنِّي قَدِمْتُ قُبْلك آتي ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا فكتب إليه الوزير يعتذر: دَفَعَ الله عنكَ نائبةَ الده رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ أُشْهِدُ الله ما علمتُ وما ذَا كَ من العذر جائزاً مَقْبولا ولَعَلِّي لو قد عَلِمْتُ لعاوَدْ تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا أَعْزِرْ على بأن أراك عَليلا أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ فَوَددْتُ أنَي مالكٌ لسَلامَتِي فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا فتكونَ تَبقى سالماً بسلامتي وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا هذا أخٌ لك يَشْتكي ما تشتكي وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا ومَرِض يحيى بن خالد فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له ثم يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه فلمّا أفاق قال يحيى بنُ خالد: ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح. وقال الشاعر: عِيادة المَرْء يومٌ بين يَوْمين وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين لا تُبْرِمَنَّ مَريضاً في مُساءلة يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين وقال بكر بنُ عبد الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده: المريض يُعاد والصحيح يُزار. وقال سفُيان الثّوْريّ: حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم يجيئون في غير وقت ويطيلون الجلوس. ودخل رجلٌ على عمر بن عبد العزيز يَعوده في مرضه فسأله عن علّته فلمّا أخبره قال: من هذه العلة مات فلان ومات فلان. فقال له عمر: إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى وإذا خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا. وقال ابن عبّاس: إذا دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن ولقّنُوه الشهادة ولا تُضْجروه. ومَرِض الأعمش فأبرمه الناس بالسُّؤال عن حاله فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه فإذا سأله أحدٌ قال: عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها. ولبعضهم: مَرِض الحبيبُ فعُدْتُه فمَرِضتُ من حَذَري عليه وأَتىَ إليَّ يَعُودني فبرِئْتُ من نظري إليه ومَرِض محمدُ بن عبد الله بن طاهر فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله: إنِّي وجدتُ عَلَى جَفَا ئك من فِعالكَ شاهِدَا إني اعتللت في فَقَدْ تُ سِوى رَسولك عائدا ولو اعتللتَ فلم أَجِدْ سبباً إليك مُساعداً فأجابه: كُحِلت مُقْلتي بشَوك القَتاد لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ يا أخي الباذل المودّة والنا زلَ من مقلتي مكانَ السواد منَعَتْني عليك رِقَّةُ قلبي من دُخولي إليك في العُوّاد لوْ بِأُذْني سمعتُ منك أنيناً لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي ولمحمد بن يزيد: يا عَلِيلاً أفْدِيك من ألم العِل ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ إن يَحُل! دونك الحجابُ فما يح جَب عني بك الضَّنَى والعَويل وأنشد محمدُ بنُ يزيد قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده: بأَنْفُسنا لا بالطَوارِف والتُلْدِ نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي بنا مَعْشرَ العُوّاد ما بك من أذى فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي وكتب أبو تمام الطائي إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له: كم لَوْعةٍ للنِّدَى وكم قَلق للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ ودخل محمد بن عبد الله على المتوكل في شَكاة له يعوده فقال: اللهّ يَدفعْ عن نَفْس الإمام لنا وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض فليتَ أَنّ الذي يَعروه من مرض العائدين جميعاً لا به المَرَض فبالإمام لنا من غيرنا عِوَض وليس في غيره منه لنا عِوَض فما أُبالي إذا ما نَفْسه سَلِمَتْ لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا وقال آخر في بعض الأمراء: واعتلّ فاعتلت الدنيا لعِلّته واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ لما استقَلَّ أنار المَجد وانقشعت عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم وبلغ قيساً مجنونَ بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة فقال: يقولون ليلى بالعِراق مريضةٌ فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ شَفي الله مرْضى بالعِراق فإنني على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق ولمحمد بن عبد الله بن طاهر: أَلْبسك اللَهُ منه عافيةً تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ وقال غيره: يا أملي كيف أنتَ من ألمِكْ وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ هذان يومان لي أعدُّهما مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك حسدتُ حُمّاك حين قِيل لنا بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك ولسُحَيم عَبد بني الحَسحاس: تَجَمّعن شتى من ثلاث وأرْبع ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا وأقْبلن من أقصى الْخِيام يَعُدْنني ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا وللعباس بن الأحف: قالت مَرِضْت فعُدْتها فتبرَّمت وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ والله لو قَسَت القلوبُ كقَلبها ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ وقال الواثق: لا بك السُقْم ولكنْ كان بي وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ قيل لي إنك صُدِّعتَ فما خالطت سمعيَ حتى دير بي وقَوْلُكِ للعُوّاد كيف تَرَوْنه فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ لئن سَاءَني أن نِلتِني بمَساءَةٍ لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ ومن قولنا في هذا المعنى: رُوح النَّدى بين أثواب العُلا وَصب يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب ما أنتَ وحدَك مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب يا مَن عليه حِجَابٌ من جَلالته وإِن بدا لك يوماً غير محجوب أَلْقَى عليك يداً للضرُّ كاشفةً كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ ومثله من قولنا: لا غَرْو إن نال منك السُّقْمُ والضررُ قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ يا غُرّة القمر الذّاوي غَضارتُها فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر إن يُمس جسمك موعوكا بصاليةٍ فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر أنتَ الحُسام فإِن تُقْلَل مضاربُه فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر رُوح من المَجْد في جُثمان مَكْرُمة كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر لا غرو إن نال منك السقْمُ ما سأَلاَ قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا ما تَشْتَكي عِلّةً في الدهر واحدةً إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا الأدب في الاعتناق أبو بكر بن محمد قال: حدّثنا سعيد بن " إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ " قال: كنتُ جالساً عند مالك " بن أَنس " فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن بالباب فقال مالك: رجلٌ صالح صاحب سُنَة أدخِلوه فدخل فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته فردَ السلام فقال: سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد الله ورحمةُ الله فقال مالك: وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ فصافَحه مالك وقال: يا أبا محمد لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك فقال سُفيان: قد عانق مَن هو خيرٌ منَّا رسول الله ﷺ فقال مالك: جعفراً قال: نعم فقال مالك: ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ فقال سفيان: ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك قال: نعم يا أبا محمد فقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس أنه لما قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي ﷺ وقبل بين عينيه وقال: جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ
باب الأدب في إصلاح المعيشة
قالوا: مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت " بيته " خُبزاً. وقالوا: يقول الثّوب لصاحبه: أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً. وقالت عائشة: المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل الله. وقال عمرُ بن الخطاب: لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض فإِن شَحمها في وَجْهها. وقال: فَرِّقوا بين المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين. وقال: أملكوا العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين. وقال أبو بكر لغُلام له كان يتَّجر بالثياب: إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم وإذا كان قَصيراً فانشُره وأنت جالس وإنما البيْع مِكَاس. وقال عبد الملك بن مَرْوَان: مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل دينهُ.
باب الأدب في المؤاكلة
قال النبي ﷺ: إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب بيمينه فإنّ الشيطان محمد بن سلاّم الجُمحي قال: قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة الهُذليّ: أتحضُر طعامَ هذا الشيخ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال: نعم قال: فصِفه لي قال: نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى يستيقظ فيأْذن فنُساقطه الحديث فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع وإن حدَّثَنا أحسنَ الحديث ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ منهن " إلا " إذا وُضعت مائدته ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه قائماً فيقول له: ما عِنْدك فيقول: عِندي كذا وكذا فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام وتُقْبِل الألوان من هاهنا ومن هاهنا فتوضع على المائدة ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل رَقْطَاء من الْحِمَّص ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق فيأكل مُعذِراً حتى إذا ظنّ أن القوم قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه ثم استأنف الأكل معهم. قال ابن أبي بُردة: لله ذرُّ عبد الأعلى ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس. حضر أعرابيُّ سُفرةَ هشام بن عبد الملك فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ. فقال له هشام: عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ فقال: وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من يَرى الشَّعرة في لُقمتي والله لا أكلت عندك أبداً. ثم خرج وهو يقول: وللَموتُ خيرٌ من زيارة باخل يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ محمد بن يزيد قال: أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ ابناه فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في الغَضَّارة وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط من فم الرجل فأكله. فالتفتَ إليه الرجلُ فقال: يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك لكن والله لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة. وحدّث إبراهيمُ بن السِّنديّ قال: كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً " يُسلم من بعيد ويَنْصرف ". فأتاه يوماً فأدناه ثم دعاه إلى الغَداء فقال: قد تغذيتُ. فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة فلما انصرف وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه. فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى حالتَه وما ناله إلى عُمومته فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر وقالوا: إنَ الربيع نال من هذا الفتى كذا وكذا فقال لهم أبو جعفر: إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا وفي يده حُجَّة فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم قالوا: بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله فقال: إنّ هذا الفتى كان يأتي فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن قال: قد تغدّيتُ وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا سدًّ خَلّة الجوع ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل. فسكت القومُ وانصرفوا. وقال بكرُ بن عبيد الله: أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه وأحقُّ الناس بلَطْمتين من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا فيقول: لا ها هنا وأحقًّ الناس بثلاث لطمات من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا. وقال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً ثم فسّره فقال: أما اُلمكحل فالذي يتعرّق العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه حتى يجعله كأنه قُبّة. والمُكَوكب: الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه كأنه الكواكب في الطَّست. والحرَامد: الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول: ما تأكلون فيقولون من بُغْضه: سُمًّا فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم. والشُّكامد: الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع فأرة. والنُّقامد: الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره. ومن الأدب: أن يبدأ صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل فإذا غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر. وقال العلماء: لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه. وقال زِياد: لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين: ودخل عبد الله بن عبّاس على مُعاوية وعنده زَياد فرحَّب به مُعاوية ووسَّع له إلى جَنْبه وأقبل عليه يُسائله ويُحادثه وزِياد ساكِت فقال له ابن عبّاس: كيف حالُك أبا المُغيرة كأنك أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة فقال: لا ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي أمير المؤمنين. قال ابن عبّاس: ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم بين يدي أمرائهم. فقال له مُعاوية: كُفَّ عنه يابن عبّاس فإنك لا تَشاء أن تَغْلِبَ إلا غُلبت. الشّيبانيّ قال: بَصق ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته فوقعت في طَرف البِساط فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه بكُمّه. فقال عبدُ الملك بن مَرْوان: أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم: الإمام والعاِلم والوالد والضيف. وقال يحيى بن خالد: مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى فإذا أردتَ أن تقول: كيف أصبح الأمير فقُل: صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله عن حاله فقُل: أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة. وقالوا: إذا زادك المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا ولا تُدِيمن النظر إليه ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ. ولا تتغير له إذا سَخِط ولا تَغتر به إذا رَضيَ ولا تُلْحِف في مسألته. وقالوا: الملوك لا تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف. وقال الشاعر: إِنَّ المُلوكَ لا يُخَاطَبُونَا ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا وفي المَقَال لا يُنَازَعُونَا وفي العطاس لا يُشَمًتونَا وفي الخطاب لا يُكَيَّفُونَا يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا فافْهَم وَصاتي لا تكُن مَجْنُونا وقالوا: من تمام خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه ولا يَدَعه يَمشي إليهما ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه ولا يَنْتظر فيه أمرَه ويَتفقد الدَواة قبلَ أن يَأمره ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه وإن رأى بين يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره. وقال أصحابُ معاوية لمُعاوية: إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك فأنتْ تَكْره أن تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس فلو جعلتَ لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك فقال: علامةُ ذلك أن أقولَ: إذا شِئتم. وقيل مثلُ ذلك لعبد الملك بن مروان فقال. إذا وضعتُ الخَيْزُرانة. وما سمعتُ بألطف مَعنى ولا أكملَ أَدَباً ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن شَيْبة وقوله لأبي جَعْفَر: أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة وأُجِلّك عن السُّؤال. فقال له: فلان بن فُلان.
باب الكناية والتعريض
ومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ: قيل لعُمَر بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه: أين نبَتَ بك هذا الحِبْن قال بين الرانفة والصَّفْن. وقال آخر ونَبتَ به حِبْن في إبطه: أين نبت بك هذا الحِبْن قال: تحت مَنْكِبيّ. وقد كَنَى اللهّ تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة وعن الحَدَث بالغائط فقال: " أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ " والغائطَ: الفَحْص " وهو المُطْمئن من الأرض " وجَمْعه: غِيطان. " وقالُوا مَا لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ ". وإنما كنّى " به " عن الحَدث. وقال تعالى: " واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ ". فكنّى " بالسوء " عن البرص. ودخل الرّبيع بن زياد على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح فقال: ما هذا البَياض بك فقال: سيف اللهّ جلاه. ودخل حارثةُ بن بدر على زياد وفي وَجهه أثر فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك قال: رَكِبت فَرَسي الأشقر فجمح بي فقال: أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك. فكنّى حارثة بالأشقر عن النبيذ وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن. إذَا ما مات مَيْتٌ من تميم وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ بخُبز أو بتَمْرِ أو بِسَمْنِ أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد تراه يَطُوف في الافاقْ حِرْصاَ ليأكل رأس لُقمان بن عاد ما هذا الشيء الملفّف في البِجاد قال الأحنف: السّخينة يا أميرَ المؤمنين. قال معاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله قريش من دقيق وهو الخَريزة فكانت تُسَب به وفيه يقول حسَّان بن ثابت: زَعمْت سَخينة أن ستَغْلِب رَبّها وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ وقال آخر: تَعشوا من خَزيرتهم فناموا ولمّا عَزل عثمانُ بن عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح دخل عمرو على عُثمان وعليه جُبّة محشوّة فقال له عُثمان: ما حَشْو جُبّتك يا عمرو قال: أنا قال: قد علمتُ أنك فيها. ثم قال له يا عمرو: أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها فقال: لأنكم أعجفتم أولادَها. فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي بعده وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان. وكان في المَدِينة رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات فكتب رجلٌ من أَلاَ أَبلغ أبا حَفْص رسولاً فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي قَلائِصُنا هدَاكَ اللهّ إنّا شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ يُعَقِّلُهن جَعْد شيظمي وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار فكنَى بالقلائص عن النّساء. وعَرض برجل يقال له جَعْدَة. فسأل عنه عمرُ فَدُل عليه فجزّ شَعره ونَفَاه عن المدينة. وسمعِ عمرُ بن الخطاب امرأة في الطّواف تقول: فَمِنْهُنَّ من تُسْقَى بعَذْب مُبرد نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ ومنهنّ مَن تُسْقَى بأخضرَآجن أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت ففهم شكواها فبَعث إلى زَوْجها فوجده متغيِّر الفم. فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها. فاختار الدَّراهم فأعطاه وطَلّقها. ودخل على زياد رجلٌ من أشراف البصرة فقال له زياد: أين مَسكنك من البَصرة قال: في وَسطها قال له: كم لك من الولد قال: تِسْعة فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس كذلك في كل ما سألته وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ وهو ساكن في طَرف البَصرْة. فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك فقال له: ما كذبتُك لي تسعة من الولد قَدَمْت منهم ثمانية فهم لي وبقي معي واحد فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ ومنزلي بين المدينة والجَبانة فأنا بين الأحياء والأموات فمنزِلَي في وَسط البَصرة قال: صدقت. الكناية يورى بها عن الكذب والكفر لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلِّى سبيلَه ومَن أبَى يَقْتله فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية ولم يُصرِّحا بالكفر فَقبِل كلامهما وعفا عنهما وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل. وكان مما عرَّض به الشعبي فقال أَصلح الله الأمير نَبا المنزل وأَحْزَن بنا الجَناب واستَحلَسْنا الخوفَ واكتَحلنا السهرَ وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء ولا فَجَرة أقوياء. قال صدقَ والله ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا خَلّيا عنه ثم قُدِّم " إليه " مُطرِّف بن عبد الله فقال له الحجّاج: أَتُقِرّ على نفسِك بالكفر قال: إنّ مَن شق العصا وسَفَك الدماء ونكث البَيْعة وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر قال: خليا عنه. ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير فقال له: أتقِر على ولما وَلي الواثقُ وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء أُتي فيهم بالحارث بن مِسْكين فقيل له: أتَشهد أنّ القرآن مخلوق قال: أشهدُ أنّ التوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن هذه الأربعة مخلوقة ومَدّ أصابعه الأربع فعرض بها وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل: وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد عن الكِناية فأباها فقُتِل وَصلِب. ودَخل بعضُ النسّاك على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه فقال له: الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء وإنما كره طعامه. الأصمعيُّ عن عيسى بن عمر قال بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه إذ استقبلته الخوارج يَجزُّون الناسَ بسيوفهم فقال لهم: هل خَرج إليكم في اليهود شيء قالوا: لا قال: فامضُوا راشِدين فمضَوْا وتركوه. ولقي شيطانُ الطاق رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ فقال له الخارجي: واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من عليّ فقال له: أنا من عليّ ومن عثمان بريء " يريد أنه من عليّ وبريء من عثمان " 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال: قال الوليد " بن عُقْبة " على المِنْبر بالكوفة: أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام " فخرج عنّي " فقام إليه رجل من أهل الكوفة فقال له: ومَن هذا الذي يقوم " وقال معاويةُ لصعْصعة بن صوحان: اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا " فامتنع من ذلك وقال: أو تُعْفيني قال: لا. فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً فالعَنُوه لعنه الله ".
الكناية عن الكذب في طريق المدح
المدائنيّ قال: أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران فقال له: مَن أنت فقال: أنا ابن الذي لا يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ ترى الناسَ أفواجاَ إلى ضوْء ناره فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود فظنّه ولداً لبعض الأشراف فأمر بتخليته. فلمّا كُشف عنه قيل له: إنّه ابن باقلاني. ودخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرمة " القاضي " فقال له: أتعرف هذا الرجل - وكان رُمي عنده بريبة - فقال " نعم " إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً فخلّى سبيلَه. فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له " أصحابُه ": أكنت تعرف هذا الرجل قال: لا ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه وقدماَ يمشي عليها وشرفُه أُذناه ومَنْكباه. وخطب رجل لرجل إلى قوم فسألوه: ما حِرْفته فقال: هو نخَّاس الدوَاب فزوّجوه فلمّا كُشف عنه وجدوه يبيع السَّنانير فلمّا عنِّفوه في ذلك قال: أوَ ما السنانير دواب ما كذبتكم في شيء. ودخل مُعلَى الطائي على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه فأنشده شعراً يقول فيه: فأُقسم إن منَّ الإله بصحَة ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ لأرتَحِلِّن العِيسَ شهراً بحِجة وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء فلمّا خرج من عنده قال له أصحابُه: والله ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء فمَن أردت أن تُعتق قال هما هرّتان عندي والحجّ فريضة واجبة فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله تعالى.
باب في الكناية والتعريض في طريق الدعابة
سُئل ابن سيرين عن رجل فقال: تُوفّي البارحة. فلما رأى جَزَع السائل قال: " الله يَتوفَى الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها " وإنما أردتُ بالوَفاة النوم. ومَرِض زيادٌ فدخَل عليه شُريح القاضي يَعوده. فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله: كيف تركتَ الأمير قال: تركتُه يأمر وينهى فقال مَسروق: إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض " عَوِيص " وكان سِنان بن مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة فقال له ابن هُبيرة: غُضَّ من عِنان بَغلتك فقال: إنها مكتوبة أصلح الله الأمير. أراد ابن هُبيرة قول جرير: فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمير فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا وأراد سِنَان قولَ الشاعر: لا تَأمننَ فَزاريَّاً خَلوتَ به على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ ومرّ رجلٌ من بني تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي فقال التَّميميُ للنّميريّ: هذا البازي لك فقال له النُّميري: نعم وهو أهدَى من القَطا. أراد التميميُّ قولَ جرير: أنا البازي المُطِلّ على نُمَيْر أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا وأراد النميري قول الطِّرِمْاح: تَميم بطُرْق اللُّؤم أهدَى من القَطَا ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ ودخل رجلٌ من مُحارب على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه ضفادع فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة فقال له المُحاربيّ: أصلح الله الأمير أَو تدْري لمَ ذلك قال: ولم قال: لأنها أضفَت بُرْقُعاً لها قال: قَبّحك اللهّ تَنِقّ بلا شيء شُيوخُ مُحَاربِ وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى ضَفادع في ظَلماءِ ليلٍ تَجاوبتْ فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر وأراد المُحاربيُّ قولَ الشاعر: لكلّ هِلاليّ من الًّلؤم بُرْقُع ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ وقال مُعاوية لعبد الرحمن بن الحَكم: استعْرِض لي هذين الفَرسين فقال: أحدُهما أجَشُّ والآخر هَزِيم يعني قولَ النَّجاشيّ: ونَجَّى ابن هِنْد سابحٌ ذو عُلالةِ أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني فقال مُعاوية: أما إنَ صاحبَهما على ما فيه " لا " يُشئب بكَنائنه. وكان عبدُ الرحمن يُرْمى بكنَّتِه. وشاور زيادٌ رجلا من ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها فقال: لا خير لك فيها إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها فتركها وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها. فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له: أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها قال: نعم رأيتُ أباها يُقبِّلها. وقال أعرابيُ لعمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه: يا أميرَ المؤمنين احمِلْني وسُحَيما على جمل فقال: نَشدتك الله يا أعرابيّ أسُحيم هذازِق قال: نعم ثم قال: مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه وودَّع رجلٌ رجلاً كان يُبْغِضُه فقال: امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله وحِجاب من كلاءته. فَفطِن له الرجل فقال: رَفع الله مكانك وشَدِّ ظهرك وجَعلك مَنظوراً إليك. والشَّيباني قال: كان ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر " الصدِّيق رضي الله عنهم " وكانت له آمرأة من أشراف قَريش وكان لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه في زَوْجها فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع: ذَهب الإله بما تَعيش به وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ أنفقت مالك غير مُحْتشم في كلِّ زانية وفي الخمر فقال للجارية: لمن هذا الشًعر قالت: لموْلاتي. فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به فإذا هو بعبد الله بن عُمر بن الخطاب فقال: يا أبا عبد الرحمن قف قليلا أُكلمك فوقف عبد الله بن عمر فقال: ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر وأنشد البيتن قال: أرى أن تَعفو وتَصفح قال: أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره وقال: قبّحك اللهّ. ثم لَقيه بعد ذلك بأيام فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه فاستقبله ابن أبي عَتيق فقال له: سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين فولاه قفاه وأنصت له قال: علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر ونِكْته فصعِق عبد الله ولُبِط به فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه وقال: أصلحك الله إنها امرأتي " فلانة ". فقام ابن عمر وقَبل ما بي عَيْنيه " وتبسَّم ضاحكاً ".
باب في الصمت
كان لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم " مُقْتَبسا " وكان عبداً أسود فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة فقاسها داودُ على نفسه وقال: زِرْد طافا ليوم قِرَافا. تفسيره: درع حَصينة ليوم قِتال. فقال لُقمان: الصمت حُكم وقَليل فاعله. وقال أبو عبيد الله كاتبُ المهدىِّ: كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق. وقال أبو الدَّرداء: أنْصف أُذنيك مِن فيك فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما تقوله ابن عَوْف عن الحسن قال: جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال مُعاوية: مالك لا تتكلّم أبا بَحْر قال: أخافُك إن صدقتُ وأخاف الله إن كذبت. وقال المُهلَّب بن أًبي صُفْرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه فضلا على عقله. وقالوا: مَن ضاق صدرُه اتسع لسانُه ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه. وقال هَرم ابن حيّان: صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين إن قصَّرَ فيه خصم وإن أَغْرق فيه أَثِم. وقال شَبيب بن شَيبة: مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه. وقال أكثمُ بن صَيْفيّ: مَقْتل الرجل بين فَكًيه. وقال جعفر بن محمد بن عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم: يَموت الفتَى من عَثْرة بلِسانِه وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل فعثرته مِن فِيه تَرْمِي برأْسه وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل وقال الشاعر: الْحِلم زَيْنٌ والسكُوتُ سلامةٌ فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا ما إن نَدِمْتُ على سُكُوتي مَرّةً لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا وقال لحسن بن هانيء: خَلّ ِجنبيك لِرَامِي واْمض عنه بسَلاَم ربَّ لفظ ساق آجا ل فِئَام وفئام إنما الساِلمُ من أَلْ جَم فاهُ بِلِجَام وقال بعض الحكماء: حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله راجع عَليَّ. وقالوا: إذا أعجبك الكلامُ فاصمُت. وقال رجلٌ لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم قال: إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت قال: فمتى أصمُتَ قال: إذا اشتهيتَ أن تتكلّم. وقال النبي ﷺ: ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان. وسَمِع عبد الله بن الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء فقال: بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة.