انتقل إلى المحتوى

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الحدود/باب السرقة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



باب السرقة


من سرق مكلفاً مختاراً وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار .

من حرز أي مال محرز ، واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله () وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال : فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن . قال يا رسول الله : فالثمار وما أخذ منها في أكمامها . قال : من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال ، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن وقد أخرجه أيضاً أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه وحسنه الترمذي . والحريسة التي ترعى وعليها حرس . وكذا حديث لا قطع في ثمر ولا كثر عند أحمد وأهل السنن والحاكم ، وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج ، وقد ذهب إلى إعتبار الحرز الأكثر . وذهب أحمد وإسحق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره ، واستدلوا على عدم الإعتبار . وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطأ والشافعي والحاكم وصححه من حديث صفوان بن أمية قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله () فأمر بقطعه . فقلت يارسول الله : أفي خميصة ثمن ثلاثين درهماً أنا أهبها له . قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر أن رسول الله () قطع يد سارق سرق برنساً من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم وقد أخرج مسلم معناه . وقد روي نحو حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر . ويجاب عن الإستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ، ولو كان على صاحبه ، فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه ، ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة وسيأتي ، ويمكن أن يكون ذلك خاصاً بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره . قال في المسوى : ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شئ من الفواكه الرطبة ولا الخشب ولا الحشيش عملاً بعموم حديث رافع ، وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز وقال : نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها فلا تكون محرزة ، وإنما خرج الحديث مخرج العادة ، يوضح ذلك حديث الجرين ، وقطع عثمان في أترجة . قال في الحجة البالغة : قال رسول الله () : لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل ، فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن .

أقول : أفهم النبي () أن الحرز شرط القطع ، وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الإلتقاط ، فيجب الاحتراز عنه قلت والحرز ما يعده الناس حرزاً لمثل ذلك المال ، فالمتبن حرز للتبن ، والإصطبل للدواب ، والمراح للغنم ، والجرين للثمار ، وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد ، فإنما حرزه أن يكون له ناظر بحسب ما جرت العادة من النظر وعليه أهل العلم في الجملة .

ربع دينار فصاعداً لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت : كان رسول الله () يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً وفي رواية لمسلم وغيره أن النبي () قال : لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً وفي لفظ لأحمد اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في ماهو أدنى من ذلك ، وكان ربع الدينار يؤمنذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهماً وفي رواية للنسائي قالت : قال رسول الله () : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن . قيل لعائشة ما ثمن المجن ؟ قالت : ربع دينار وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : قطع رسول الله () في مجن ثمنه ثلاث دراهم وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار كما تقدم في رواية أحمد . قال الشافعي : وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله () اثني عشر دراهماً بدينار ، وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ، ومن الفضة بإثني عشر ألف درهم . وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ، ومنهم الخلفاء الأربعة . وفي المسألة اثنا عشر مذهباً قد أوضحها الماتن في شرح المنتقى . وأما ماروي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله () : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده فقد قال الأعمش : كانوا يرون أنه بيض الحديد ، والحبل كانوا يرون أن منها مايساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره . قال الحجة البالغة الحاصل : أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شئ واحد في زمانه () ثم اختلف بعده ، ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه ، فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين . فقيل : ربع دينار ، وقيل ثلاثة دراهم ، وقيل : بلوغ المال إلى أحد القدرين وهو الأظهر عندي ، وهذا شرعه النبي () فرقا بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان ، واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد ، فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن ، وقيل لا يعتبر فيها . وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه . قال في المسوى : ذهب الشافعي إلى حديث عائشة أن نصاب السرقة ربع دينار . وذهب مالك إلى حديث ابن عمر والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر أن الشئ التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم ، وكانت الثلاثة دراهم تبليغ قيمتها ربع دينار يوضح ذلك حديث عثمان فإنه يدل على أن العبرة بالذهب ، ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم . ويوضح ذلك أيضاً وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية . وقال أبو حنيفة : لا تقطع في أقل من عشرة دراهم .

أقول : أصح ما روي أن ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي ربع دينار ، وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة والنهي عن القطع فيما دونه ، فنصاب السرقة إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار ، هذا هو الحق . وما روي من زيادة ثمن المجن فقد بين سقوط الاستدلال به في شرح المنتقى .

قطعت كفه اليمنى لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قلت : اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى ، ثم إذا سرق ثانياً تقطع رجله اليسرى واختلفوا فما إذا سرق ثالثاً بعد قطع يده ورجله ، فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ، ثم إذا سرق أيضاً تقطع رجله اليمنى ، ثم إذا سرق أيضاً يعزر ويحبس وعليه الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ولكن يعزر ويحبس .

ويكفي الإقرار مرة واحدة لما قدمنا في الباب الأول . وقد قطع النبي () يد سارق المجن ، وسارق رداء صفوان ، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار . وأما ما وقع منه () من قوله للسارق الذي اعترف بالسرق ما أخالك سرقت قال : بلى مرتين أو ثلاث فهذا هو من باب الاستثبات كما تقدم . وقد ذهب إلى أنه يكفي الاقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية ، وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحق إلى اعتبار المرتين . والحق هو الأول .

أو شهادة عدلين لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين .

ويندب تلقين المسقط لحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي () أتى بلص اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله () : ما أخالك سرقت . قال : بلى مرتين أو ثلاثاً وقد روي عن عطاء أنه قال : كان من مضى يؤتي إليهم بالسارق فيقول : أسرقت قل : لا . وسمى أبا بكر وعمر أخرجه عبد الرزاق . وفي الباب عن جماعة من الصحابة .

ويحسم موضع القطع لئلا يسري فيهلك ، فإن الحسم سبب عدم السراية لما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله () أتى بسارق قد سرق شملة . فقالوا يا رسول الله : إن هذا قد سرق فقال رسول الله () : ما أخاله سرق . فقال السارق بلى يا رسول الله فقال : اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به ، فقطع فأتي به . فقال : تب إلى الله . فقال : قد تبت إلى الله . قال تاب الله عليك .

وتعلق اليد في عنق السارق لما أخرجه أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة ابن عبيد قال : أتي رسول الله () بسارق فقطعت يده ، ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناده الحجاج بن أرطاة . قال النسائي : هو ضعيف لا يحتج بحديثه . قال في الحجة البالغة : إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق ، وفرقاً بين ما يقطع اليد ظلماً وبين ما يقطع حداً .

ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب لحديث صفوان المتقدم . وأخرج النسائي وأبو داود والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله () قال : تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب قلت : وعليه أهل العلم . ويحرم الشفاعة للسارق إذا بلغ أمره السلطان أن لا يقطع يده .

ولا قطع في ثمر ولا كثر ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال لحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب . والكثر جمار النخل أو طلعها ، وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ، ولم يكتف () بذلك بل قال وضرب نكال ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها .

وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي ، وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي () قال : ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر . وأخرج ابن ماجه أيضاً والطبراني من حديث أنس نحوه . قلت وعلى هذا أهل العلم .

وقد ثبت القطع في جحد العارية لما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة قالت : كانت امرأة مخزمية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي () بقطع يدها وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة . وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لم يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية ، قالوا : لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة ، وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق . ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقاً لغة ، فهو سارق شرعاً ، والشرع مقدم على اللغة . وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء ، وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله () ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت أنها سرقت حلياً فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية

الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الحدود
باب حد الزاني | باب السرقة | باب حد القذف | باب حد الشرب | بيان أن المعاصي التي لا توجب حداً يجب فيها التعزيز | باب حد المحارب | باب من يستحق القتل حداً