انتقل إلى المحتوى

السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية​ المؤلف ابن تيمية
ملاحظات:



الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز وختمهم بمحمد الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز وأشهد أن لا إله إلى الله وحده ولا شريك له شهادة خالصة خلاص الذهب الإبريز وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وشهادة يكون صاحبها في حرز حريز

أما بعد فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية والإنابة النبوية لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور كما قال النبي فيما ثبت عنه من غير وجه: [ إن الله يرضى لكم ثلاثة أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ]

وهذه رسالة مبنية على آية الأمراء في كتاب الله وهي قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}

قال العلماء نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم عليهم أن يطيعوا أولي الأمر الفاعلين لذلك في قسمهم وحكمهم ومغازيهم وغير ذلك إلا أن يأمروا بمعصية الله فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله وإن لم تفعل ولاة الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله لأن ذلك من طاعة الله ورسوله وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}

وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة

فإن النبي لما فتح مكة وتسلم مفاتيح الكعبة من بني شيبة طلبها نه العباس ليجمع له بين سقاية الحاج وسدانة البيت فأنزل الله هذه الآية بدفع مفاتيح الكعبة إلى بني شيبة فيجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل قال النبي صلى الله عليه: [ من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله ]

وفي رواية [ من قلد رجلا عملا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين ] رواه الحاكم في صحيحه وروى بعضهم أنه من قول عمر لابن عمر روى ذلك عنه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من ولى من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين وهذا واجب عليه فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر والصغار والكبار وولاة الأموال من الوزراء والكتاب والشادين والسعاة على الخراج والصدقات وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده وينتهي ذلك إلى أئمة الصلاة والمؤذنين والمقرئين والمعلمين وأمير الحاج والبرد والعيون الذين هم القصاد وخزائن الأموال وحراس الحصون والحدادين الذين هم البوابون على الحصون والمدائن ونقباء العساكر الكبار والصغار وعرفاء القبائل والأسواق ورؤساء القرى الذين هم الدهاقون

فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو يسبق في الطلب بل ذلك سبب المنع فإن في الصحيحين عن النبي : [ أن قوما دخلوا عليه فسألوه ولاية فقال: إنا لا نولي أمرنا هذا من طلبه ] وقال لعبد الرحمن بن سمرة: [ يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإن إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليه ] أخرجاه في الصحيحين وقال : [ من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله إليه ملكا يسدده ] رواه أهل السنن فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما أو ولاء عتاقة أو صداقة أو موافقة في بلد أو مذهب أوطريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة أو غر ذلك من الأسباب أو لضغن في قلبه على الأحق أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى الله عنه في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} ثم قال {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}

فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه قد يؤثره في بعض الولايات أو يعطيه ما لا يستحقه فيكون قد خان أمانته كذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه بأخذ ما لا يستحقه أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات فيكون قد خان الله ورسوله وخان أمانته

ثم أن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه يثبته الله فيحفظه في أهله وماله وبعده والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذلك أهله ويذهب ماله وفي ذلك الحكاية المشهورة أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك فقال: أدركت عمر بن عبد العزيز فقيل له: يا أمير المؤمنين أقفرت أفواه بنيك من هذا المال وتركتهم فقراء لا شيء لهم وكان في مرض موته فقال: أدخلوهم علي فأدخلوهم بضعة عشر ذكرا ليس فيهم بالغ فلما رآهم ذرفت عيناه ثم قال: يا بني والله ما منعتكم حقا هو لكم ولم أكن بالذي آخذ أموال الناس فأدفعها إليكم وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح فالله يتولى الصالحين وإما غير صالح فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله قوموا عني قال: فلقد رأيت بعض ولده حمل على مائة فرس في سبيل الله يعني أعطاها لمن يغزو عليها

قلت: هذا وقد كان خليفة المسلمين من أقصى المشرق بلاد الترك إلى أقصى المغرب بلاد الأندلس وغيرها ومن جزائر قبرص وثغور الشام والعواصم كطرسوس ونحوها إلى أقصى اليمن وإنما أخذ كل واحد من أولاده من تركته شيئا يسيرا يقال: اقل من عشرين درهما - قال وحضرت بعض الخلفاء وقد اقتسم تركته بنوه فأخذ كل واحد منهم ستمائة ألف دينار ولقد رأيت بعضهم يتكفف الناس - أي يسألهم بكفه - وفي هذا الباب من الحكايات والوقائع المشاهدة في الزمان والمسموعة عما قبله ما فيه عبرة لكل ذي لب

وقد دلت سنة رسول الله على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع مثل ما تقدم ومثل قوله لأبي ذر رضي الله عنه في الأمارة: [ إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ] رواه مسلم وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي قال: [ إذا ضيعت الأمانة انتظر الساعة قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غيره أهله فانتظر الساعة ] وقد أجمع المسلمون على معنى هذا فإن وصى اليتيم وناظر الوقف ووكيل الرجل في ماله عليه أن يتصرف له بالأصلح فالأصلح كما قال الله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} ولم يقل إلا بالتي هي حسنة وذلك لأن الوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم كما قال النبي [ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيت ] أخرجاه في الصحيحين وقال [ ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلى حرم الله عليه رائحة الجنة ] رواه مسلم

ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال: السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل السلام عليك: أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا: قل أيها الأمير فقال السلام عليك أيها الأجير فقالوا قل الأجير فقالوا قل الأمير فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها فإن أنت هنأت جرباها وداويت مرضاها وحبست أولادها على أخراها وفاك سيدها أجرها وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها ولم تحبس أولاها على أخراها عاقبك سيدها

وهذا ظاهر الاعتبار فإن الخلق عباد الله الولاة نواب الله على عباده وهم وكلاء العباد على نفوسهم بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ففيهم معنى الولاية والوكالة ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلا وترك من هو أصلح للتجارة أو المقار منه وباع السلعة بثمن وهو من حاباه وبينه مودة أو قربة فإن صاحبه يبغضه ويذمه أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه

إذا عرف هذا فليس أن يستعمل إلا أصلح الموجود وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام وأخذه للولاية بحقها فقد أدى الأمانة وقام بالواجب في هذا وصار في هذا الموضع من أئمة العدل والمقسطين عند الله وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره إذا لم يمكن إلا ذلك فإن الله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم} ويقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وقال {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى وقال النبي [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين لكن إن كان منه عجز ولا حاجة إليه أو خيانة عوقب على ذلك وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة كما قال تعالى {إن خير من استأجرت القوي الأمين} وقال صاحب مصر ليوسف عليه السلام {إنك اليوم لدينا مكين أمين} وقال تعالى في صفة جبريل: {إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين}

والقوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها فإن الحرب خدعة وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر ونحو ذلك كما قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} وقال النبي : [ ارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا ] وفي رواية: [ فهي نعمة جحدها ] رواه مسلم والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة وإلى القدرة على تنفي الأحكام

والأمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشتري بآياته ثمنا قليلا وترك خشية الناس وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل حكم على الناس في قوله تعالى: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولهذا قال النبي : [ القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة فرجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ] رواه أهل السنن والقاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما سواء كان خليفة أو سلطانا أو نائبا أو واليا أو كان منصوبا ليقضي بالشرع أو نائبا له حتى يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا هكذا ذكر أصحاب رسول الله : وهو ظاهر

اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينا كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر ولآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزي ؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر وقد قال النبي : [ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] وروى [ بأقوام لا خلاق لهم ] فإذا لم يكن فاجرا كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسده

ولهذا كان النبي يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم وقال: [ إن خالدا سيف سله الله على المشركين ] مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي حتى إنه - مرة - رفع يديه إلى السماء وقال: [ اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد ] لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة حتى وداهم النبي وضمن أموالهم ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل

وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق ومع هذا فقال له النبي : [ يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن علي اثنين ولا تولين مال يتيم ] رواه مسلم نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية لأنه رآه ضعيفا مع أنه قد روى: [ ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر ]

وأمر النبي مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل استعطافا لأقاربه الذين بعثه إليهم على من هم أفضل منه وأمر أسامة بن زيد لأجل ثأر أبيه ولذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان

وهكذا أبو خليفة رسول الله رضي الله عنه ما زال يستعمل خالدا في حرب أهل الردة وفي فتوح العراق والشام وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل وقد ذكر له عند أنه كان له فيها هوى فلم يعزله من أجلها بل عتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه وأن غيره لم يكن يقوم مقامه لأن المتولي الكبير إذا كان خلفه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى الشدة وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين ليعتدل الأمر ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يؤثر استنابة خالد وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لأن خالدا كان شديدا كعمر بن الخطاب وأبا عبيدة كان لينا كأبي بكر وكان الأصلح لكل منهما أن يولي من ولاه ليكون أمره معتدلا ويكون بذلك من خلفاء رسول الله الذي هو معتدل حتى قال النبي [ أنا نبي الرحمة أنا نبي الملحمة ]

وقال: [ أنا الضحوك القتال ] وأمته وسط قال الله تعالى فيهم: {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا} وقال تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} ولهذا لما تولى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صارا كاملين في الولاية واعتدل منهما ما كان ينسبان فيه إلى أحد الطرفين في حياة النبي من لين أحدهما وشدة الآخر حتى قال فيهما النبي : [ اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ] وظهر من أبي بكر من شجاعة القلب في قتال أهل الردة وغيرهم ما برز به على عمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها فأما استخراجها وحفظها فلا بد فيه من قوة وأمانة فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته وكذلك في إمارة الحرب إذا أمر الأمير بمشاورة أولي العلم والدين جمع بين المصحلتين وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد فلا بد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام

ويقدم في ولاية القضاء الأعلم الأورع الأكفأ فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم - فيما قد يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى - الأورع وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه: الأعلم ففي الحديث عن النبي أنه قال: [ إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ويحب العقل عند حلول الشهوات ]

ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والي الحرب أو العامة

ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع فإن القاضي المطلق يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا بل وكذلك كل وال للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه والكفاءة: إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة وفي الحقيقة فلا بد منهما

وسئل بعض العلماء: إذا لم يوجد من يولي القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟ فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين وإن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما تيسر؟ على ثلاثة أقوال وبسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

ومع أنه يجوز تولية غير الأهل للضرورة إذا كان أصلح الموجود فيجب مع ذلك السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها كما يجب على المعسر السعي في وفاء دينه وإن كان في الحال لا يطلب منه إلا ما يقدر عليه وكما يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف الاستطاعة في الحاج ونحوها فإنه لا يجب تحصيلها لأن الوجوب هناك لا يتم إلا بها

والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ومعرفة طريق المقصود فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا دون الدين قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد وكان من يطلب رئاسة نفسه يؤثر تقديم من يقيم رئاسته وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الجند ولهذا لما قدم النبي أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها

وكان النبي إذا بعث أميرا على حرب كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف وعليا ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم ويقيم فيهم الحدود وغيرها مما يفعله أمير الحرب وكذلك خلفاؤه بعده ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين وذلك لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد ولهذا كانت أكثر الأحاديث عن النبي في الصلاة والجهاد وكان إذا عاد مريضا يقول: [ اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا ]

ولما بعث النبي إلى اليمن قال: [ يا معاذ إن أهم أمرك عندي الصلاة ]

وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة

وذلك أن النبي قال: [ الصلاة عماد الدين ] فإذا أقام المتولي عماد الدين فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات كما قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين}

وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} وقال لنبيه: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}

فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم وهو نوعان: قسم المال بين مستحقيه وعقوبات المعتدين فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه ولهذا كان عمر بن الخطاب يقولك: إنما بعثت عمالي إليكم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ويقيموا بينكم دينكم فلما تغيرت الرعية من وجه والرعاة من وجه تناقضت الأمور فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله فقد روى [ يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة ] وفي مسند الإمام أحمد عن النبي أنه قال: [ أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغضهم إليه إمام جائر ] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله رب العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ]

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ أهل الجنة ثلاثة: سلطان مقسط ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل غني عفيف متصدق ] وفي السنن عنه أنه قال: [ الساعي على الصدقة بالحق كالمجاهد في سبيل الله ] وقد قال الله تعالى - لما أمر بالجهاد -: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقيل للنبي : يا رسول الله - الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: [ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ] أخرجاه في الصحيحين

فالمقصود أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمها كتابه وهكذا قال الله تعالى {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه ثم قال تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف وقد روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف - فإذا كان هذا هو المقصود فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب وينظر إلى الرجلين أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي فإذا كانت الولاية مثلا إمامة صلاة فقط قدم من قدمه النبي حيث قال: [ يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه ] رواه مسلم فإذا تكافأ رجلان أو خفي أصلحهما أقرع بينهما كما أقرع سعد بن أبي وقاص بين الناس يوم القادسية لما تشاجروا على الأذان متابعة لقوله : [ لو يعلم الناس في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ] فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر وبفعله - ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها

ويدخل في هذا القسم: الأعيان والديون الخاصة والعامة مثل رد الودائع ومال الشريك والموكل والمضارب ومال المولى من اليتيم وأهل الوقف ونحو ذلك وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات وبدل القرض وصدقات النساء وأجور المنافع ونحو ذلك وقد قال الله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم} إلى قوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عنهم وقال النبي : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وقال النبي : [ المؤمن من أمنه المسلمون على دمائهم وأموالهم والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله ] وهو حديث صحيح بعضه في الصحيحين وبعضه في سنن الترمذي وقال : [ من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ] رواه البخاري وإذا كان الله قد أوجب أداء الأمانات التي قبضت بحق ففيه تنبيه على وجوب أداء الغصب والسرقة والخيانة ونحو ذلك من المظالم وكذلك أداء العارية وقد خطب النبي في خطبة الوداع وقال في خطبته: [ العارية مؤداة والمنحة مردودة الدين مقضي والزعيم غارم إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ]

وهذا القسم يتناول الولاة والرعية فعلى كل منهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه فعلى ذي السلطان ونوابه في العطاء أن يؤتوا كل ذي حق حقه وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه وكذلك على الرعية الذين يجب عليهم الحقوق وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال مالا يستحقونه فيكونون من جنس من قال الله تعالى فيه: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم}

ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه من الحقوق وإن كان ظالما كما أمر النبي لما ذكر جور الولاة فقال: [ أدوا إليهم الذي لهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ] ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: [ كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا: فما تأمرنا ؟ فقال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم ]

وفيها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال: أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم ]

وليس لولاة الأموال أن يقسموها بحسب أهوائهم كما يقسم المالك ملكه فإنما هم أمناء ونواب ووكلاء ليسوا ملاكا كما قال رسول الله : [ إني - والله - لا أعطي ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ونحوه فهذا رسول رب العالمين قد أخبر أنه ليس المنع والعطاء بإرادته واختياره كما يفعل ذلك المالك الذي أبيح له التصرف في ماله وكما يفعل ذلك الملوك الذين يعطون من أحبوا وإنما هو عبد الله يقسم المال بأمره فيضع حيث أمره الله تعالى

وهكذا قال رجل لعمل بن الخطاب: يا أمير المؤمنين - لو وسعت على نفسك في النفقة من مال الله تعالى فقال له عمر: أتدري ما مثلي ومثل هؤلاء ؟ كمثل قوم كانوا في سفر فجمعوا منه مالا وسلموه إلى واحد ينفقه عليهم فهل يحل لذلك الرجل أن يستأثر عنهم من أموالهم ؟ وحمل مرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مال عظيم من الخمس فقال: إن قوما أدوا الأمانة في هذه لأمناء فقال له بعض الحاضرين: إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى فأدوا إليك الأمانة ولو رتعت لرتعت

وينبغي أن يعرف أن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جلب إليه هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جلب إليه ذلك وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك والذي على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله ويضعه في حقه ولا يمنعه من مستحقه وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا بلغه أن بعض نوابه ظلم يقول: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك أو يتركوا حقك

الأموال السلطانية التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف: الغنيمة والصدقة والفيء

فأما الغنيمة فهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال ذكرها الله في سورة الأنفال التي أنزلها في غزوة بدر وسماها أنفالا لأنا زيادة في أموال المسلمين فقال: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} إلى قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} الآية وقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم} وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال: [ أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ] وقال النبي : [ بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحي ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم ] رواه أحمد في المسند عن ابن عمر واستشهد به البخاري

فالواجب في المغنم تخميسه وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى وقسمة الباقي بين الغانمين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم الذين شهدوها للقتال قاتلوا أو لم يقاتلوا ويجب قسمها بينهم بالعدل فلا يحابى أحد لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله كما كان النبي وخلفاؤه يقسمونها وفي صحيح البخاري: أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى له فضلا على من دونه فقال النبي : [ هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ ] وفي مسند أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: [ قلت: يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم يكون سهمه وسهم غيره سواء ؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ ]

وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر لكن يجوز للإمام أن ينفل من ظهر منه زيادة نكاية كسرية تسرت من الجيش أو رجل صعد حصنا عاليا ففتحه أو حمل على مقدم العدو فقتله فهزم العدو ونحو ذلكن لأن النبي وخلفاءه كانوا ينفلون لذلك

وكان ينفل السرية في البداية الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس وقال بعضهم: إنه يكون من خمس الخمس لئلا يفضل بعض الفاتحين على بعض والصحيح أنه يجوز من أربعة الأخماس وإن كان فيه تفضيل بعضهم على بعض لمصلحة دينية لا هوى النفس كما فعل رسول الله غير مرة وهذا قول فقهاء الشام و أبي حنيفة و أحمد وغيرهم وعلى هذا فقد قيل: إنه ينفل الربع والثلث بشرط وغير شرط وينفل الزيادة على ذلك الشرط مثل أن يقول: من دلني على قلعة فله كذا ومن جاء برأس فله كذا ونحو ذلك وقيل: لا ينفل زيادة على الثلث ولا ينفله إلا بالشرط وهذان قولان لأحمد وغيرهن وكذلك - على القول الصحيح - للإمام أن يقول: من اخذ شيئا فهو له كما روى أن النبي كان قد قال ذلك في غزة بدر إذا رأي ذلك مصلحة راجحة على المفسدة

وإذا كان الإمام يجمع الغنائم ويقسمها لم يجز لأحد أن يغل منها شيئا {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} فإن الغلول خيانة ولا تجوز النهبة فإن النبي نهى عنها فإذا ترك الإمام الجمع والقسمة وأذن في الأخذ إذنا جائزا فمن أخذ شيئا بلا عدوان حل له بعد تخميسه وكل ما دل على الإذن فهو إذن وأما إذا لم يأذن أو أذن إذنا غير جائز جاز للإنسان أن يأخذ مقدار ما يصيبه بالقسمة متحريا للعدل في ذلك

ومن حرم على المسلمين جمع المغانم والحال هذه وأباح الإمام أن يفعل فيها ما يشاء فقد تقابل القولان تقابل الطرفين ودين الله وسط والعدل في القسمة: أن يقسم للراجل سهم وللفارس ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه هكذا قسم النبي عام خيبر ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ولأن الفرس يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه - ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة راجلين - ومنهم من يقول: يسور بين الفرس العرب والهجين في هذا ومنهم من يقول: بل الهجين يسهم له سهم واحد كما روى عن النبي وأصحابه والفرس الهجين الذي تكون أمه نبطية - ويسمى البرذون - وبعضهم يسميه التتري سواء كان حصانا أو خصيا ويسمى الإكديش أو رمكة وهي الحجر كان السلف يعدون للقتال الحصان لقوته وحدته وللإغارة والبيات الحجر لأنه ليس لها صهيل ينذر العدو فيحترزون وللسير الخصي لأنه أصبر على السير

وإذا كان المغنوم مالا - قد كان للمسلمين قبل ذلك من عقار أو منقول وعرف صاحبه قبل القسمة - فإنه يرد إليه بإجماع المسلمين وتفاريع المغانم وأحكامها فيها آثار وأقوال اتفق المسلمون على بعضها وتنازعوا في بعض ذلك ليس هذا موضعها وإنما الغرض ذكر الجمل الجامعة

وأما الصدقات فهي لمن سمى الله تعالى في كتابه فقد روى عن النبي : أن رجلا سأله من الصدقة فقال: [ إن الله لم يرض في الصدقة بقسم نبي ولا غيرهن ولكن جزاها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك ]

( فالفقراء والمساكين ) يجمعها معنى الحاجة إلى الكفاية فلا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ( والعاملين عليها ) هم الذين يجبونها ويحفظونها ويكتبونها ونحو ذلك ( والمؤلفة قلوبهم ) سنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في مال الفيء ( وفي الرقاب ) يدخل فيه إعانة المكاتبين وافتداء الأسرى وعتق الرقاب هذا أقوى الأقوال فيها ( والغارمين ) هم الذين عليهم ديون لا يجدون وفاءهان فيعطون وفاء ديونهم ولو كان كثيرا إلا أن يكونوا غرموه في معصية الله تعالى فلا يعطون حتى يتوبوا ( وفي سبيل الله ) وهم الغزاة الذين لا يعطون من مال الله ما يكفيهم لغزوهم فيعطون ما يغزون به أو تمام ما يغزون به من خيل وسلاح ونفقة وأجرة والحج من سبيل الله كما قال النبي ( وابن السبيل ) هو المجتاز من بلد إلى بلد

وأما الفيء فأصله ما ذكره الله تعالى في سورة الحشر التي أنزلها الله في غزة بني النضير بعد بدر من قوله تعال {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب * للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}

ومعنى قوله {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} أي ما حركتم ولا سقتم خيلا ولا إبلا ولهذا قال الفقهاء: إن الفيء هو ما أخذ من الكفار بغير قتال لأن إيجاف الخيل والركاب هو معنى القتال وسمي فيئا لأن الله أفاءه على المسلمين أي رده عليهم من الكفار فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته فالكافرون به أباح أنفسهم التي لم يعبدوه بها وأموالهم التي لم يستعينوا بها على عبادته لعباده المؤمنين الذين يعبدونه وأفاء إليهم ما يستحقونه كما يعاد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يكن قبضه قبل ذلك وهذا مثل الجزية التي على اليهود والنصارى والمال الذي يصالح عليه العدو أو يهدونه إلى سلطان المسلمين الحمل الذي يحمل من بلاد النصارى ونحوه وما يؤخذ من تجار أهل الحرب وهو العشر ومن تجار أهل الذمة إذا اتجروا من غير بلادهم وهو نصف العشر

هكذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ وما يأخذ من أموال من ينقض العهد منهم والخراج الذي كان مضربا في الأصل عليهم وإن كان قد صار بعضه على بعض المسلمين

ثم إنه يجتمع من الفيء جميع الأموال السلطانية التي لبيت مال المسلمين: كالأموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين وكالغصوب والعواري والودائع التي تعذر معرفة أصحابها وغير ذلك من أموال المسلمين العقار والمنقول فهذا ونحوه مال المسلمين وإنما ذكر الله تعالى في القرآن الفيء فقط لأن النبي ما كان يموت على عهده ميت إلا وله وارث معين لظهور الأنساب في أصحابه وقد مات مرة رجل من قبيلة فدفع ميراثه إلى أكبر تلك القبيلة أي أقربهم نسبا إلى جدهم وقد قال بذلك طائفة من العلماء كأحمد في قول منصوص وغيره ومات رجل لم يخلف إلا عتيقا له فدفع ميراثه إلى عتيقه وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم ودفع ميراث رجل إلى رجل من أهل قريته وكان هو وخلفاءه يتوسعون في دفع ميراث الميت إلى من بينه وبينه نسب كما ذكرناه

ولم يكن يأخذ من المسلمين إلا الصدقات وكان يأمرهم أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم كما أمر الله به في كتابه

ولم يكن للأموال المقبوضة والمقسومة ديوان جامع على عهد رسول الله وأبي بكر رضي الله عنه كثر المال واتسعت البلاد وكثر الناس فجعل ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم وديوان الجيش - في هذا الزمان - مشتمل على أكثره وذلك الديوان هو أهم دواوين المسلمين

وكان للأمصار دواوين الخراج والفيء وما يقبض من الأموال وكان النبي وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير ذلك فصارت الأموال في هذا الزمان وما قبله ثلاثة أنواع: نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع كما ذكرناه ونوع يحرم أخذه بالإجماع كالجنايات التي تؤخذ من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم وإن كان له وارث أو على حد ارتكب - وتسقط عنه العقوبة بذلك وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقا ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم - وليس بذي فرض ولا عصبة - ونحو ذلك

وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما لا يحل وهؤلاء يمنعون ما يجب كما قد يتظالم الجند والفلاحون وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ويكنز الولاة من مال الله مما لا يحل كنزه وكذلك العقوبات على أداء الأموال فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب وقد يفعل ما لا يحل

والأصل في ذلك: أن كل من عليه مال يجب أداؤه كرجل عنده وديعة أو مضارة أو شركة أو مال لموكله أو مال يتيم أو مال وقف أو مال لبيت المال أو عنده دين هو قادر على أدائه فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب من عين أو دين وعرف أنه قادر على أدائه فإنه يستحق العقوبة حتى يظهر المال - أو يدل على موضعه - فإذا عرف المال وصير في الحبس فإنه يستوفي الحق من المال ولا حاجة إلى ضربه به وإن امتنع من الدلالة على مال ومن الإيفاء ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه وكذلك لو امتنع من أداء النفقة الواجبة عليه مع القدرة عليها لما روى عمر بن الشريد عن أبيه عن النبي أنه قال [ لي الواجد يحل عرضه عقوبته ] رواه أهل السنن وقال [ مطل الغني ظلم ] أخرجاه في الصحيحين واللي هو المطل والظالم يستحق العقوبة والتعزير وهذا أصل متفق عليه: أن كل من فعل محرما أو ترك واجبا استحق العقوبة فإن لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيرا يجتهد فيه ولي الأمر فيعاقب الغني المماطل بالحبس فإن أصر عوقب بالضرب حتى يؤدي الواجب وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم رضي الله عنهم ولا أعلم فيه خلافا

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي لما صالح أهل خيبر على الصفراء والبيضاء والسلاح سأل بعض اليهود وهو سعية عم حيي بن أخطب عن كنز مال حيي بن أخطب فقال أذهبته النفقات والحروب فقال ك [ العهد قريب والمال أكثر من ذلك ] فدفع النبي سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة وهذا الرجل كان ذميا والذمي لا تحل عقوبته إلا بحق وكذلك كل من كتم ما يجب إظهاره من دلالة واجبة ونحو ذلك يعاقب على ترك الواجب

وما أخذ ولاة الأموال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق فلولي الأمر العادل استخراجه منهم كالهدايا التي يأخذونها بسبب العمل قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هدايا العمال غلول وروى إبراهيم الحربي - في كتاب الهدايا - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: [ هدايا الأمراء غلول ] وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل النبي رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي : [ ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يجمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ ثلاثا ]

وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك من الهداية ولهذا شاطر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله من كان له فضل ودين لا يتهم بخيانة وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها وكان الأمر يقتضي ذلك لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية فلما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ويترك ما حرم عليه ولا يحرم عليه ما أباح الله له

وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهداية ونحوها ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم ويترك ما أوجبه الله من قضاء حوائجهم فيكون من اخذ منهم عوضا على كف ظلم وقضاء حاجة مباحة أحب إليهم من هذا فإن الأول قد باع آخرته بدنيا غيره وأخسر الناس صفقة من باع آخرته بدنيا غيره وإنما الواجب كف الظلم عنهم بحسب القدرة وقضاء حوائجهم التي لا تتم مصلحة الناس إلا بها من تبليغ ذي السلطان حاجاتهم وتعريفه بأمورهم ودلالته على مصالحهم وصرفه عن مفاسدهم بأنواع الطرق اللطيفة وغير اللطيفة كما يفعل ذوو الأغراض من الكتاب ونحوهم في أغراضهم ففي حديث هند بن أبي هالة رضي الله عنه عن النبي أنه كان يقول: [ أبلغوني حاجة من لا يستطيق إبلاغها فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ]

وقد روى الإمام أحمد و أبو داود في سننه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له عليها هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا ] وروى إبراهيم الحربي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل فيقضي له فيهدى إليه فيقبلها وروى أيضا عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى له صاحبها وصيفا فرده عليه وقال: سمعت ابن مسعود يقول: من رد عن مسلم مظلمة فرزأه عليها قليلا أو كثيرا فهو سحت فقلت: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذاك كفر

فأما إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منهما ظالم كلص سرق من لصن وكالطائفتين المقتتلتين على عصبية ورئاسة ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم فإن التعاون نوعان :

الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين فهذا مما أمر الله به ورسوله ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك

والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه لله ورسوله

نعم إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق وقد تعذر ردها إلى أصحابها ككثير من الأموال السلطانية فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين كسداد الثغور ونفقة المقاتلة ونحو ذلك من الإعانة على البر والتقوى إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال - إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم - أن يصرفها - مع التوية إن كان هو الظالم - إلى مصالح المسلمين هذا هو قول جمهور العلماء كمالك و أبو حنيفة و أحمد وهو منقول عن غير واحد من الصحابة وعلى ذلك دلت الأدلة الشرعية كما هو منصوص في موضع آخر

وإن كان غيره قد أخذها فعليه هو أن يفعل بها ذلك وكذلك لو امتنع السلطان من ردها كانت الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين فإن مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وهي مبينة لقوله {اتقوا الله حق تقاته} وعلى قول النبي : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] أخرجاه في الصحيحين

وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها وتبطيل المفاسد وتقليلها فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناها هو المشروع

والمعين على الإثم والعدوان من أعان الظالم على ظلمه أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه أو على المظلمة فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم مثال ذلك ولي اليتيم والوقف إذا طلب ظالم منه مالا فاجتهد في دفع ذلك - بمال أقل منه إليه - أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع فهو محسن وما على المحسنين من سبيل

وكذلك وكيل المالك من المتأدبين والكتاب وغيرهم الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم لا يتوكل للظالمين في الأخذ

كذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان وقسطها بينهم على قدر طاقتهم من غير محاباة لنفسه ولا لغيره ولا ارتشاء توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء كان محسنا

لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذي يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم ثم يقذفون في النار

وأما المصارف فالواجب: أن يبتدئ في القسمة بالأهم فالأهم من مصالح المسلمين كعطاء من يحصل للمسلمين به منفعة عامة

فمنهم المقاتلة: الذين هم أهل النصرة والجهاد وهم أحق الناس بالفيء فإنه لا يحصل إلا بهم حتى اختلف الفقهاء في مال الفيء: هل هو مختص بهم أو مشترك في جميع المصالح ؟ وأما سائر الأموال السلطانية فلجميع المصالح وفاقا إلا ما خص به نوع كالصدقات والمغنم

ومن المستحقين ذوو الولايات عليهم كالولاة والقضاة والعلماء والسعاة على المال جمعا وحفظا وقسمة ونحو ذلك حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك

وكذا صرفه في الأثمان والأجور لما يعم نفعه من سداد والثغور بالكراع والسلاح وعمارة ما يحتاج إلى عمارته من طرقات الناس كالجسور والقناطر وطرقات المياه كالأنهار

ومن المستحقين: ذوو الحاجات فإن الفقهاء قد اختلفوا هل يقدمون في غير الصدقات من الفيء ونحوه على غيره ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره منهم من قال: يقدمون ومنهم من قال: المال استحق بالإسلام فيشتركون فيه كما يشترك الورثة في الميراث والصحيح أنهم يقدمون فإن النبي كان يقدم ذوي الحاجات كما قدمهم في مال بني النضير وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليس أحد أحق بهذا المال من أحد إنما هو الرجل وسابقته والرجل وغناؤه والرجل وبلاؤه والرجل وحاجته فجعلهم عمر رضي الله عنه أربعة أقسام :

(الأول) ذوو السوابق الذين بسابقتهم حصل المال

(الثاني) من يغني عن المسلمين في جلب المنافع له كولاة الأمور والعلماء الذين يجعلون لهم منافع الدين والدنيا

(الثالث) من يبلي بلاء حسنا في دفع الضرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الأجناد والعيون من القصاد والناصحين ونحوهم

(الرابع) ذوو الحاجات

واذا حصل من هؤلاء متبرع فقد أغنى الله به وإلا أعطي ما يكفيه أو قدر عمله وإذا عرفت أن العطاء يكون بحسب منفعة الرجل وبحسب حاجته في مال المصالح وفي الصدقات أيضا فما زاد على ذلك لا يستحقه الرجل إلا كما يستحقه نظراؤه مثل أن يكون شريكا في غنيمة أو ميراث

ولا يجوز للإمام أن يعطي أحدا مالا يستحقه لهوى نفسه من قرابة بينهما أو مودة ونحو ذلك فضلا عن أن يعطيه لأجل منفعة محرمة منه كعطية المخنثين من الصبيان المردان الأحرار والمماليك ونحوهم والبغايا والمغنين والمساخر ونحو ذلك أو إعطاء العرافين من الكهان والمنجمين ونحوهم

لكن يجوز - بل يجب - الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه وإن كان هو لا يحل له أخذ ذلك كما أباح الله تعالى في القرآن العطاء للمؤلفة قلوبهم من الصدقات وكما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم من الفيء ونحوه وهم السادة المطاعون في عشائرهم كما كان النبي يعطي الأقرع بن حابس سيد بني تميم وعيينة بن حصن سيد بني فزارة وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان وعلقمة ابن عاثة العامري سيد بني كلاب ومثل سادات قريش من الطلقاء كصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمر والحارث بن هشام وعدد كثير ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي وهو باليمن بذهبية بتربتها إلى رسول الله فقسمها رسول الله بين أنفر: والأقرع بن حابس الحنظلي وعيينة بن حصن الفزاري وعلقمة ابن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي أحد بني نبهان

قال: فغضبت قريش والأنصار فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله : [ إني إنما فعلت ذلك لتألفهم ] فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس فقال: اتق الله يا محمد. فقال رسول الله : [ فمن يطع الله إن عصيته؟ أيأمنني أهل الأرض ولا تأمنوني؟ ]

قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم في قتلهن ويرون أنه خالد بن الوليد فقال رسول الله : [ إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ]

وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة ابن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس ذلك فقال عباد بن مرداس :

( أتجعل نهبي ونهب العبـ ... يد بين عيينة والأقرع )

( وما كان حصن ولا حابس يفو ... قان مرداس في المجمع )

( وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع )

قال: فأتم له رسول الله مائة رواه مسلم و العبيد اسم فرس له

والمؤلفة قلوبهم نوعان: كافر ومسلم فالكافر: إما أن ترجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا كحسن إسلامه أو إسلام نظيره أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك

وهذا النوع من العطاء وإن كان ظاهره إعطاء الرؤساء وترك الضعفاء كما يفعل الملوك فالأعمال بالنيات فإذا كان قصد بذلك مصلحة الدين وأهله كان من جنس عطاء النبي وخلفائه وإن كان المقصود العلو في الارض والفساد كان من جنس عطاء فرعون وإنما ينكره ذوو الدين الفاسد كذي الخويصرة الذي أنكره على النبي حتى قال فيه ما قال وكذا حزبه الخوارج أنكروا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما قصد به المصلحة من التحكيم ومحو اسمه وما تركه من سبي نساء المسلمين وصبيانهم

وهؤلاء أمر النبي بقتالهم لأن معهم دين فاسدا لا يصلح به دنيا ولا آخره وكثيرا ما يشتبه الورع الفاسد بالجبن والبخل فإن كلاهما فيه ترك فيشتبه ترك الفساد لخشية الله تعالى بترك ما يؤمر به من الجهاد والنفقة جبنا وبخلا وقد قال النبي : [ شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع ] قال الترمذي: حديث صحيح

كذلك قد يترك الإنسان العمل ظنا أو إظهارا أنه ورع وإنما هو كبر وإرادة للعلو وقول النبي : [ إنما الأعمال بالنيات ] كلمة جامعة كاملة فإن النية للعمل كالروح للجسد وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتهما واحدة ثم هذا أقرب الخلق إلى الله تعالى وهذا أبعد الخلق عن الله وقد قال الله تعالى: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} وفي الأثر أفضل الإيمان: السماحة والصبر فلا يتم رعابة الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء والنجدة التي هي الشجاعة بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك ولهذا كان من لا يقوم بهما سلبه الأمر ونقله إلى غيره كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير} وقال تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} وقد قال الله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} فعلق الأمر بالإنفاق الذي هو السخاء والقتال الذي هوالشجاعة وكذلك قال الله تعالى في غير موضع: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وبين أن البخل من الكبائر في قوله تعالى: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} وفي قوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} الآية وكذلك الجبن في مثل قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} وفي قوله تعالى: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} وهو كثير في الكتاب والسنة وهو مما تفق عليه أهل الأرض حتى إنهم يقولون في الأمثال العامية: لا طعنة ولا جفنة ويقولون: لا فارس الخيل ولا وجه العرب

ولكن افترق الناس هنا ثلاث فرق: فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد فلم ينظروا في عاقبة المعاد ورأوا أن السلطان لا يقوم إلا بعطاء وقد لا يتأتى العطاء إلا باستخراج أموال من غير حلها فصاروا فهابين وهابي وهؤلاء يقولون: لا يمكن أن يتولى على الناس إلا من يأكل ويطعم فإنه إذا تولى العفيف الذي لا يأكل ولا يطعم سخط عليه الرؤساء وعزلوه إن لم يضروه في نفسه وماله وهؤلاء نظروا في عاجل دنياهم وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرتهم فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة إن لم يحصل له ما يصلح عاقبتهم من توبة ونحوها

وفريق عندهم خوف من الله تعالى ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق وفعل المحارم فهذا حسن واجب ولكن قد يعتقدون مع ذلك: أن السياسة لا تتم إلا بما يفعله أولئك من الحرام فيمنعون عنها مطلقا وربما كان في نفوسهم جبن أو بخل أو ضيق خلق بنضم إلى ما معهم من الدين فيقعون أحيانا في ترك واجب يكون تركه أضر عليهم من بعض المحرمات أو يقعون في النهي عن واجب يكون النهي عنه من الصد عن سبيل الله وقد يكونون متأولين وربما اعتقدوا أن إنكار ذلك واجب ولا يتم إلا بالقتال فيقاتلون المسلمين كما فعلة الخوارج وهؤلاء لا تصلح بهم الدنيا ولا الدين الكامل لكن قد يصلح بهم كثير من أنواع الدين وبعض أمور الدنيا وقد يعفى عنهم فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا ويغفر لهم قصورهم وقد يكونون من الأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدينا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذه طريقة من لا يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره ولا يرى أنه يتألف الناس من الكبار والفجار لا بمال ولا بنفع ويرى أن إعطاء المؤلفة قلوبهم من نوع الجور والعطاء المحرم

الفريق الثالث: الأمة الوسط وهم ( أهل ) دين محمد وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة وهو إنفاق المال والمنافع للناس - وإن كانوا رؤساء - بحسب الحاجة إلى صلاح الأحوال ولإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين وعفته في نفسه فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والإحسان {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}

ولا تتم السياسة الدينية إلا بهذا ولا يصلح الدين والدنيا إلا بهذه الطريقة

وهذا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إليه إلى طعامه ولا يأكل هو إلا الحلال الطيب ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه والأولون فإن الذي يأخذ لنفسه تطمع فيه النفوس ما لا تطمع في العفيف ويصلح به الناس في دينهم ما لا يصلحون بالثاني فإن العفة مع القدرة تقوى حرمة الدين وفي الصحيحين عن أبي سفيان بن حرب أن هرقل ملك الروم قال له عن النبي : بماذا يأمركم ؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة - وفي الأثر: أن الله أوحى إلى إبراهيم الخليل عليه السلام: يا إبراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا ؟ لأني رأيت العطاء أحب إليك من الأخذ هذا الذي ذكرناه في الرزق والعطاء الذي هو السخاء وبذل المنافع نظيره في الصبر والغضب الذي هو الشجاعة ودفع المضار

إن الناس ثلاثة أقسام: قسم يغضبون لنفوسهم ولربهم وقسم لا يغضبون لنفوسهم ولا لربهم والثالث - وهو الوسط - أن يغضب لا لنفسه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله بيده: خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمات الله فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله

فأما من يغضب لنفسه لا لربه أو يأخذ لنفسه ولا يعطي غيره فهذا القسم الرابع شر الخلق لا يصلح بهم دين ولا دنيا

كما أن الصالحين أرباب السياسة الكاملة هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ويغضبون لربهم إذا انتهكت محارمه ويعفون عن حظوظهم وهذا أخلاق رسول الله صلى عليه وسلم في بذله ودفعه وهي أكمل الأمور

وكلما كان إليها أقرب كان أفضل فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهد ويستغفر الله بعد ذلك من قصوره أو تقصيره بعد أن يعرف كمال ما بعث الله تعالى به محمدا من الدين فهذا في قول الله سبحانه وتعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} والله أعلم

وأما قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} فإن الحكم بين الناس يكون في الحدود والحقوق وهما قسمان:

فالقسم الأول الحدود والحقوق التي ليست لقوم معينين بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم وكلهم محتاج إليها وتسمى حدود الله وحقوق الله مثل: حد قطاع الطريق والسراق والزناة ونحوهم ومثل: الحكم في الأمور السلطانية والوقوف والوصايا التي ليست لمعين فهذه من أهم أمور الولايات ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال يقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء

وهذا القسم يجب على الولاة البحث عنه وإقامته من غير دعوى أحد به وأن كان الفقهاء قد اختلفوا في قطع يد السارق: هل يفتقر إلى مطالبة المسروق بماله ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره لكنهم يتفقون على أنه لا يحتاج إلى مطالبة المسروق وقد اشترط المطالبة بالمال لئلا يكون للسارق فيه شبهة

وهذا القسم يجب إقامته على الشريف والوضيع والضعيف ولا يحل تعطيله لا بشفاعة ولا بهدية ولا بغيرها ولا تحل الشفاعة فيه ومن عطله لذلك - وهو قادر على إقامته - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وهو ممن اشترى بآيات الله ثمنا قليلا روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : [ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم دين ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال قيل يا رسول الله: وما ردعة الخبال ؟ قال عصارة أهل النار ] فذكر النبي الحكام والشهداء والخصماء وهؤلاء أركان الحكم

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله: [ أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد قال: يا أسامة: أتشفع في حد من حدود الله ؟ إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ] ففي هذه القصة عبرة فإن أشرف بيت كان في قريش بطنان: بنو مخزوم وبنو عبد مناف فلما وجب على هذه القطاع بسرقتها التي هي جحود العارية على قول بعض العلماء أو سرقة أخرى - غير هذه - على قول آخرين وكانت ( من ) أكبر القبائل وأشرف البيوت وشفع فيها حب رسول الله أسامة غضب رسول الله فأنكر عليه دخوله فيما حرمه الله وهو الشفاعة في الحدود ثم ضرب المثل بسيدة نساء العالمين - وقد برأها الله من ذلك - فقال: [ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ]

قد روى: أن هذه المرأة التي قطعت يدها تابت وكانت تدخل بعد ذلك على النبي فيقضي حاجتها فقد روى: [ أن السارق إذا تاب سبقته يده إلى الجنة وإن لم يتب سبقته يده إلى النار ] وروى مالك في الموطأ أن جماعة أمسكوا لصا ليرفعوه إلى عثمان رضي الله فتلقاهم الزبير فشفع فيه فقالوا: إذا رفع إلى عثمان فاشفع فيه عنده فقال: إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع يعني الذي يقبل الشفاعة [ وكان صفوان بن أمية نائما على رداء له في مسجد رسول الله فجاء لص فسرقه فأخذه فأتي به النبي فأمر بقطع يده فقال: يا رسول الله أعلى ردائي تقطع يده ؟ أنا أهبه له فقال: فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ثم قطع يده ] رواه أهل السنن يعني أنك لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به لكان فأما بعد أن رفع إلي فلا يجوز تعطيل الحد لا بعفو ولا بشفاعة ولا بهبة ولا غير ذلك ولهذا اتفق العلماء - فيما أعلم - على أن قاطع الطريق واللص ونحوهما إذا رفعوا إلى ولي الأمر ثم تابوا بعد ذلك لم يسقط الحد عنهم بل تجب إقامته وإن تابوا، فإن كانوا صادقين في التوبة كان الحد الكفارة لهم وكان تمكينهم - وذلك من تمام التوبة - بمنزلة رد الحقوق إلى أهلها والتمكين من استيفاء القصاص في حقوق الآدميين وأصل هذا في قوله تعالى: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا} فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى تصير معه شفعا بعد أن كان وترا فإن أعانه على بر وتقوى كانت شفاعة حسنة وإن أعانه على إثم وعدوان كانت شفاعة سيئة

والبر ما أمرت به والإثم ما نهيت عنه وإن كانوا كاذبين فإن الله لا يهدي كيد الخائنين

وقد قال الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فاستثنى التائبين قبل القدرة عليهم فقط فالتائب بعد القدرة عليه باق فيمن وجب عليه الحد للعموم والمفهوم والتعليل هذا إذا كان قد ثبت بالبينة فأما إذا كان بإقرار وجاء مقرا بالذنب تائبا فهذا فيه نزاع مذكور في غير هذا الموضع وظاهر مذهب أحمد: أنه لا تجب إقامة الحد في مثل هذه الصورة بل إن طلب إقامة الحد عليه أقيم وإن ذهب لم يقم عليه حد وعلى هذا حمل حديث ماعز بن مالك لما قال: [ فهلا تركتموه ] وحديث الذي قال [ أصبت حدا فأقمه ] مع آثار أخر وفي سنن أبي داود و النسائي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب ] وفي سنن النسائي و ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: [ حد يعمل به الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحا ] وهذا لأن المعاصي سبب لنقصان الرزق والخوف من العدو كما يدل عليه الكتاب والسنة فإذا أقيمت الحدود ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى فحصل الرزق والنصر

ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود ولا بيت المال ولا لغيره وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين أحدهما: تعطيل الحد والثاني أكل السحت فترك الواجب وفعل المحرم قال الله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} وقال الله تعالى عن اليهود: {سماعون للكذب أكالون للسحت} لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ومتى أكل السحت ولي الأمر احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها وقد روى [ لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش الواسطة الذي يمشي بينهما ] رواه أهل السنن

وفي الصحيحين: [ أن رجلين اختصما إلى النبي فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله: اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي فقال: إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا - فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإن رجالا من أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فاسألها فإن اعترفت فارجمها فسألها فاعترفت فرجمها ] ففي هذا الحديث أنه لما بذل عن المذنب هذا المال لدفع الحد عنه أمر النبي بدفع المال إلى صاحبه وأمر بإقامة الحد ولم يأخذ المال للمسلمين: من المجاهدين والفقراء وغيرهم وقد أجمع المسلمون على أن تعطيل الحد بمال يؤخذ أو غيره لا يجوز وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني والسارق والشارب والمحارب وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد مال سحت خبيث

وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد بمال أوجاه وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ويمن وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأعيانهم وفقرائهم وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم وهو سبب سقوط حرمة المتولى وسقوط قدره من القلوب وانحلال أمره فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حد آخر وصار من جنس اليهود الملعونين وأصل البرطيل هو الحجر الطويل كما قد جاء في الأثر إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك مثل السحت الذي يسمى التأديبات ألا ترى أن الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ثم جاءوا إلى ولي الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له أو غير ذلك كيف يقوي طمعهم في الفساد وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة وتفسد الرعية

وكذلك الفلاحون وغيرهم وكذلك شارب الخمر إذا أخذ فدفع بعض ماله: كيف يطمع الخمارون فيرجون إذا أمسكوا أن يقدموا بعض أموالهم فيأخذها ذلك الوالي سحتا

وكذلك ذوو الجاه إذا أحموا أحدا أن يقام عليه ( الحد ) مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير فيحمي على الله ورسوله فيكون ذلك حماه ممن لعنه الله ورسوله فقد روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين فقه لعنه الله ورسوله وإذا كان النبي قد قال: [ إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ] فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه لا سيما الحدود على سكان البر فإن من أعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه أو مال سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرا أو علانية فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين وهو مثل تضمين الخانات والخمر فإن من مكن من ذلك أو أعان أحدا عليه بمال يأخذه منه فهو من جنس واحد

والمال المأخوذ على هذا شبيه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وأجره المتوسط في الحرام الذي يسمى القواد قال النبي : [ ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وحلوان الكاهن خبيث ] رواه البخاري

فمهر البغي الذي يسمى حدور القحاب وفي معناه ما يعطاه المخنثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ونحو ذلك

وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال تعالى {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها} فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهذا هو مقصود الولاية فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد له في سبيل الله فقال به المسلمين يوضح ذلك أن صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس قال الله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} وقال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقال تعالى عن بني إسرائيل: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} وقال تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} فأخبر الله تعالى أن العذاب لما نزل نجى الذين ينهون عن السوء وأخذ الظالمين بالعذاب الشديد وفي الحديث الثابت: أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله فقال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وإني سمعت رسول الله يقول: [ إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ] وفي حديث آخر: [ إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا ظهرت فلم تنكر أضرت العامة ]

وهذا القسم الذي ذكرناه من الحكم في حدود الله وحقوقه ومقصوده الأكبر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالأمر بالمعروف مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج والصدقة والأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن العشرة مع الأهل والجيران ونحو ذلك فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره ويعاقب التارك بإجماع المسلمين فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة والصيام وغيرهما وعلى استحلال ما كان من المحرمات الظاهرة المجمع عليها كنكاح ذوات المحارم والفساد في الأرض ونحو ذلك فكل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها حتى يكون الدين كله لله باتفاق العلماء وإن كان التارك للصلاة واحدا فقد قيل: إنه يعاقب بالضرب والحبس حتى يصلي وجمهور العلماء على أنه يجب قتله إذا امتنع من الصلاة بعد أن يستتاب فإن تاب وصلى وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مسلما فاسقا ؟ فيه قولان وأكثر السلف على أنه يقتل كافرا وهذا كله مع الإقرار بوجوبها أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وكذلك من جحد سائر الواجبات وفعل المحرمات هو مقصود الجهاد في سبيل الله وهو واجب على الأمة باتفاق كما دل عليه الكتاب والسنة وهو من أفضل الأعمال [ قال رجل: يارسول الله دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيعه أو لا تطيقه قال: أخبرني به ؟ قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر ؟ قال: ومن يستطيع ذلك ؟ قال: فذلك الذي يعدل الجهاد في سبيل الله ] وقال: [ إن الجنة لمئة درجة بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] كلاهما في الصحيحين

وقال النبي : [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ] وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم}

من ذلك عقوبة المحاربين وقطاع الطريق الذين يعترضون الناس في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة من الأعراب والتركمان والأكراد والفلاحين وفسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم قال الله تعالى فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وقد روى الشافعي رحمه الله في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه - في قطاع الطريق -: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض وهذا قول كثير من أهل العلم كالشافعي و أحمد وهو قريب من قول أبي حنيفة رحمه الله ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيها ويقطع من رأى مصلحة وإن كان لم يأخذ المال مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتلوا وقطعوا وصلبوا والأول قول الأكثر فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدا لا يجوز العفو عنه بحال بإجماع العلماء ذكره ابن المنذر ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما أو خصومة أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة فإن هذا دمه لأولياء المقتول إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس فضررهم عام بمنزلة السراق فكان قتلهم حد الله وهذا متفق عليه بين الفقهاء حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل مثل أن يكون القاتل حرا والمقتول عبدا أو القاتل مسلما والمقتول ذميا أو مستأمنا فقد اختلف الفقهاء هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل لأنه قتل للفساد العام حدا كما يقطع إذا أخذ أموالهم وكما يحبس بحقوقهم وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة وأن الردء والمباشر سواء وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ربيئة المحاربين والربيئة هو الناظر الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين فإن النبي قال: [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ويرد متسريهم على قاعدتهم ]

يعني أن جيش المسلمين إذا تسرت منه سرية فغنمت مالا فإن الجيش يشاركها فيها غنمت لأنها بظهره وقوته تمكنت لكن تنفل عنه نفلا فإن النبي كان ينفل السرية إذا كانوا في بدايتهم الربع بعد الخمس وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية لأنها في مصلحة الجيش كما قسم النبي لطلحة والزبير يوم بدر لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها فيما لهم وعليهم - وهكذا المقتتلون على باطل - لا تأويل فيه مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما هما ظالمتان كما قال النبي : [ إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله: هذا القاتل فم بال المقتول ؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه ] أخرجاه في الصحيحين وتضمن طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراف كثيرا - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء كأبي حنيفة و أحمد وغيرهم وهذا معنى قول الله تعالى: {أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف} تقطع اليد التي يبطش بها والرجل التي يمشي عليها وتحسم يده بالزيت المغلي ونحوه لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه وكذلك تحسم يد السارق بالزيت

وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل ذكروا بذلك جرمه فارتدعوا بخلاف القتل فإنه قد ينسى وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف فيكون هذا أشد تنكيلا له ولأمثاله وإذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا ثم أغمدوه وأو هربوا أو تركوا الحرب فإنهم ينفون قيل: نفيهم تشريدهم فلا يتركون يأوون في بلد وقيل: هو حبسهم وقيل هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك

والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه لأن ذلك أوحى أنواع القتل وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه وقال النبي : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم وقال: إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم وهو بعد القتل عند جمهور العلماء ومنهم من قال: يصلبون ثم يقتلون وهم مصلبون

وقد جوز بعض العلماء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل: فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله خطبة إلى أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مافعلوا والترك أفضل كما قال الله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله} قيل إنها نزلت لما مثل المشركون بحمزة وغيره من شهداء أحد رضي الله عنهم فقال النبي : [ لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بضعفي ما مثلوا بنا ] فأنزل الله هذه الآية وإن كان قد نزلت قبل ذلك بمكة مثل قوله: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} وقوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} وغير ذلك من الآيات التي نزلت بمكة ثم جرى بالمدينة سبب يقتضي الخطاب فأنزلت مرة ثانية فقال النبي [ بل نصبر ] وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب رضي الله عنه قال: [ كان النبي إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أو في حاجة نفسه أوصاهم بتقوى الله تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا ثم يقول: اغزوا بسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولاتمثلوا ولا تقتلوا وليدا ]

ولو شهروا السلاح في البنيان - لا في الصحراء - لأخذ المال فقد قيل إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المختلس والمنتهب لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس وقال أكثرهم: عن حكمهم في البنيان والصحراء واحد وهذا قول مالك - في المشهور عنه - و الشافعي وأكثر أصحاب أحمد وبعض أصحاب أبي حنيفة بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله والمسافر لا يكون معه - غالبا - إلا بعض ماله وهذا هو الصواب لا سيما هؤلاء المحترفون الذين تسميهم العامة في الشام ومصر المنسر وكانوا يسمون ببغداد العيارين ولو حاربوا بالعصى والحجارة المقذوفة بالأيدي أو المقاليع ونحوها فهم محاربون أيضا وقد حكى عن بعض الفقهاء لا محاربة إلا بالمحدد وحكى بعضهم الإجماع: على أن المحاربة تكون بالمحدد والمثقل وسواء كان فيه خلاف أو لم يكن فالصواب الذي عليه جماهير المسلمين أن من قاتل على أخذ المال بأي نوع كان من أنواع القتال فهو محارب قاطع كما أن من قاتل المسلمين من الكفار بأي نوع كان من أنواع القتل فهو حربي ومن قاتل الكفار من المسلمين بسيف أو رمح أو سهم أو حجارة أو عصي فهو مجاهد في سبيل الله وأما إذا كان يقتل النفوس سرا لأخذ المال مثل الذي يجلس في خان يكريه لأبناء السبيل فإذا انفرد بقوم منهم قتلهم وأخذ أموالهم أو يدعوا إلى منزلة من يستأجره لخياطة أو طبيبا أو نحو ذلك فيقتله ويأخذ ماله وهذا يسمى القتل غيلة ويسميهم بعض العامة المعرجين فإذا كان أخذ المال فهل هم كالمحاربين أو يجري عليه حكم القود ؟ ففيه قولان للفقهاء :

أحدهما: أنهم كالمحاربين لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة كلاهما لا يمكن الاحتراز منه بل قد يكون ضرر هذا أشد لأنه لا يدري به

واختلف الفقهاء أيضا فيمن يقتل السلطان كقتلة عثمان وقاتل علي رضي الله عنهما: هل هم كالمحاربين فيقتلون حدا أو يكون أمرهم إلى أولياء الدم - على قولين في مذهب أحمد وغيره - لأن في قتله فسادا عاما

وهذا كله إذا قدر عليهم فأما إذا طلبهم السلطان أو نوابه لإقامة الحد بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنه يجب على المسلمين قتالهم باتفاق العلماء حتى يقدر عليهم كلهم ومتى لم ينقادوا إلا بقتال يفضي إلى قتلهم كلهم قوتلوا وإن أفضى إلى ذلك سواء كانوا قد قتلوا أو لم يقتلوا ويقتلون في القتال كيفما أمكن في العنق وغيره ويقاتل من قاتل معهم ممن يحميهم ويعينهم فهذا قتال وذاك إقامة حد وقتال هؤلاء أوكد من قتل الطوائف الممتنعة عن شرائع الإسلام فإن هؤلاء قد تخربوا لفساد النفوس والأموال وهلاك الحرث والنسل ليس مقصودهم إقامة دين ولا ملك وهؤلاء كالمحاربين الذين إلى حصن أو مغارة أو رأس جبل أو بطن واد ونحو ذلك يقطعون الطريق على من مر بهم وإذا جاءهم جند ولي الأمر يطلبهم في الدخول في طاعة المسلمين والجماعة لإقامة الحدود قاتلوهم ودفعوهم مثل الأعراب الذين يقطعون الطريق على الحاج أو غيره من الطرقات أو الجبلية الذين يعتصمون برؤوس الجبال أو المغارات لقطاع الطريق وكالأحلاف الذين تحالفوا لقطع الطريق بين الشام والعراق ويسمون ذلك النهيضة فإنهم يقاتلون كما ذكرنا لكن قتالهم ليس بمنزلة قتال الكفار إذ لم يكونوا كفارا ولا تأخذ أموالهم إلا أن يكونوا أخذوا أموال الناس بغير حق فإن عليهم ضمانها فيأخذ منهم بقدر ما أخذوا وإن لم نعلم عين الآخذ وكذلك لو علم عينه فإن الردء والمباشرة سواء كما قلناه لكن إذا عرف عينه كان قرار الضمان عليه ويرد ما يؤخذ منه على أرباب الأموال فإن تعذر الرد عليهم كان لمصالح المسلمين من رزق الطائفة المقاتلة لهم وغير ذلك

بل المقصود من قتالهم التمكن منهم لإقامة الحدود ومنعهم من الفساد فإذا جرح الرجل منهم جرحا مثخنا لم يجهز عليه حتى يموت إلا أن يكون قد وجب عليهم القتل وإذا هرب وكفانا شره لم نتبعه إلا أن يكون عليه حد أو نخاف عاقبته ومن أسر منهم أقيم عليهم الحد الذي أقيم على غيره ومن الفقهاء من يشدد فيهم حتى يرى غنيمة أموالهم وتخميسها وأكثرهم يأبون ذلك فإما إذا تحيزوا إلى مملكة طائفة خارجة على شريعة الإسلام وأعانوهم على المسلمين قوتلوا لقتالهم وأما من كان لا يقطع الطريق ولكنه يأخذ خفارة أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو ذلك فهذا مكاس عليه عقوبة المكاسين

وقد اختلف الفقهاء في جواز قتله وليس هو من قطاع الطريق فإن الطريق لا ينقطع به مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة حتى قال النبي في الغامدية: [ لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ] ويجوز للمطلوبين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم قال النبي : [ من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ]

وهذا الذي تسميه الفقهاء الصائل وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية فإذا كان مطلوبه المال جاز منعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل وإن ترك القتال وأعطاهم شيئا من المال جاز وأما إن كان مطلوبة الحرمة - مثل أن يطلب الزنا بمحارم الزنا أو يطلب من المرأة أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به - فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن ولو بالقتال ولا يجوز التمكين منه بحال بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه لأن بذل المال جائز وبذلك الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان جاز له الدفع عن نفسه وهل يجب عليه ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وهذا إذا كان للناس سلطان وأما إذا كان - والعياذ بالله - فتنة مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين ويقتتلان على الملك فهل يجوز للإنسان إذا دخل أحدهما بلد الآخر وجرى السيف أن يدفع عن نفسه في الفتنة أو يستسلم فلا يقاتل فيها ؟ على قولين لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره فإذا ظفر السلطان بالمحاربين الحرامية - وقد أخذوا الأموال التي للناس - فعليه أن يستخرج منهم الأموال التي للناس ويردها عليهم مع إقامة الحد على أبدانهم وكذلك السارق فإن امتنعوا من إحضار المال بعد ثبوتهم عليهم عاقبهم بالحبس والضرب حتى يمكنوا من أخذه بإحضاره أو توكيل من يحضره أو الإخبار بمكانه كما يعاقب كل ممتنع عن حق وجب عليه أداؤه فإن الله قد أباح للرجل في كتابه أن يضرب امرأته إذا نشزت فامتنعت من الحق الواجب عليه حتى تؤديه فهؤلاء أولى وأحرى وهذه المطالبة والعقوبة حق لرب المال فإن أراد هبتهم المال أو المصالحة عليه أو العفو عليه فله ذلك بخلاف إقامة الحد عليه فإنه لا سبيل إلى العفو عنه بحال وليس للإمام أن يلزم رب المال بترك شيء من حقه

وإن كانت الأموال قد تلفت بالأكل وغيره عندهم أو عند السارق فقيل: يضمنونها لأربابها كما يضمن سائر الغارمين وهو قول الشافعي و أحمد رضي الله عنهما وتبقى مع الإعسار في ذمتهم إلى ميسرة وقيل: لا يجتمع الغرم والقطع وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقيل: يضمنونها مع اليسار فقط دون الإعسار وهو قول مالك رحمه الله ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلا على طلب المحاربين وإقامة الحد وارتجاع أموال الناس منهم ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى البيكار

وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة فإن كان لهم إقطاع أو عطاء يكفيهم وإلا أعطاهم تمام كفاية غزوهم من مال المصالح من الصدقات فإن هذا من سبيل الله فإن كان على أبناء السبيل المأخوذين زكاة مثل التجار الذين قد يؤخذون فأخذ الإمام زكاة أموالهم وأنفقها في سبيل الله كنفقة الذين يطلبون المحاربين ولو كانت لهم شوكة قوية تحتاج إلى تأليف فأعطى الإمام من الفيء والمصالح أو الزكاة لبعض رؤساهم يعينهم على إحضار الباقين أو لترك شره فيضعف الباقون ونحو ذلك جاز وكان هؤلاء من المؤلفة قلوبهم وقد ذكر مثل ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره وهو ظاهر في الكتاب والسنة وأصول الشريعة

ولا يجوز أن يرسل الإمام من يضعف عن مقاومة الحرامية ولا من يأخذ مالا من المأخوذين التجار ونحوهم من أبناء السبيل بل يرسل من الجند الأقوياء الأمناء إلا أن يتعذر ذلك فيرسل الأمثل فالأمثل فإن كان بعض نواب السلطان أو رؤساء القرى ونحوهم يأمرون الحرامية بالأخذ في الباطن أو الظاهر حتى إذا أخذوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم وأرضى المأخوذين بعض أموالهم أو لم يرضهم فهذا أعظم جرما من مقدم الحرامية لأن ذلك يمكن دفعه بدون ما يندفع به هذا والواجب أن يقال ما يقال في الرد والعون لهم فإن قتلوا قتل هو على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأكثر أهل العلم وإن أخذوا المال قطعت يده وإن قتلوا وأخذوا المال قتل وصلب وعلى قول طائفة من أهل العلم يقطع ويقتل ويصلب وقيل: يخير بين هذين وإن كانوا لم يؤذن لهم لكن لما قدر عليهم قاسمهم الأموال وعطل بعض الحقوق والحدود

ومن أوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفى منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم ولقد لعنه الله ورسوله وروى مسلم: [ لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا ] وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب من إحضاره أو الإعلام به فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها: ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذين يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحب الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأن نصر المظلوم واجب ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ]

وروى مسلم نحوه عن جابر وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله بسبع: وينهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم وإجابة الدعوى ونصر المظلوم ونهانا عن خواتيم الذهب وعن الشرب بالفضة وعن المياثر وعن لبس الحرير والقسي والديباح والإستبرق فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه جازت عقوبته بالحبس وغيره حتى يخبر به لأنه امتنع من حق واجب عليه لا تدخله النيابة فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك إلا إذا عرف أنه عالم به

وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم في كل من امتنع من واجب من قول أو فعل وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره حتى يدخل في قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وفي النبي : [ ألا لا يجني جان إلى على نفسه ] وإنما ذلك مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره وهو ليس وكيلا ولا ضامنا ولا له عنده مال أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره من غير أن يكون قد أذنب لا بترك واجب ولا بفعل محرم فهذا الذي لا يحل فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسهن وهو أن يكون قد علم مكان الظالم لذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق أو يعلم مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع إما محاباة وحمية لذلك الظالم كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض وإما معاداة أو بغضا للمظلوم وقد قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}

وإما إعراضنا عن القيام لله والقيام بالقسط الذي أوجبه الله وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ودينه وكتابه الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض

وعلى كل تقدير فهذا الضرب يستحق العقوبة باتفاق العلماء

ومن لم يسلك هذه السبل عطل الحدود وضيع الحقوق وأكل القوي والضعيف وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل يوفي به دينه أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبه وكما تجب الدية على عاقلة القاتل وهذا الضرب من التعزيز عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه فهذا محسن وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ويجتمع شبهة وشهوته والواجب تمييز الحق من الباطل وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة إذا استجار بهم مستجير أو كان بينهما قرابة أو صداقة فإنهم يرون الحمية الجاهلية والعزة بالإثم والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه وإن كان طالما مبطلا على المحق المظلوم لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى ما يناويهم ذلا أو عجزا وهذا - على الإطلاق - جاهية محضة وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب بسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو ذلك

ومن أذل نفسه لله فقد أعزها ومن بذل الحق من نفسه فقد أكر نفسه فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها قال الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} وقال تعالى عن المنافقين: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}

وإنما الواجب على من استجار به مستجير - إن كان مظلوما ينصره ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه فطالما اشتكى الرجل وهو ظالم بل يكشف خبره من خصمه وغيره فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن إما من صلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل أو غلظ وقع فيما بينهما سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وقال تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} وقد روى أبو داود في السنن [ عن النبي أنه قيل له: أمن العصبية أن ينصر الرجل في الحق ؟ قال: لا قال: ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل ] وقال: [ خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم ] وقال: [ مثل الذين ينصر قومه بالباطل كبعير تردى في بئر فهر يجر بذنبه ] وقال: [ من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا يتكنوا ]

وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية بل لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار قال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار قال النبي : [ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ ] وغضب لذلك غضبا شديدا

وأما السارق يجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم * فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة أو بالإقرار تأخيره ولا مال يفتدى به ولا غيره بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها فإن إقامة الحد من العبادات كالجهاد في سبيل الله فينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود رحمة من الله بعباده فيكون الوالي شديدا في إقامة الحد لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات لإشفاء غيظه وإرادة العلو عن الخلق به منزلة الوالد إذا أدب ولده فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة لفسد الولد وإنما يؤدبه رحمة به وإصلاحا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الكريه وبمنزلة قطع العضو المتأكل والحجم ويقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة

فهكذا شرعت الحدود وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها متى كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم وابتغى بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره لأن الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير وكفاه العقوبة البشرية وقد يرضى المحدود إذا أقام عليه الحد

وأما إذا كان غرضه العلو عليهم وإقامة رياسته ليعظموه أن ليبذلوا له ما يريد من الأموال انعكس عليه مقصوده ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد بن عبد الملك على مدينة النبي وكان قد ساسهم سياسة صالحة فقدم الحجاج من العراق وقد ساهم سوء العذاب فسأل أهل المدينة عن عمر كيف هيبته فيكم ؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه قال: كيف محبتكم له ؟ قالوا: هو أحب إلينا من أهلنا قال: فكيف أدبه فيكم قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه هذا أمر من السماء

وإذا قطعت يده حسمت واستحب أن تعلق في عنقه فإن سرق ثانيا: قطعت رجله اليسرى فإن سرق ثالثا ورابعا: فيه قولان للصحابة ومن بعدهم من العلماء أحدهما: تقطع أربعته في الثالثة والرابعة وهو قول أبي بكر رضي الله عنه ومذهب الشافعي و أحمد في إحدى الروايتين والثاني أنه يحبس وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين و أحمد في روايته الأخرى وإنما تقطع يده إذا سرق نصابا وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم عند جمهور العلماء من أهل الحجاز وأهل الحجاز وغيرهم كمالك و الشافعي و أحمد ومنهم من يقول: دينار أو عشرة دراهم فمن سرق ذلك قطع بالاتفاق وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله : [ قطاع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] وفي لفظ لمسلم: [ قطع سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم ] والمجن الترس وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعد ] وفي رواية لمسلم: [ لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ] وفي رواية للبخاري قال: [ اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ] وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدراهم اثنا عشر درهما

ولا يكون السارق سارقا حتى يأخذ المال من حرز فأما المال الضائع من صاحبه والثمر الذي يكون في الشجر في الصحراء بلا حائط والماشية التي لا راعي عندها ونحو ذلك فلا قطع فيه لكن يعزز الآخذ ويضاعف عليه الغرم كما جاء به الحديث

وقد اختلف أهل العلم في التضعيف وممن قال به أحمد وغيره قال رافع بن خديج سمعت رسول الله يقول: [ لا قطع في ثمر ولا كثر والكثر جمار النخل ] رواه أهل السنن وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رجلا من مزينة يسأل رسول الله قال: [ يا رسول الله جئت أسألك عن الضالة من الإبل قال: معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها قال: فالضالة من الغنم قال لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها: قال: فالحريسة التي تؤخذ من مراتعها ؟ قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قال: يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها من أكمامها قال: من أخذ منها بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شيء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرته ففيه القطع إذا يلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال ] رواه أهل السنن لكن هذا سياق النسائي ولذلك قال النبي : [ ليس على المنتهب ولا على المختلس ولا الخائن قطع ] فالمنتهب الذي ينهب الشيء والناس ينظرون والمختلس الذي يجتذب الشيء فيعلم به قبل أخذه وأما الطرار وهو البطاط الذي يبط الجيوب والمناديل والأكمام ونحوها فإنه يقطع على الصحيح

وأما الزاني: فإن كان محصنا فإنه يرجم حتى يموت كما رجم النبي ماعز بن مالك الأسلمي ورجم الغامدية ورجم اليهوديين ورجم غير هؤلاء ورجم المسلمون من بعده واختلف العلماء: هل يجلد قبل الرجم مائة ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره وإن كان غير محصن فإنه يجلد مائة جلدة بكتاب الله ويغرب عاما بسنة رسول الله وإن كان بعض العلماء لا يرى وجوب التغريب

ولا يقام عليه الحد حتى يشهد عليه أربعة شهداء أو يشهد على نفسه أربع شهادات عند كثير من العلماء أو أكثرهم ومنهم من يكتفي بشهادته على نفسه مرة واحدة ولو أقر على نفسه ثم رجع فمنهم من يقول: يسقط عنه الحد ومنهم من يقول: لا يسقط

والمحصن من وطئ وهو حر مكلف لمن تزوجها نكاحا صحيحا في قبلها ولو مرة واحدة وهل يشترط أن تكون الموطوءة مساوية للواطئ في هذه الصفات ؟ على قولين للعلماء وهل تحصن المراهقة للبالغ وبالعكس؟

فأما أهل الذمة فإنهم محصنون أيضا عند أكثر العلماء كالشافعي وأحمد لأن النبي رجم يهوديين عند باب مسجده وذلك أول رجم كان في الإسلام

واختلفوا في المرأة إذا وجدت حبلى ولم يكن لها زوج ولا سيد ولم تدع شبهة في الحبل ففيها قولان في مذهب أحمد قيل: لا حد لها لأنه يجوز أن تكون حبلت مكرهة أو بتحمل بوطء شبهة وقيل بل تحد وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها كاحتمال كذبها وكذب الشهود

وأما اللواط فمن العلماء من يقول: حده كحد الزنا وقد قيل دون ذلك والصحيح الذي اتفقت عليه الصحابة: أن يقتل الاثنان الأعلى والأسفل سواء كانا محصنين أو غير محصنين فإن أهل السنن رووا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : قال: [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: [ في البكر يوجد على اللواطية قال: يرجم ] ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو ذلك

ولم تختلف الصحابة في قتله ولكن تنوعوا فيه فروى الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريقه وعن غيره قتله وعن بعضهم: أنه يلقى عليه جدار حتى يموت تحت الهدم وقيل: يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا وعن بعضهم أنه يرفع على أعلى جدار في القرية ويرمى منه ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط وهذه رواية عن ابن عباس والرواية الأخرى قال: يرجم وعلى هذا أكثر السلف قالوا: لأن الله رجم قوم لوط وشرع رجم الزاني تشبيها برجم قوم لوط فيرجم الاثنان سواء كانا حرين أو مملوكين أو كان أحدهما مملوك الآخر إذا كانا بالغين فإن كان أحدهما غير بالغ عوقب بما دون القتل ولا يرجم إلا البالغ

1 - حد شرب الخمر :

وأما حد الشرب: فإنه ثابت بسنة رسول الله وإجماع المسلمين قد روى أهل السنن عن النبي من وجوه أنه قال: [ من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه ] وثبت عنه أنه جلد الشارب غير مرة هو وخلفاؤه والمسلمون بعده

والقتل عند أكثر العلماء منسوخ وقيل هو محكم يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة

وقد ثبت عن النبي : أنه ضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين وضرب أبو بكر رضي الله عنه أربعين وضرب عمر في خلافته ثمانين وكان علي رضي الله عنه يضرب مرة أربعين ومرة ثمانين فمن العلماء من يقول: يجب ضرب الثمانين ومنهم من يقول: الواجب أربعون والزيارة يفعلها الإمام عند الحاجة إذا أدمن الناس الخمر أو كان الشارب ممن لا يرتدع بدونها ونحو ذلك

فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب فتكفي الأربعون وهذا أوجه القولين وهو قول الشافعي و أحمد رحمها الله في إحدى الروايتين عن أحمد

وقد كان عمر رضي الله عنه - لما كثر الشرب - زاد فيه النفي وحلق الرأس مبالغة في الزجر عنه فلو عزر الشارب مع الأربعين بقطع خبزه أو عزله عن ولايته كان حسنا وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه عن بعض نوابه أنه يتمثل بأبيات في الخمر فعزله

والخمرة التي حرمها الله ورسوله وأمر النبي بجلد شاربها كل شراب مسكر من أي أصل كان سواء من الثمار كالعنب والرطب والتين أو الحبوب كالحنطة والشعير أو الطلول كالعسل أو الحيوان كلبن الخيل بل لما أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد تحريم الخمر لم يكن عندهم بالمدينة من خمر العنب شيء لأنه لم يكن بالمدينة شجر عنب وإنما كانت تجلب من الشام وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر وقد تواترت السنة عن النبي وخلفائه وأصحابه رضي الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمر

وكانوا يشربون النبذ الحلو وهو أن ينبذ في الماء تمر وزبيب أي يطرح فيه والنبذ الطرح ليحلوا الماء لا سيما كثير من مياه الحجاز فإن فيه ملوحة فهذا النبيذ حلال بإجماع المسلمين لأنه لا يسكر كما يحل شرب عصير العنب قبل أن يصير مسكرا وكان النبي قد نهاهم أن ينبذوا هذا النبيذ في أوعية الخشب أو الجرر وهو ما يصنع من التراب أو القرع أو الظروف المزفتة وأمرهم أن ينبذوا في الظروف التي تربط أفواهها بالأوكية لأن الشدة تدب في النبيذ دبيبا خفيفا ولا يشعر الإنسان فربما شرب الإنسان ما قد دبت فيه الشدة المطربة وهو لا يشعر فإذا كان السقاء موكيا انشق الظرف إذا غلا فيه النبيذ فلا يقع الإنسان في محذور وتلك الأوعية لا تنشق

وروى عنه أنه رخص بعد هذا في الانتباذ في الأوعية وقال: [ كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا المسكر ] فاختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء منهم من لم يبلغه النسخ أو لم يثبته فنهى عن الانتباذ في الأوعية ومنهم من اعتقد ثبوته وأنه ناسخ فرخص في الانتباذ في الأوعية فسمع طائفة من الفقهاء أن بعض الصحابة كانوا يشربون النبيذ فاعتقدوا أنه المسكر فترخصوا في شرب أنواع من الأشربة التي ليست من العنب والتمر وترخصوا في المطبوخ من نبيذ التمر والزبيب إذا لم يسكر الشارب

والصواب ما عليه جماهير المسلمين أن كل مسكر خمر يجلد شاربه ولو شرب منه قطرة واحدة لتداو أو غير تداو فإن النبي سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: [ إنها داء وليست بدواء وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]

والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رؤى وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل: لا يقام عليه الحد لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر أو شربها جاهلا بها أو مكرها ونحو ذلك وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود وعليه تدل سنة رسول الله ن وهو الذي اصطلح عليه الناس وهو مذهب مالك و أحمد في غالب نصوصه وغيرهما

والحشيشة المصنوعة من ورق العنب حرام أيضا يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى المخاصمة والمقاتلة وكلاهما يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة

وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدها ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج ولم نجد للعلماء المتقدمين فيها كلاما وليس كذلك بل آكلوها ينشؤون عنها ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة إذا أكثروا منها مع ما فيها من المفاسد الأخرى من الدياثة والتخنث وفساد المزاج والعقل وغير ذلك

ولكن لما كانت جامدة مطعومة ليست شرابا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال: في مذهب أحمد وغيره فقيل: هي نجسة كالخمر المشروبة وهذا هوالاعتبار الصحيح وقيل: لا لجمودها وقيل: يفرق بين جامدها ومائعها وبكل حال فهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا أو معنى قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يا رسول الله أفتنا في شرايين كنا نصنعهما باليمن: البتع - وهو من العسل ينبذ حتى يشتد - والمزر وهو من الذرة والشعير حتى يشتد قال: وكان رسول الله قد أعطى جوامع الكلم بخواتيمه فقال: [ كل مسكر حرام ] متفق عليه في الصحيحين وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال رسول الله : [ إن من الحنطة خمرا ومن الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن التمر خمرا ومن العسل خمرا وأنا أنهى عن كل مسكر ] رواه أبو داود وغيره

ولكن هذا في الصحيحين عن عمر موقوفا عليه أنه خطب به على منبر رسول الله فقال: [ الخمر ما خامر العقل ] وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: [ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ] وفي رواية: [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] رواه مسلم في صحيحه

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : [ كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ] قال الترمذي حديث حسن وروى أهل السنن عن السنن عن النبي من وجوه أنه قال: [ ما أسكر كثيره فقليله حرام ] وصححه الحافظ وعن جابر رضي الله عنه [ أن رجلا سأل النبي عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر فقال: أمسكر هو ؟ قال: نعم فقال: كل مسكر حرام إن على الله عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال قالوا: يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال: عرق أهل النار ]

رواه مسلم في صحيحه وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: [ كل محرم خمر وكل مسكر حرام ] رواه أبو داود

والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة جمع رسول الله بما أوتيته من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا على الخمر قد يصطبغ بها والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب فكل خمر يشرب ويؤكل والحشيشة تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها لأنه إنما حدث أكلها من قريب في أواخر المائة السادسة أو قريبا من ذلك كما أنه قد أحدثت أشربة مسكرة بعد النبي وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة

2 - حد القذف

ومن الحدود التي جاء بها الكتاب والسنة وأجمع عليها المسلمون حد القذف فإذا قذف الرجل محصنا بالزنا أو اللواط وجب عليه الحد ثمانون جلدة والمحصن هنا هو الحر العفيف وفي باب حد الزنا هو الذي وطئ كاملا في نكاح تام

1 - وأما المعاصي التي ليس فيها حد مقدر ولا كفارة كالذي يقبل الصبي والمرأة الأجنبية أو يباشر بلا جماع أو يأكل ما لا يحل كالدم والميتة أو يقذف الناس بغير الزنا أو يسرق من غير حرز أو شيئا يسيرا أو يخون أمانته كولاة أموال بيت المال أو الوقوف ومال اليتيم ونحو ذلك إذا خانوا فيها وكالولاء والشركاء إذا خانوا أو يغش في معاملته كالذين يغشون في الأطعمة والثياب ونحو ذلك أو يطفف المكيال والميزان أو يشهد بالزور أو يلقن شهادة الزور أو يرتشي في حكمه أو يحكم بغير ما أنزل الله أو يعتدي على رعيته أو يتعزى بعزاء الجاهلية أو يلبي داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيزا وتنكيلا داعي الجاهلية إلى غير ذلك من أنواع المحرمات فهؤلاء يعاقبون تعزيزا وتنكيلا وتأديبا بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته فإذا كان كثيرا زاد في العقوبة بخلاف ما إذا كان قليلا وعلى حسب حال المذنب فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته بخلاف المقل من ذلك وعلى حسب كبر المذنب وصغره فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم ما لا يعاقبه من يتعرض إلا لامرأة واحدة أو صبي واحد

وليس لأقل التعزير حد بل هو بكل ما فيه إيلام الإنسان من قول وفعل وترك قول وترك فعل فقد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه والإغلاظ له وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب إذا كان ذلك هو المصلحة كما هجر النبي وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا وقد يعزر بعزله عن ولايته كما كان النبي وأصحابه يعزرون بذلك وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين كالجندي المقاتل إذا فر من الزحف فإن الفرار من الزحف من الكبائر وقطع خبزه نوع تعزير له وكذلك الأمير فعل ما يستعظم فعزله من الإمارة تعزير له

وكذلك قد يعزر بالحبس وقد يعزر بالضرب وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوبا كما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بذلك في شاهد الزور فإن الكاذب سود الوجه فسود وجهه وقلب الحديث فقلب ركوبه وأما أعلاه فقد قيل: لا يزيد على عشرة أسواط وقال كثير من العلماء لا يبلغ به الحد ثم هم على قولين: منهم من يقول: لا يبلغ به أدنى الحدود: لا يبلغ بالحر أدنى حدود الحر وهي الأربعون أو الثمانون ولا يبلغ بالعبد أدنى حدود العبد وهي العشرون أو الأربعون وقيل: بل لا يبلغ بكل منهما حد العبد ومنهم من يقول: لا يبلغ بكل ذنب جنسه وإن زاد على حد جنس آخر فلا يبلغ بالسارق من غير حرز قطع اليد وإن ضرب أكثر من حد القاذف ولا يبلغ بمن فعل ما دون الزنى حد الزنى وإن زاد على حد القاذف كما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا نقش على خاتمه وأخذ بذلك من بيت المال فأمر به فضرب مائة ضربة ثم في اليوم الثاني مائة ضربة ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ضربة

وروى عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف: يضربان مائة وروى عن النبي في الذي يأتي جارية امرأته إن كانت أخلتها له: [ جلد مائة ] وإن لم تكن أخلتها له: [ رجم ] وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره والقولان الأولان في مذهب الشافعي وغيره

وأما مالك وغيره فحكى عنه: أن من الجرائم ما يبلغ به القتل ووافقه بعض أصحاب أحمد في مثل الجاسوس المسلم إذا تجسس للعدو على المسلمين فإن أحمد يتوقف في قتله وجوز مالك وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى

وجوز طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما: قتل الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وكذلك كثير من أصحاب مالك وقالوا: إنما جوز مالك وغيره قتل القدرية لأجل الفساد في الأرض لا لأجل الردة وكذلك قد قيل في قتل الساحر فإن أكثر العلماء على أنه يقتل وقد روى عن جندب رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا: أن حد الساحر ضربة بالسيف رواه الترمذي وعن عمر وعثمان وحفصة وعبد الله بن عمر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قتله فقال بعض العلماء: لأجل الكفر وقال بعضهم لأجل الفساد في الأرض لكن جمهور هؤلاء يرون قتله حدا

وكذلك أبو حنيفة يعزر بالقتل فيما تكرر من الجرائم إذا كان جنسه يوجب القتل كما يقتل من تكرر منه اللواط أو اغتيال النفوس لأخذ المال ونحو ذلك

وقد يستدل على أن المفسد متى إذا لم ينقطع شره إلا بقتله فإنه يقتل بما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجه الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: [ من أتاكم وأمركم جمع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ] وفي رواية: [ ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ] وكذلك قد يقال في أمره بقتل شارب الخمر في الرابعة بدليل ما رواه أحمد في المسند عن ديلم الحميري رضي لله عنه قال: [ سألت رسول الله فقلت: يا رسول الله إنا بأرض نعالج بها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا فقال: هل يسكر ؟ قلت نعم قال: فاجتنبوه قلت: إن الناس غير تاركيه قال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم ] وهذا لأن المفسد كالصائل فإذا لم يندفع الصائل إلا بالقتل قتل

وجماع ذلك أن العقوبة نوعان: أحدهما: على ذنب ماض جزاء بما كسب نكالا من الله كجلد الشارب والقاذف وقطع المحارب والسارق والثاني: العقوبة لتأدية حق واجب وترك محرم في المستقبل كما يستتاب المرتد حتى يسلم فإن تاب وإلا فقتل

وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها فالتعزير في هذا الضرب أشد منه في الضرب الأول ولهذا يجوز أن يضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي الصلاة الواجبة أو يؤدي الواجب عليه والحديث الذي في الصحيحين عن النبي أنه قال: [ لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ] قد فسره طائفة من أهل العلم بأن المراد بحدود الله ما حرم الله لحق الله فإن الحدود في لفظ الكتاب والسنة يراد بها الفصل بين الحلال والحرام مثل آخر الحلال وأول الحرام فيقال في الأول: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} ويقال في الثاني {تلك حدود الله فلا تقربوها}

وأما تسمية العقوبة المعزرة حدا فهو عرف حادث ومراد الحديث: أن من ضرب لحق نفسه كضرب الرجل امرأته في النشوز لا يزيد على عشر جلدات

والجلد الذي جاءت به الشريعة: هو الجلد المعتدل بالسوط فإن خيار الأمور أوساطها قال علي رضي الله عنه: ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين ولا يكون الجلد بالعصى ولا بالمقارع ولا يكتفي فيه بالدرة بل الدرة تستعمل في التعزير

أما الحدود فلا بد فيها من الجلد بالسوط كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤدب بالدرة فإذا جاءت الحدود دعا بالسوط ولا تجرد ثيابه كلها بل ينزع عنه ما يمنع ألم الضرب من الحشايا والفراء ونحو ذلك ولا يربط إذا لم يحتج إلى ذلك ولا يضرب وجهه فإن النبي قال: [ إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ولا يضرب مقاتله ] فإن المقصود تأديبه لا قتله ويعطى كل عضو حظه من الضرب كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك

العقوبات التي جاءت بها الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان :

أحدهما: عقوبة المقدر عليه من الواحد والعدد كما تقدم

والثاني: عقاب الطائفة الممتنعة كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال فاصل هذا هو جهاد الكفار أعداء الله ورسوله فكل من بلغته دعوة رسول الله إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له فإنه يجب قتاله {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}

وكان الله - لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلف إلى دينه - لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى هاجر إلى المدينة فإذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}

ثم إنه بعد ذلك أوجب عليهم القتال بقوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين} وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} قال تعالى: {فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وهذا كثير في القرآن وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في سورة الصف التي يقوم فيها: {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين} وكقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} وقال تعالى: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}

فذكر ما يولده عن أعمالهم وما يباشرونه من الأعمال والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع كما دل عليه الكتاب والسنة حتى قال النبي [ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ] وقال: [ إن في الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ] متفق عليه وقال: [ من اغبر قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ] رواه البخاري وقال : [ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات أجرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ] رواه مسلم وفي السنن: [ رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ] وقال : [ عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] قال الترمذي حديث حسن: وفي مسند الإمام أحمد: [ حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ] وفي الصحيحين : [ أن رجلا قال: يا رسول الله أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل الله قال: لا تستطيع قال: اخبرني قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر وتقوم لا تفتر ؟ قال: لا قال: فذلك الذي يعدل الجهاد ] وفي السنن: أنه قال: [ إن لكل أمة سياحة وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ]

وهذا باب واسع لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مال يشتمل عليه عمل آخر

والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائما إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة

ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في ترقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات

وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وفي السنن: عنه : [ أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: ما كانت هذه لتقاتل وقال لأحدهم: الحق خالدا فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا ] وفيهما أيضا عنه أنه كان يقول: [ لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ]

وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ولهذا قال الفقهاء: إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت

ولهذا أوجبت الشريعة قتل الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا

فأما أهل الكتاب والمجوس فيقاتلون حتى يستسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

ومن سواهم فقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية منهم إلا أن عامتهم لا يأخذونها من العرب وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين حتى يكون الدين كله لله كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة - وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة - ثم اتفقوا حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس ؟ وقد قال رسول الله : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] فقال له أبو بكر: فإن الزكاة من حقها والله - لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال: فعلمت أنه الحق وقد ثبت عنه من وجوه كثيرة أنه أمر بقتال الخوارج

ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: [ سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة]

وفي رواية مسلم عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: [ يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء يقرءون القرآن يحسبونه أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز قراءتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لا تكلوا على العمل ]

وعن أبي سعيد عن رسول الله في هذا الحديث: [ يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] متفق عليه وفي رواية لمسلم: [ تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق ] فهؤلاء الذين قتلهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما حصلت الفرقة بين أهل العراق والشام وكانوا يسمون الحرورية

بين النبي أن كلا الطائفتين المفترقتين من أمته وأن أصحاب علي أولى بالحق ولم يحرض إلا على قتال أولئك المارقين الذين خرجوا من الإسلام وفارقوا الجماعة واستحلوا دماء من سواهم من المسلمين وأموالهم فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام وإن تكلم بالشهادتين

وقد اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة لو تركت السنة الراتبة كركعتي الفجر هل يجوز قتالها؟ على قولين: فأما الواجبات والمحرمات الظاهرة والمستفيضة فيقاتل عليها بالاتفاق حتى يلتزموا أن يقيموا الصلوات المكتوبات ويؤدوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا ترك المحرمات من نكاح الأخوات وأكل الخبائث والاعتداء على المسلمين في النفوس والأموال ونحو ذلك

وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي إليهم بها يقاتلون عليه فأما إذا بدءوا المسلمين فيتأكد قتالهم ما ذكرناه في قتال الممتنعين من المعتدين قطاع الطرق وأبلغ الجهاد الواجب للكفار والممتنعين عن بعض الشرائع كما نعى الزكاة والخوارج ونحوهم يجب ابتداء ودفعا فإذا كان ابتداء فهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وكان الفضل لمن قام به كما قال الله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} الآية فأما إذا أرادوا الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبا على المقصودين كلهم وعلى غير المقصودين لإعانتهم كما الله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وكما أمر النبي بنصر المسلم وسواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله مع القلة والكثرة والمشي والركوب كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق ولم يأذن الله في تركه أحدا كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج بل ذم الذين يستأذنون النبي {يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا}

فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس وهو قتال اضطرار وذلك قتال اختيار للزيادة في الدين وإعلائه ولإرهاب العدو كغزاة تبوك ونحوها فهذا النوع من العقوبة هو للطوائف الممتنعة

فأما غير الممتنعين من أهل ديار الإسلام ونحوهم فيجب إلزامهم بالواجبات التي هي مباني الإسلام الخمس وغيرها من أداء الأمانات والوفاء بالعهود في المعاملات وغير ذلك

فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر بالصلاة فإن امتنع عوقب حتى يصلي بإجماع العلماء ثم إن أكثرهم يوجبون قتله إذا لم يصل فيستتاب فإن تاب وإلا قتل وهل يقتل كافرا أو مرتدا أو فاسقا ؟ على قولين مشهورين في مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الإقرار بالوجوب

فأما من جحد الوجوب فهو كافر بالاتفاق بل يجب على الأولياء أن يأمروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعا ويضربوه عليها لعشر كما أمر النبي حيث قال: [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ]

وكذلك ما تحتاج إليه الصلاة من الطهارة الواجبة ونحوها ومن تمام ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي حيث قال: [ صلوا كما رأيتموني أصلي ] رواه البخاري وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر فقال: [ إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي ]

وعلى إمام الناس في الصلاة وغيرها أن ينظر لهم فلا يفوتهم ما يتعلق بفعله من كمال دينه بل على إمام الصلاة أن يصلي بهم صلاة كاملة ولا يقتصر على مايجوز للمنفرد الاقتصار عليه من قدر الأجزاء إلا لعذر وكذلك على إمامهم في الحج وأميرهم في الحرب ألا ترى أن الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله ؟ وهو في مال نفسه يفوت نفسه ما شاء فأمر الدين أهم وقد ذكر الفقهاء هذا المعنى

ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح للطائفتين دينهم ودنياهم وإلا اضطربت الأمور عليهم وملاك ذلك كله حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا {إياك نعبد وإياك نستعين} فإن هاتين الكلمتين قد قيل: أنهما يجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء وقد روى أن النبي كان مرة في بعض مغازيه فقال: [ يامالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ] فجعلت الرؤوس تندر عن كواهلها وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله: {فاعبده وتوكل عليه} وقوله تعالى: {عليه توكلت وإليه أنيب} وكان النبي - إذا ذبح أضحيته - يقول: [ اللهم منك وإليك ]

وأعظم عون لولي الأمر خاصة ولغيره عامة ثلاثة أمور أحدها: الإخلاص لله والتوكل عليه بالدعاء وغيره وأصل ذلك المحافظة على الصلوات والبدن والثاني: الإحسان إلى الخلق بالنفع والمال الذي هو الزكاة الثالث: الصبر على أذى الحلق وغيره من النوائب ولهذا جمع الله بين الصلاة والصبر كقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وكقوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} وقوله تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} وكذلك في سورة ق: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} وقال تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}

وأما قرانه بين الصلاة والزكاة في القرآن فكثير جدا فالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى دعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة بالإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج ففي الصحيحين عن النبي أنه قال: [ كل معروف صدقة ] فيدخل فيه كل إحسان ولوببسط الوجه والكلمة الطيبة ففي الصحيحين: عن علي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال النبي : [ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولاترجمان فينظر أيمن فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه فينظر أمامه فتستقبله النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة ] وفي السنن عن النبي قال: [ لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ] وفي السنن عن النبي : [ إن أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن ] وروى عنه أنه قال لأم سلمة [ يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر ] كما قال تعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} وقال لنبيه {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}

وقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} وقال تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} وقال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين}

وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: ألا يقوم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه فقد قال الله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} وقال تعالى للصحابة: {واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه ففي الصحيحين عن النبي أنه قال: [ ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا كان العنف في شيء إلا شانه ] وقال : [ إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ]

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول: والله لأريدن أن أخرج لهم المرة من الحق فأخاف أن ينفروا عنها فأصبر حتى تجيء الحلوة من الدنيا فأخرجها معها فإذا نفروا لهذه سكنوا لهذه

وهكذا كان النبي إذا أتاه طالب حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول وسأله مرة بعض أقاربه أن يوليه على الصدقات ويرزقه منها فقال: [ إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ] فمنعهم إياها وعوضهم من الفيء وحاكم إليه علي وزيد وجعفر في ابنة حمزة فلم يقض بها لواحد منهم ولكن قضى بها لخالتها ثم إنه طيب قلب كل واحد منهم بكلمة حسنة فقال لعلي: [ أنت مني وأنا منك ] وقال لجعفر: [ أشبهت خلقي وخلقي ] وقال لزيد: [ أنت أخونا ومولانا ] فهكذا ينبغي لولي الأمر في قسمه وحكمه فإن الناس دائما يسألون ولي الأمر مالا يصلح بذله من الولايات والأموال والمنافع والجود والشفاعة في الحدود وغير ذلك فيعوضهم من جهة أخرى إن أمكن أو يردهم بميسور من القول ما لم يحتج إلى الإغلاظ فإن رد السائل يؤلمه خصوصا من يحتاج إلى تأليفه وقد قال الله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} وقال تعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا} إلى قوله: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا}

وإذا حكم على شخص فإنه قد يتأذى فإذا طيب نفسه بما يصلح من القول والعمل كان ذلك تمام السياسة وهو نظير ما يعطيه الطبيب للمريض من الطيب الذي يسوغ الدواء الكريه وقد قال الله تعالى لموسى عليه السلام - لما أرسله إلى فرعوه -: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى}

وقال النبي لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما - لما بعثهما إلى اليمن - [ يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا ] وبال مرة أعرابي في المسجد فقام أصحابه إليه فقال: [ لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله ثم أمر بدلو من ماء فصب عليه وقال النبي : إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ] والحديثان في الصحيحين

وهذا يحتاج إليه الرجل في سياسة نفسه وأهل بيته ورعيته فأن النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها فتكون تلك الحظوظ عبادة لله وطاعة له مع النية الصالحة ألا ترى أن الأكل والشرب واللباس واجب على الإنسان ؟ حتى لو اضطر إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء فإن لم يأكل حتى مات دخل النار لأن العبادات لا تؤدي إلا بهذا ومالا يتم إلا به فهن واجب ولهذا كانت نفقة الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها ففي السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ تصدقوا فقال رجل يا رسول الله عندي دينار فقال تصدق به على نفسك قال عندي آخر قال: تصدق به على زوجتك قال: عندي آخر قال: تصدق به على ولدك قال عندي آخر قال: تصدق به على خادمك قال عندي آخر قال: أنت أبصر به ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمهما أجرا الذي أنفقته على أهلك ] وفي صحيح مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى ] وهذا تأويل قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} أي الفضل

وذلك لأن نفقة الرجل على نفسه وأهله فرض عين بخلاف النفقة في الغزو على المساكين فإنه في الأصل إما فرض على الكفاية وإما مستحب وإن كان قد يصير متعينا إذا لم يقم غيره به فإن إطعام الجائع واجب ولهذا جاء في الحديث [ لو صدق السائل لما أفلح من رده ] ذكره الإمام أحمد وذكر أنه إذا علم صدقة وجب إطعامه وقد روى أبو حاتم البستي في صحيحه حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي الذي فيه من أنواع العلم والحكمة وفيه أنه كان في حكمة آل داود عليه السلام: حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه وساعة يناجي يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بأصحابه الذين يخبرونه بعيوبه ويحدثونه عن ذات نفسه وساعة يخلو فيها بلذاته فيما يحل ويجمل فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات فبين أنه لا بد من اللذات المباحات الجميلة فإنها تعين على تلك الأمور

ولهذا ذكر الفقهاء أن العدالة هي الصلاح في الدين والمروءة باستعمال ما يجمله ويزينه وتجنب ما يدنسه ويشينه وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل لأستعين به على الحق والله سبحانه إنما خلق اللذات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق فإنهم بذلك يجتلبون ما ينفعهم كما خلق الغضب ليدفعوا به ما يضرهم وحرم من الشهوات ما يضر تناوله وذم من اقتصر عليها فأما من استعان بالمباح الجميل على الحق فهذا من الأعمال الصالحة ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي قال: [ في بضع أحدكم صدقة قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر ؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما يكون عليه وزر ؟ قالوا: بلى فلم تحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال ] وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي قال له: [ إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في فم امرأتك ] الآثار في هذا كثيرة فالمؤمن إذا كانت له نية أتت على عامة أفعاله وكان المباحات في صالح أعماله لصالح قلبه ونيته والمنافق لفساد قلبه ونيته - يعاقب على ما يظهره من العبادات رياء فإن في الصحيح أن النبي قال: [ ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ]

وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات وترك المحرمات فقد شرع أيضا كل ما يعين على ذلك فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة والإعانة عليه والترغيب فيه بكل ممكن مثل أن يبذل لولده وأهله أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح من مال أو ثناء أو غيره ولهذا شرعت المسابقة بالخيل والإبل والمناضلة بالسهام وأخذ الجعل عليها لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل للجهاد في سبيل الله حتى كان النبي يسابق بين الخيل هو وخلفاؤه الراشدون ويخرجون الأسباق من بيت المال وكذلك عطاء المؤلفة قلوبهم فقد روى: [ أن الرجل كان يسلم أول النهار رغبة في الدنيا فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس ]

وكذلك الشر والمعصية ينبغي حسم مادته وسد ذريعته ودفع ما يفضي إليه إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة مثال ذلك ما نهى عنه النبي فقال: [ لا يخلون الرجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ] وقال: [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومين إلا ومعها زوج أو ذو محرم ] فنهى عن الخلو بالأجنبية والسفر بها لأنه ذريعة إلى الشر وروى عن الشعبي أن وفد عبد القيس لما قدموا على النبي كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه ظهره وقال: [ إنما كانت خطيئة داود النظر ]

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يعس بالمدينة فسمع امرأة تتغنى بأبيات تقول فيها :

( هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... هل من سبيل إلى نصر بن حجاج )

فدعى به فوجده شابا حسنا فحلق رأسه فازداد جمالا فنفاه إلى البصرة لئلا تفتتن به النساء

وروى عنه: أنه بلغه أن رجلا يجلس إليه الصبيان فنهى عن مجالسته فإذا كان من الصبيان من تخاف فتنته على الرجل أو على النساء منع وليه من إظهاره لغير حاجة أو تحسينه لا سيما بتريحه وتجريده في الحمامات وإحضاره مجالس اللهو والأغاني فإن هذا مما ينبغي التعزير عليه

وكذلك من ظهر من الفجور يمنع من تملك الغلمان المردان الصباح ويفرق بينهما فإن الفقهاء متفقون على أنه لو شهد شاهد عند الحاكم وكان قد استفاض عنه نوع من أنواع الفسوق القادحة في الشهادة فإنه لا يجوز قبول شهادته ويجوز للرجل أن يجرحه بذلك وإن لم يره فقد ثبت عن النبي [ أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال: وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فسألوه عن ذلك فقال: هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازةأثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض ] مع أنه كان في زمانه امرأة تعلن الفجور فقال: [ لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه ]

فالحدود لا تقام إلا بالبينة وأما الحذر من الرجل في شهادته ونحو ذلك فلا يحتاج إلى المعاينة بل الاستفاضة كافية في ذلك وما هو دون الاستفاضة حتى أنه يستدل عليه بأقرانه كما قال ابن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم فهذا لدفع شره مثل الاحتراز من العدو وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: احترسوا في الناس بسوء الظن فهذا أمر عمر مع أنه لا تجوز عقوبة المسلم بسوء الظن

وأما الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس قال الله تعالى ك {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون * وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} إلى قوله {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وقال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} وفي الصحيحين عن النبي أنه قال: [ أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ]

فالقتل ثلاثة أنواع:

أحدها العمد المحض وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه أو بثقله كالسندان وكوذين القصار أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح حتى يموت وسقي السموم ونحو ذلك في الأفعال فهذا رغم الوجه فيه القود وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} قيل في التفسير: لا يقتل غير قاتله

وروى عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ من أصيب بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ] رواه أهل السنن قال الترمذي حديث حسن صحيح فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء حتى قال بعض العلماء: إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول قال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم * ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون}

قال العلماء: إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيط حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء وتعدى هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب وغيرهم وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل وربما حالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعدوات العظيمة

وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى فكتب الله علينا القصاص - وهو المساواة والمعادلة في القتلى - وأخبر أن فيه حياة فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين وأيضا فإذا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: [ المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ] رواه أحمد و أبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ولا قرشي أو هاشمي على غيره من المسلمين ولا حر أصلي على مولى عتيق ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور

وهذا متفق عليه بين المسلمين بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي صنفان من اليهود: قريظة والنضير وكانت تتفضل على قريظة في الدماء فتحاكموا إلى النبي في ذلك وفي حد الزنا فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم نبيكم بذلك كان لكم حجة وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} إلى قوله: {فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} إلى قوله: {فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} فبين سبحانه وتعالى أنه سوى بين نفوسهم ولم يفضل منهم نفسا على أخرى كما كانوا يفعلونه إلى قوله {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} إلى قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} فحكم الله سبحانه في دماء المسلمين أنها كلها سواء خلاف ما عليه أهل الجاهلية وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر إنما هي البغي وترك العدل فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها من الأخرى دما أو مالا أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية وإذا أصلح مصلح بينهما فيصلح بالعدل كما قال الله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}

وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول فإنه أفضل لهم كما قال تعالى: {والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} قال أنس رضي الله عنه: ما رفع إلى رسول الله أمر قصاص إلا أمر فيه بالعفو رواه أبو داود

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ] وهذا الذي ذكرناه من التكافؤ هو في المسلم الحر مع المسلم الحر فأما الذمي فجمهور العلماء: على أنه ليس بكفء للمسلم كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك ليس بكفء له وفاتا ومنهم من يقول: بل هو كفء له وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد

والنوع الثاني الخطأ الذي يشبه العمد قال النبي : [ إلا إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان في السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ] سماه شبه العمد لأنه قصد العدون عليه بالضرب لكنه لا يقتل غالبا فقد تعمد العدوان ولم يتعمد ما يقتل

والثالث الخطأ وما يجري مجراه مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب به إنسانا بغير علمه ولا قصده فهذا ليس فيه قود وإنما في الدية والكفارة وهنا ومسائل كثيرة معروفة في كتب أهل العلم بينهم

والقصاص في الجراح أيضا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع بشرط المساواة فإذا قطع يده اليمنى من مفصل فله أن يقطع يده كذلك وإذا سنه فله أن يقلع سنه وإذا شجه في رأسه أو وجهه فأوضح العظم فله أن يشجه كذلك وإذا لم تمكن المساواة: مثل أن يكسر له عظما باطنا أو يشجه دون الموضحة فلا يشرع القصاص بل تجب الدية المحدودة أو الأرش وأما القصاص في الضرب بيده أو بعصاه أو سوطه مثل أن يلطه أو يلكمه أو يضربه بعصا ونحو ذلك فقد قال طائفة من العلماء: إنه لا قصاص فيه بل فيه تعزير لأنه هلا تمكن المساواة فيه

والمأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين: أن القصاص مشروع في ذلك وهو نص أحمد وغيره من الفقهاء وبذلك جاءت سنة رسول الله وهو الصواب وقال أبو فراس خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر حديثا قال فيه: ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسننكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين: إن كان رجل من المسلمين على رعية فأدب رعيته أئنك لتقصه منه ؟ قال: إي والذي نفس محمد بيده إذا لأقصنه منه أني لا أقصه وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم رواه الإمام أحمد وغيره

ومعنى هذا إذا ضرب الوالي رعيته ضربا غير جائز فأما الضرب المشروع فلا قصاص فيه بالإجماع إذ هو واجب أو مستحب أو جائز

والقصاص في الأعراض مشروع أيضا: وهو أن الرجل إذا لعن رجلا أو دعا عليه فله أن يفعل به كذلك وكذلك إذا شتمه شتيمة لا كذب فيها والعفو أفضل قال الله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال النبي صلى الله عليه: [ المستبان: ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم ] ويسمى هذا الانتصار والشتيمة التي لا كذب فيها مثل الإخبار عنه بما فيه من القبائح أو تسميته بالكلب أو الحمار ونحو ذلك فأما إن افترى عليه لم يحل له أن يفتري عليه ولو كفره أو فسقه بغير حق لم يحل له أن يكفره أن يفسقه بغير حق ولو لعن أباه أو قبيلته أو أهل بلده ونحو ذلك لم يحل أن يتعدى على أولئك فإنهم لم يظلموه وقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمر الله المسلمين ألا يحملهم بغضهم للكفار على ألا يعدلوا وقال {اعدلوا هو أقرب للتقوى}

فإن كان العدوان عليه في العرض محرما لحقه بما يلحقه من الأذى جاز القصاص فيه بمثله كالدعاء عليه بمثل ما دعاه وأما إذا محرما لحق الله تعالى كالكذب لم يجز بحال وهكذا قال كثير من الفقهاء: إذا قتله بتحريق أو تغريق أو خنق أو نحو ذلك فإنه يفعل به كما فعل ما يكن الفعل محرما كتجريع الخمر واللواط به ومنهم من قال: لا قود إلا بالسيف والأولى أشبه بالكتاب والسنة والعدل

وإذا كانت الفرية ونحوها لا قصاص فيها ففيها العقوبة بغير ذلك فمنه حد القذف الثابت في الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}

فإذا رمى الحر محصنا بالزنا أو اللواط فعليه حد القذف وهو ثمانون جلدة وإن رماه بغير ذلك عوقب تعزيرا

وهذا الحد يستحق المقذوف فلا يستوفي إلا بطلبه باتفاق الفقهاء فإن عفا عنه سقط عند جمهور العلماء لأن المغلب فيه حق الآدمي كالقصاص والأموال وقيل: لا يسقط تغليبا حلق الله لعدم المماثلة كسائر الحدود وإنما يجب القذف إذا كان المقذوف محصنا وهو المسلم الحر العفيف

فأما المشهور بالفجور فلا يحد قاذفه وكذلك الكافر والرقيق لكن يعزر القاذف إلا الزوج فإنه يجوز له أن يقذف امرأته إذا زنت ولم تحبل من الزنا فإن حبلت منه وولدت فعليه أن يقذفها وينفي ولدها لئلا يلحق به من ليس منه وإذا قذفها فإما أن تقر بالزنا وإما أن تلاعنه كما ذكره الله تعالى في الكتاب والسنة ولو كان القاذف عبدا فعليه نصف حد الحر وكذلك في جلد الزنا وشرب الخمر لأن الله تعالى قال في الإماء {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} وأما إذا كان الواجب القتل أو قطاع اليد فإنه لا يتنصف

ومن الحقوق الأبضاع فالواجب الحكم بين الزوجين بما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فيجب على كل من الزوجين أن يؤدي إلى الآخر حقوقه بطيب نفس وانشراح صدر فإن للمرأة على الرجل حقا في ماله وهو الصداق والنفقة بالمعروف وحقا في بدنه وهو العشرة والمتعة بحيث لو آلى منها استحقت الفرقة بإجماع المسلمين وكذلك لو كان مجبوبا أو عنينا لا يمكنه جماعها فلها الفرقة ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء

وقد قيل: إنه لا يجب اكتفاء بالباعث الطبيعي والصواب أنه واجب كما دل عليه الكتاب والسنة والأصول وقد قال النبي لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه - لما رآه يكثر الصوم والصلاة -: [ إن لزوجك عليك حقا ]

ثم قيل: يجب عليه وطؤها كل أربعة أشهر مرة وقيل يجب وطؤها بالمعروف على قدر قوته وحاجته كما تجب النفقة بالمعروف كذلك وهذا أشبه

وللرجل عليها أن يتمتع بها متى شاء ما لم يضر بها أو يشغلها عن واجب فيجب عليها أن تمكنه كذلك

ولا تخرج من منزله إلا بإذنه أو بإذن الشارع واختلف الفقهاء هل عليها خدمة المنزل كالفرس والكنس والطبخ ونحو ذلك ؟ فقيل يجب عليها وقيل: لا يجب وقيل: يجب التخفيف

وأما الأحوال فيجب الحكم بين الناس فيها بالعدل كما أمر الله ورسوله مثل قسم المواريث بين الورثة على ما جاء به الكتاب والسنة

وقد تنازل المسلمون في مسائل من ذلك وكذلك في المعاملات من المبايعات والإجارات والوكالات والمشاركات والهبات والوقوف والوصايا ونحو ذلك من المعاملات المتعلقة بالعقود والقبوض فإن العدل فيها هو قوام العالمين لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به

فمن العدل فيها ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقلهن كوجوب تسليم الثمن على المشتري وتسليم المبيع على البائع المشتري وتحريم تطفيف المكيال والميزان ووجوب الصدق والبيان وتحريم الكذب والخيانة والغش وأن جزاء القرض الوفاء والحمد

ومنها ما هو خفي جاءت به الشرائع أو شريعتنا أهل الإسلام فإن عامة ما نهى عنه الكتاب والسنة من المعاملات يعود إلى تحقيق العدل والنهي عن الظلم دقه وجله مثل أكثر المال الباطل وجنسه من الربا والميسر وأنواع الربا والميسر التي نهى النبي مثل: بيع الغرر وبيع حبل الحبلى وبيع الطير في الهواء والسمك في الماء والبيع إلى أجل غير مسمى وبيع المسراة وبيع المدلس والملامسة والمنابذة والمزابنة والمحاقلة والنجش وبيع الثمن قبل بدو صلاحه وما نهى عنه من أنواع المشاركات الفاسدة كالمخابرة كزرع بقعة بعينها من الأرض

و من ذلك ما قد ينازع فيه المسلمون لخفائه واشتباهه فقد يرى هذا العقد والقبض صحيحا عدلا وإن كان غيره يرى فيه جورا يوجب فساده وقد قال الله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يقربون بها إلى الله إلا مادل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دون الله مالم يحرمه الله وأشركوا به مالم ينزل به سلطانا وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين شرعته

لا غنى لولي الأمر عن المشاورة فإن الله تعالى أمر بها نبيه فقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله

وقد قيل: إن الله أمر بها نبيه لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده ليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك فغيره - - أولى بالمشورة

وقد أثنى الله على المؤمنين بذلك في قوله: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} وإذا استشارهم فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين فعليه اتباع ذلك ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك وإن كان عظيما في الدين والدنيا قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}

وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به كما قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}

وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهما أن يتحرى ما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله واتباع كتاب الله ومتى أمكن في ا لحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال

وقد قيل: ليس له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان بل وسائر شروط العبادات من الصلاة والجهاد وغير ذلك كل ذلك واجب مع القدرة

فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ولهذا أمر الله المصلي أن يتطهر بالماء فإن عدمه أو خاف الضرر باستعماله لشدة البرد أو جراحة أو غير ذلك تيمم الصعيد فمسح بوجهه ويديه منه وقال النبي لعمران بن حصين: [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] فقد أوجب الله فعل الصلاة في الوقت على أي حال أمكن كما قال تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين * فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}

فأوجب الله الصلاة على الآمن والخائف والصحيح والمريض والغني والفقير والمقيم والمسافر وخففها على المسافر والخائف والمريض كما جاء به الكتاب والسنة

وكذلك أوجب فيها واجبات من الطهارة والستارة واستقبال القبلة وأسقط ما يعجز عنه العبد من ذلك

فلو انكسرت سفينة قوم أو سلبهم المحاربون ثيابهم صلوا عراة بحسب أحوالهم وقام إمامهم وسطهم لئلا يرى الباقون عورته

وان اشتبهت عليهم القبلة اجتهدوا في الاستدلال عليها فلو عميت الدلائل صلوا كيفما أمكنهم كما قد روى أنهم فعلوا ذلك على عهد رسول الله فهكذا الجهاد والولايات وسائر أمور الدين وذلك كله في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}

وفي قول النبي : [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] كما أن الله تعالى لما حرم المطاعم الخبيثة قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} وقال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال تعالى: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} فلم يوجب مالا يستطاع ولم يحرم ما يضطر إليه إذا كانت الضرورة بغير معصية من العبد

يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي : [ إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ] رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة

وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي قال: [ لا يحل لثلاثة يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم ] فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا تتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روى: [ أن السلطان ظل الله في الأرض ] ويقال: [ ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان ] والتجربة تبين ذلك ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض و أحمد بن حنبل وغيرهما - يقولون: لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان وقال النبي : [ إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ] رواه مسلم وقال: [ ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم ] رواه أهل السنن وفي الصحيح عنه أنه قال: [ الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ]

فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما يفسد فيها حال كثير الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها وقد روى كعب بن مالك عن النبي أنه قال: [ ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال أو الشرف لدينه ] قال الترمذي حديث حسن صحيح فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة يفسد دينه مثل أو أكثر من إرسال الذئبين الجائعين لزريبة الغنم

وقد أخبر الله تعالى عن الذي يؤتي كتابه بشماله أنه يقول: {ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه}

وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله تعالى في كتابه حال فرعون وقارون فقال تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} وقال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} فإن الناس أربعة أقسام :

القسم الأول: يريدون العلو على الناس والفساد في الأرض هو معصية الله وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه وهؤلاء هم شر الخلق قال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين} وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : [ لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه ذرة من إيمان فقال رجل يا رسول الله: إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا أفمن الكبر ذاك ؟ قال: لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ] فبطر الحق ودفعه وجحده وغمط الناس واحتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد

والقسم الثاني: الذين يريدون الفساد بلا علو كالسراق المجرمين من سفلة الناس

والقسم الثالث: يريد العلو بلا فساد كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس

والقسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يردون علوا في الأرض ولا فسادا مع أنهم قد يكونوا أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} وقال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}

فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم لأن الناس من جنس واحد فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ثم أنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين - من أن يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس قال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم} وقال تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله

فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما في الصحيحين عن النبي : [ إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم ]

ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان وكمال الدين ثم منهم من غلب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك فأخذه معرضا عن الدين لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل لا في محل العلو والعز وكذلك لما غلب على كثير من أهل الديانتين العجز عن تكميل الدين والجزع لما يقد يصيبهم في إقامته من البلاء استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها

وهاتان السبيلان الفاسدتان سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد و المال وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود

وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم

فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك حسب وسعه فمن ولى ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة مايمكنه من دينه ومصالح المسلمين وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات لم يؤاخذ بما يعجز عنه فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه فإن قوام الدين الكتاب الهادي والحديث الناصر كما ذكره الله تعالى

فعلى كل أحد الاجتهاد في إيثار القرآن والحديث لله تعالى ولطلب ما عنده مستعينا بالله في ذلك ثم الدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها انتظاما وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي أنه قال: [ من أصبح والآخرة أكبر همه جمع له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له ] وأصل ذلك في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}