انتقل إلى المحتوى

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية/3

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال أوجاه وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأعيانهم وفقرائهم وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم وهو سبب سقوط حرمة المتولى وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حد آخر وصار من جنس اليهود الملعونين وأصل البرطيل هو الحجر الطويل كما قد جاء في الأثر إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك مثل السحت الذي يسمى التأديبات ألا ترى أن الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ثم جاءوا إلى ولي الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له أو غير ذلك كيف يقوي طمعهم في الفساد وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة وتفسد الرعية

وكذلك الفلاحون وغيرهم وكذلك شارب الخمر إذا أخذ فدفع بعض ماله: كيف يطمع الخمارون فيرجون إذا أمسكوا أن يقدموا بعض أموالهم فيأخذها ذلك الوالي سحتا

وكذلك ذوو الجاه إذا أحموا أحدا أن يقام عليه ( الحد ) مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير فيحمي على الله ورسوله فيكون ذلك حماه ممن لعنه الله ورسوله فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين فقه لعنه الله ورسوله وإذا كان النبي قد قال: [ إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه لا سيما الحدود على سكان البر فإن من أعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه أو مال سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرا أو علانية فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين وهو مثل تضمين الخانات والخمر فإن من مكن من ذلك أو أعان أحدا عليه بمال يأخذه منه فهو من جنس واحد

والمال المأخوذ على هذا شبيه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وأجره المتوسط في الحرام الذي يسمى القواد قال النبي : [ ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث ] رواه البخاري

فمهر البغي الذي يسمى حدور القحاب وفي معناه ما يعطاه المخنثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ونحو ذلك

وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال تعالى {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها} فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقال به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد وفي الحديث الثابت: أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله فقال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله يقول: [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] وفي حديث آخر: [ إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرت العامة ]

وهذا القسم الذي ذكرناه من الحكم في حدود الله وحقوقه ومقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك بإجماع المسلمين فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال ما كان من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء وإن كان التارك للصلاة واحدا فقد قيل: إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مسلما فاسقا ؟ فيه قولان وأكثر السلف على أنه يقتل كافرا وهذا كله مع الإقرار بوجوبها أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وكذلك من جحد سائر الواجبات وفعل المحرمات هو مقصود الجهاد في سبيل الله وهو واجب على الأمة باتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال [ قال رجل: يارسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيعه أو لا تطيقه قال: أخبرني به ؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ قال: ومن يستطيع ذلك ؟ قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله ] وقال: [ إن الجنة لمئة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] كلاهما في الصحيحين

وقال النبي : [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}

من ذلك عقوبة المحاربين وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه - في قطاع الطريق -: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي و أحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي قال: [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قاعدتهم ]

يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيها غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا فإن النبي كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم - وهكذا المقتتلون على باطل - لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما هما ظالمتان كما قال النبي : [ إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله: هذا القاتل فم بال المقتول ؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه ] أخرجاه في الصحيحين وتضمن طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراف كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة و أحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت

وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله وإذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه وأو هربوا أو تركوا الحرب فإنهم ينفون قيل: نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل: هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك

والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم وقال: إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون

وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل: فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله خطبة إلى أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مافعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي : [ لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا ] فأنزل الله هذه الآية وإن كان قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي [ بل نصبر ] وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال: [ كان النبي إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولاتمثلوا ولا تقتلوا وليدا ]

ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس وقال أكثرهم: عن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك - في المشهور عنه - و الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله وهذا هو الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصى والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكى عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع: على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتل فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصي فهو مجاهد في سبيل الله وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعوا إلى منزلة من يستأجره لخياطة أو طبيبا أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان أخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليه حكم القود ؟ ففيه قولان للفقهاء :

أحدهما: أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به

واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما: هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم - على قولين في مذهب أحمد وغيره - لأن في قتله فسادا عاما

وهذا كله إذا قدر عليهم فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تخربوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم في الدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطاع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذ لم يكونوا كفارا ولا تأخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيأخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشرة سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك

بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يكون قد وجب عليهم القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليهم الحد الذي أقيم على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فإما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة على شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا لقتالهم وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين

وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي في الغامدية: [ لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ] ويجوز للمطلوبين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم قال النبي : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ]

وهذا الذي تسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إن كان مطلوبة الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الزنا أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذلك الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان وأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها ؟ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية - وقد أخذوا الأموال التي للناس - فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوتهم عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره أو الإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع عن حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليه حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عليه فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليه فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه

وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل: يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي و أحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل: لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل: يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى البيكار

وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان لهم إقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبعض رؤساهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر في الكتاب والسنة وأصول الشريعة

ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين بعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال ما يقال في الرد والعون لهم فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم وإن أخذوا المال قطعت يده وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل: يخير بين هذين وإن كانوا لم يؤذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود

ومن أوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفى منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم ولقد لعنه الله ورسوله وروى مسلم: [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب من إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها: ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذين يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحب الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأن نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ]

وروى مسلم نحوه عن جابر وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله بسبع: وينهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوى ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباح والإستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به

وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وفي النبي : [ ألا لا يجني جان إلى على نفسه ] وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسهن وهو أن يكون قد علم مكان الظالم لذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو يعلم مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}

وإما إعراضنا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض

وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء

ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي والضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفي به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبه وكما تجب الدية على عاقلة القاتل وهذا الضرب من التعزيز عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهة وشهوته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان طالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى ما يناويهم ذلا أو عجزا وهذا - على الإطلاق - جاهية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب بسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو ذلك

ومن أذل نفسه لله فقد أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكر نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} وقال تعالى عن المنافقين: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}

وإنما الواجب على من استجار به مستجير - إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن إما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلظ وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} وقد روى أبو داود في السنن [ عن النبي أنه قيل له: أمن العصبية أن ينصر الرجل في الحق ؟ قال: لا قال: ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل ] وقال: [ خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم ] وقال: [ مثل الذين ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهر يجر بذنبه ] وقال: [ من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا يتكنوا ]

وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار قال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار قال النبي : [ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ] وغضب لذلك غضبا شديدا

وأما السارق يجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره ولا مال يفتدى به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه وإرادة العلو عن الخلق به منزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الكريه وبمنزلة قطع العضو المتأكل والحجم ويقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة

فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره لأن الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد

وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أن ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد ساهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم ؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه قال: كيف محبتكم له ؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء

وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا: فيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين و أحمد في روايته الأخرى وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحجاز وغيرهم كمالك و الشافعي و أحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله : [ قطاع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] وفي لفظ لمسلم: [ قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ] والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعد ] وفي رواية لمسلم: [ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ] وفي رواية للبخاري قال: [ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ] وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدراهم اثنا عشر درهما

ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزز الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث

وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله يقول: [ لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل ] رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله قال: [ يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال: فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها ؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرته ففيه القطع إذا يلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال ] رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي : [ ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع ] فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح

وأما الزاني: فإن كان محصنا فإنه يرجم حتى يموت كما رجم النبي ماعز بن مالك الأسلمي ورجم الغامدية ورجم اليهوديين ورجم غير هؤلاء ورجم المسلمون من بعده واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله ويغرب عاما بسنة رسول الله وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب

ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء أو يشهد على نفسه أربع شهادات عند كثير من العلماء أو أكثرهم ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد ومنهم من يقول: لا يسقط

والمحصن من وطئ وهو حر مكلف لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها ولو مرة واحدة وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات ؟ على قولين للعلماء وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس؟

فأما أهل الذمة فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء كالشافعي وأحمد لأن النبي رجم يهوديين عند باب مسجده وذلك أول رجم كان في الإسلام

واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولا سيد ولم تدع شبهة في الحبل ففيها قولان في مذهب أحمد قيل: لا حد لها لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة أو بتحمل بوطء شبهة وقيل بل تحد وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها كاحتمال كذبها وكذب الشهود

وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا وقد قيل دون ذلك والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل سواء كانا محصنين أو غير محصنين فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : قال: [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: [ في البكر يوجد على اللواطية قال: يرجم ] ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو ذلك

ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعوا فيه فروى الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه وعن غيره قتله وعن بعضهم: أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط وهذه رواية عن ابن عباس والرواية الأخرى قال: يرجم وعلى هذا أكثر السلف قالوا: لأن الله رجم قوم لوط وشرع رجم الزاني تشبيها برجم قوم لوط فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو كان أحدهما مملوك الآخر إذا كانا بالغين فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ