انتقل إلى المحتوى

الرد على المنطقيين/7

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

الرد على المنطقيين


استطراد

وإذا اتسعت العقول وتصوراتها اتسعت عباراتها وإذا ضاقت العقول والتصورات بقى صاحبها كانه محبوس العقل واللسان كما يصيب اهل المنطق اليوناني تجدهم من أضيق الناس علما وبيانا وأعجزهم تصورا وتعبيرا

ولهذا من كان منهم ذكيا إذا تصرف في العلوم وسلك مسلك اهل المنطق طول وضيق وتكلف وتعسف وغايته بيان البين وايضاح الواضح من العي وقد يوقعه ذلك في انواع من السفسطة التي عافى الله منها من لم يسلك طريقهم

مثل ما ذكروه عن يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف انه قال في بعض مناظراته هذا من باب فقد عدم الوجود ومثل هذه العبارات الطويلة الركيكة كثير في كلامهم حتى في كلام افضل متأخريهم مع انه افضلهم واحسنهم بيانا

وكذلك تكلفاتهم في حدودهم مثل حدهم ل الانسان والشمس بانها كوكب يطلع نهارا وهل من يحد الشمس مثل هذا الحد ونحوه إلا من هو من أجهل الناس وهل عند الناس شئ أظهر من الشمس حتى يحد الشمس به ومن لم يعرف الشمس فاما ان يجهل اللفظ فيترجم له وليس هذا من الحد الذي ذكروه وإما أن لا يكون رآها لعماه فهذا لا يرى النهار ولا الكواكب بطرق الاولى مع أنه لا بد ان يسمع من الناس ما يعرف ذلك دون طريقهم

عود الى اصل الموضوع

وهم معترفون بان الشكل الاول من الحمليات يغنى عن جميع صور القياس وتصويره نطرى لا يحتاح احد الى تعلمه منهم مع ان الاستدلال لا يحتاج الى تصوره على الوجه الذي يزعمونه

فصل: إبطال قولهم إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين

وأما قولهم إن الاستدلال لا بد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان

فان كان الدليل مقدمة واحدة قالوا الاخرى محذوفة وسموه هو قياس الضمير وإن كان مقدمات قالوا هي اقيسة مركبة ليس هو قياسا واحدا فهذا قول باطل طردا وعكسا

وذلك ان احتياج المستدل الى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس فمن الناس من لا يحتاج إلا الى مقدمة واحدة لعلمه مما سوى ذلك كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى الاستدلال بل قد يعلمة بالضرورة ومنهم من يحتاج الى مقدمتين ومنهم من يحتاج الى ثلاث ومنهم من يحتاج الى اربع واكثر

فمن أراد ان يعرف ان هذا المسكر المعين محرم فان كان يعرف أن كل مسكر محرم ولكن لا يعرف هل هذا المعين مسكر ام لا لم يحتج إلا الى مقدمة واحدة وهو ان يعمل ان هذا مسكر فاذا قيل له هذا حرام فقال ما الدليل عليه فقال المستدل الدليل على ذلك انه مسكر فقال لا نسلم انه مسكر فمتى أقام الدليل على انه مسكر تم المطلوب

وكذلك لو تنازع اثنان في بعض انواع الاشربة هل هو مسكر ام لا كما يسأل الناس كثيرا عن بعض الاشربة فلا يكون السائل ممن يعلم انها تسكر او لا تسكر ولكن قد علم ان كل مسكر حرام فاذا ثبت عنده بخبر من يصدقه او بغير من الادلة انه مسكر علم تحريمه وكذلك سائر ما يقع الشك في الدراجه تحت قضية كلية من الانواع والاعيان مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج هل هما من الميسر أم لا وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه هل هو من الخمر ام لا وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم التحريم ام لا وتنازعهم في قوله او يعفو الذي بيدة عقدة النكاح (البقرة) هل هو الزوج او الولى المستقل وأمثال ذلك

وقد يحتاج الاستدلال الى مقدمتين لمن لم يعلم ان النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم ولم يعلم ان هذا المعين مسكر فهو لا يعلم انه محرم حتى يعلم انه مسكر ويعلم ان كل مسكر حرام

وقد يعلم ان هذا مسكر ويعلم ان كل مسكر خمر لكن لم يعلم ان النبي - حرم الخمر لقرب عهده بالاسلام أو لنشأه بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك

أو يعلم ان النبي - قال كل مسكر حرام او يعلم ان هذا خمر وان البي - حرم الخمر لكن لم يعلم ان محمدا رسول الله او لم يعلم انه حرمها على جميع المؤمنين بل ظن انه اباحها لبعض الناس وظن انه منهم كمن ظن انه اباح شربها للتداوي أوغير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريما عاما إلا ان يعلم انه مسكر وأنه خمر وأن النبي - حرم الخمر او ان النبي - حرم كل مسكر وانه رسول الله - حقا فما حرمه فقد حرمه الله وأنه حرمه تحريما عاما لم يبحه للتداوي ولا للتلذذ

ومما يبين ان تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل انهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهانى والخطابي والجدلى والشعري والسوفسطائي إنه قول مؤلف من أقوال او عبارة عما ألف من أقوال إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر قالوا واحترزنا بقولنا من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقيضها وليست قياسا قالوا ولم نقل مؤلف من مقدمات لانا لا يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة إلا بكونها جزء القياس فلو أخذناها في حد القياس كان دورا

والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس سموها مقدمة وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة وإن كانت مجردة عن ذلك سموها قضية وتسمى ايضا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة بل أعم منه فان المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية والقضية الخبرية قد تكون اسمية وفعلية كما لو قيل في قوله يقولون بالسنتهم ما ليس في قلوبهم الفتح وقوله لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق الفتح فان هذه جملة خبرية وليست المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة

والمقصود هنا انهم ارادوا بالقول في قولهم القياس قول مؤلف من اقوال القضية التي هي جملة تامة خبرية لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد فان القياس مشتمل على ثلاثة حدود اصغر وأوسط واكبر كما إذا قيل النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام ف النبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد وهي الحدود في القياس فليس مرادهم بالقول هذا بل مرادهم ان كل قضية قول كما فسروا مرادهم بذلك ولهذا قالوا قول مؤلف من اقوال إذا سلمت لزم عنها قول آخر واللازم إنما هو النتيجة وهي قضية وخبر وجملة تامة ليست مفردا ولذلك قالوا القياس قول فسموا مجموع القضيتين قولا

وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفا من أقوال وهي القضايا لم يجب ان يراد بذلك قولان فقط لان لفظ الجمع إما ان يكون متناولا ل اثنين فصاعدا كقوله فان كان له إخوة فلامه السدس النساء وإما ان يراد به الثلاثة فصاعدا وهو الاصل عند الجمهور

ولكن قد يراد به جنس العدد فيتناول الاثنين فصاعدا ولا يكون الجمع مختصا ب اثنين فاذا قالوا هو مؤلف من أقوال إن أرادوا جنس العدد كان المعنى من اثنين فصاعدا فيجوز ان يكون مؤلفا من ثلاث مقدمات واربع مقدمات فلا يختص بالاثنين وإن ارادوا الجمع الحقيقي لم يكن مؤلفا إلا من ثلاثة فصاعدا وهم قطعا ما ارادوا هذا لم يبق إلا الاول

فاذا قيل هم يلتزمون ذلك ويقولون نحن نقول اقل ما يكون القياس من مقدمتين وقد يكون من مقدمات فيقال اولا هذا خلاف ما في كتبكم فانكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط وقد صرحوا أن القياس الموصل الى المطلوب سواء كان اقترانيا او استثنائيا لا ينقص عن مقدمتين ولا يزيد عليهما

وعللوا ذلك بان المطلوب المتحد لا يزيد على جزئين مبتدأ وخبر فان كان القياس اقترانيا فكل واحد من جزئي المطلوب لا بد وان يناسب مقدمة منه أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرا ولا يكون هو نفس المقدمة قالوا وليس المطلوب اكثر من جزئين فلا يفتقر الى اكثر من مقدمتين وإن كان القياس استثنائيا فلا بد فيه من مقدمة شرطية متصلة او منفصلة تكون مناسبة لكل مطلوب او نقيضه ولا بد من مقدمة استثنائية فلا حاجة الى ثالثة

قالوا لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس إما غير متعلق بالقياس او متعلق به والمتعلق بالقياس إما لترويج الكلام وتحسينه أو لبيان المقدمتين أو إحداهما ويسمون هذا القياس المركب قالوا وحاصلة يرجع الى اقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا ان القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدا والباقي لبيان مقدمات القياس قالوا وربما حذوا بعض مقدمات القياس إما تعويلا على فهم الذههن لها او لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها قالوا ثم إن كانت الاقيسة لبيان المقدمات قد صرح فيها بنتائجها فيسمى القياس مفصولا وإلا فموصول

ومثلوا الموصول بقول القائل كل انسان حيوان وكل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان جوهر

والمفصول بقولهم كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم فكل إنسان جسم ثم يقول كل حيوان جسم وكل جسم جوهر فكل إنسان حيوان فيلزم منهما أن كل إنسان جوهر

فيقال لهم أما المطلوب الذي لا يزيد على جزئين فذاك في النطق به والمطلوب في العقل إنما هو شئ واحد لا اثنان وهو ثبوت النسبة الحكمية او انتفاؤها وإن شئت قلت اتصاف الموصوف بالصفة نفيا أو إثباتا وإن شئت قلت نسبة المحمول الى الموضوع والخبر الى المبتدأ نفيا او إثباتا وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية

فاذا كان النتيجة ان النبيذ حرام أو ليس بحرام او الانسان حساس او ليس بحساس او نحو ذلك فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ او انتفاؤه وكذلك ثبوت الحس للانسان او انتفاؤه والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب وكذلك قولنا الانسان حيوان

فاذا كان الانسان يعلم ان كل خمر حرام ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه هل يسمى في لغة الشارع خمرا فقيل النبيذ حرام لانه قد ثبت في الصحيح عن النبي - انه قال كل مسكر حرام كانت هذا القضية وهي قولنا قد قال النبي - إن كل مسكر خمر يفيد تحريم النبيذ وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية اخرى

والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع وهي إن ما صححه اهل العلم بالحديث فقد وجب التصديق بأن النبي - قاله وإن ما حرمه الرسول فهو حرام ونحو ذلك

فلو لزم ان يذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلوما كانت المقدمات اكثر من اثنتين بل قد تكون اكثر من عشر وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل

بقول النبي - ان يقول النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام فهذا حرام وكذلك يقول النبي - اوجب وما أوجبه النبي فقد وجب فهذا قد وجب

وإذا احتج على تحريم الامهات والبنات ونحو ذلك يحتاج ان يقول إن الله حرم هذا في القران وما حرمه الله فهو حرام واذا احتج على وجوب الصلوة والزكوة والحج بمثل قول الله تعالى ولله على الناس حج البيت (آل عمران) يقول إن الله اوجب الحج في كتابه وما أوجبه الله فهو واجب وأمثال ذلك ما يعده العقلاء لكنه وعيا وإيضاحا للواضح وزيادة قول لا حاجة اليها

وهذا التطويل الذي لا يفيد في قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم كقولهم في حد الشمس إنها كوكب يطلع نهارا وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضييع الزمان وإتعاب الاذهان وكثرة الهذيان ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون مختلفين في تحديد الامور المعروفة بدون تحديدهم ويتنازعون في البرهان على امور مستغنية عن براهينهم

إبطال قولهم ليس المطلوب اكثر من جزئين

وقولهم ليس المطلوب اكثر من جزئين فلا يفتقر الى اكثر من مقدمتين فيقال إن اردتم ليس له إلا اسمان مفردان فليس الامر كذلك بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة مثل من شك في النبيذ هل هو حرام بالنص أم ليس حراما لا بنص ولا قياس فاذا قال المجيب النبيذ حرام بالنص كان المطلوب ثلاثة اجزاء وكذلك لو سأل هل الاجماع دليل قطعي فقال الاجماع دليل قطعي كان المطلوب ثلاثة أجزاء فاذا قال هل الانسان جسم حساس نام متحرك بالارادة ناطق ام لا فالمطلوب هنا له ستة أجزاء

وفي الجملة فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر وهو جملة خبرية قد تكون جملة مركبة من لفظين وقد تكون من الفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدا قيودا كثيرة مثل قوله تعالى والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه التوبة وقوله تعالى إن الذين امنوا والذين هاجروا وجهدوا في سبيل الله اولئك يرجون رحمت الله (البقرة) وقوله والذين امنوا من بعد وهاجروا وجهدوا معكم فأولئك منكم (الأنفال) وأمثال ذلك من القيود التي يسميها النحاة الصفات والعطف والاحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك

فاذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين بل من الفاظ متعدده ومعان متعددة

وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان سواء عبر عنهما بلفظين او الفاظ متعددة قيل وليس الامر كذلك بل قد يكون المطلوب معنى واحدا وقد يكون معنين وقد يكون معاني متعددة فان المطلوب بحسب طلب الطالب وهو الناظر المستدل والسائل المتعلم المناظر وكل منهما قد يطلب معنى واحدا وقد يطلب معنيين وقد يطلب معانى والعبارة عن مطلوبه قد تكون بلفظ واحد وقد تكون بلفظين وقد تكون بأكثر فاذا قال النبيذ حرام قيل له نعم كان هذا اللفظ وحده كافيا في جوابه كما لو قيل له هو حرام

فان قالوا القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا كما ذكرتموه من التمثيل بالانسان فان هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا وهي خمس مطالب والتقدير هل هو جسم ام لا وهل هو حساس ام لا وهل هو نام أم لا وهل هو متحرك بالارادة ام لا وهل هو ناطق ام لا وكذلك فيما تقدم هل النبيذ حرام ام لا فاذا كان حراما فهل تحريمه بالنص او بالقياس

فيقال إذا رضيتم بمثل هذا وهو أن تجعلوا الواحد في تقدير عدد فالمفرد قد يكون في معنى قضية فاذا قال النبيذ المسكر حرام فقال المجيب نعم فلفظ نعم في تقدير قوله هو حرام

وإذا قال ما الدليل عليه فقال الدليل عليه تحريم كل مسكر او أن كل مسكر حرام أو قول النبي - كل مسكر حرام ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسما مفردا وهو جزء واحد لم يجعله قضية مؤلفه من اسمين مبتدأ وخبر فان قوله تحريم كل مسكر اسم مضاف

وقوله ان كل مسكر حرام بالفتح مفرد ايضا فان أن وما في حيزها في تقدير المصدر المفرد وإن المكسورة وما في حيزها جملة تامة ولهذا قال النحاة قاطبة ان إن تكسر إذا كانت في موضع الجملة والجملة خبر وقضية وتفتح في موضع المفرد الذي هو جزء القضية ولهذا يكسرونها بعد القول لانهم إنما يحكون بالقول الجملة التامة

وكذلك إذا قلت الدليل عليه قول النبي - او الدليل عليه النص او اجماع الصحابة او الدليل عليه الاية الفلانية او الحديث الفلاني او الدليل عليه قيام المقتضى للتحريم السالم عن المعارض المقاوم او الدليل عليه انه مشارك لخمر العنب فيما يستلزم التحريم وامثال ذلك مما يعبر فيه عن الدليل اسم مفرد لا بالقضية التي هي جملة تامة ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بالفاظ متعدده

والمقصود ان قولكم إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط إن أردتم لفظين فقط وإن ما زاد على لفظين فهو أدلة لا دليل واحد لان ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة الى دليل قيل لكم وكذلك يمكن ان يقال في اللفظين هما دليلان لا دليل واحد فان كل مقدمة تحتاج الى دليل

وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له فانه اذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظين وقد لا يحصل إلا بثلاثة او اربعة واكثر فجعل الجاعل اللفظين هما الاصل الواجب دون ما زاد وما نقص وان الزائد ان كان في المطلوب جعل مطالب متعددة وان كان في الدليل يذكر مقدمات جعل ذلك في تقدير اقيسة متعددة تحكم محض ليس هو اولى من ان يقال بل الاصل في المطلوب ان يكون واحدا ودليله جزء واحد فاذا زاد المطلوب على ذلك جعل ممطلوبين اوثلاثة او اربعة بحسب زيادته وجعل الدليل دليلين او ثلاثة او اربعة بحسب دلالته وهذا اذا قيل فهو احسن من قولهم لان اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردا والقباس هو الدليل ولفظ القياس يقتضى التقدير كما يقال قست هذا بهذا والتقدير يحصل بواحد كما يحصل باثنين وبثلاثة فأصل التقدير بواحد واذا قدر باثنين او ثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرا واحدا فكون تلك التقديرات اقيسة لا قياسا واحدا

فجعلهم ما زاد على الاثنين من المقدمات في معنى اقيسة متعددة وما نقص عن الاثنتين نصف قياس لا قياس تام اصطلاح محض لا يرجع الى معنى معقول كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة ل الماهية والوجود بمثل هذا التحكم

تنازع اصطلاحي في مسمى العلة والدليل

وحينئذ فيعلم ان القوم لم يرجعوا فيما سموه حدا وبرهانا الى حقيقة موجودة ولا الى امر معقول بل الى اصطلاح مجرد كتنازع الناس في العلة هل هي اسم لما يستلزم المعلوم بحيث لا يختلف عنها بحال فلا يقبل النقيض والتخصيص أو هو اسم لما يكون مقتضيا للمعلول وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط او وجود مانع وكاصطلاح بعض اهل النظر والجدل في تسمية احدهم الدليل ل ما هو مستلزم للمدلول مطلقا حتى يدخل في ذلك عدم المعارض والاخر يسمى الدليل ل ما كان من شأنه ان يستلزم المدلول وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط او وجود مانع وتنازع اهل الجدل هل على المستدل ان يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة او تفصيلا حيث يمكن التفصيل أو لا يتعرض لتبيينه لا جملة ولا تفصيلا او يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلا

وهذه امور وضعية اصطلاحية بمنزلة الالفاظ التي يصطلح عليها الناس للتعبير عما في انفسهم وبمنزلة ما يعتاده الناس في بعض الافعال لكونهم رأوا ذلك اولى بهم من غيره وإن كان غيره اولى منه ليست حقائق ثابتة في انفسها لامور معقولة يتفق فيها الامم كما يدعيه هؤلاء في منطقهم

بل هؤلاء الذين يجعلون العلة والدليل يراد به هذا او هذا اقرب الى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين فان هذا تخصيص لعدد دون عدد بلا موجب وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل وهو وصف التمام او مجرد الاقتضاء فكان ما اعتبره اولئك اولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء الذين لم يرجعوا إلا الى مجرد التحكم

المنطق امر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان

ولهذا كان العقلاء العارفون يصفون منطقهم بأنه امر اصطلاحي وضعه رجل من اليونان لا يحتاج اليه العقلاء ولا طلب العقلاء للعلم موقوفا عليه كما ليس موقوفا على التعبير بلغاتهم مثل فيلاسوفيا وسوفسطيقا وانولوطيقا وإثولوجيا وقاطيغورياس وإيساغوجى ومثل تسميتهم للفعل بالكلمة وللحرف بالاداة ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم

تعلم العربية فرض على الكفاية بخلاف المنطق

فلا يقول احد إن سائر العقلاء يحتاجون الى هذه اللغة لا سيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تتصوره الاذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف

وهذا ما احتج به ابو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف لما اخذ متى يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء اليه ورد عليه ابو سعيد بعدم الحاجة اليه وأن الحاجة انما تدعو الى تعلم العربية لان المعاني فطرية عقلية لا تحتاج الى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج اليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني فانه لا بد فيها من التعلم ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القران والحديث عليها فرضا على الكفاية بخلاف المنطق

بطلان القول بأن تعلم المنطق فرض على الكفاية

ومن قال من المتأخرين إن تعلم المنطق فرض على الكفاية فانه يدل على جهلة بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الاسلام وأجهل منه من قال إنه فرض على الاعيان مع ان كثيرا من هؤلاء ليسوا مقرين بايجاب ما اوجبه الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله

ومعلوم ان افضل هذه الامة من الصحابة والتابعين لهم باحسان وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم وكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف منطق اليونان فكيف يقال إنه لا يوثق بالعلم إن لم يوزن به او يقال إن فطر بني آدم في الغالب لا تستقيم إلا به

فان قالوا نحن لا نقول إن الناس يحتاجون الى اصطلاح المنطق بل الى المعاني التي توزن بها العلوم قيل لا ريب أن المجهولات لا تعرف إلا بالمعلومات والناس يحتاجون الى ان يزنوا ما جهلوه بما علموه وهذا من الموازين التي انزلها الله حيث قال الله الذي انزل الكتب بالحق والميزان الشورى وقال لقد ارسلنا رسلنا بالبينت وانزلنا معهم الكتب والميزان الحديد وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان فعلم أن الامم غير محتاجة إليه

ملخص دعاوي أهل المنطق وكذبها

وهم لا يدعون احتياج الناس الى نفس الفاظ اليونان بل يدعون الحاجة الى المعاني المنطقية التي عبروا عنها بلسانهم وهو كلامهم في المعقولات الثانية فان موضوع المنطق هو المعقولات الثانية من حيث يتوصل بها الى علم ما لم يعلم فانه ينظر في أحوال المعقولات الثابتة وهي النسب الثابتة للماهيات من حيث هي مطلقة عرض لها إن كانت موصولة الى تحصيل ما ليس بحاصل او معينة في ذلك لا على وجه جزئي بل على قانون كلي

ويدعون ان صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل كما ان صاحب اصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز بين ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أعم من الشرعي ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل

ويدعون ان نسبة منطقهم الى المعاني كنسبة العروض الى الشعر وموازين الاموال الى الاموال وموازين الاوقات الى الاوقات وكنسبة الذراع الى المذروعات

وهذا هو الذي قاله جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء إنه باطل فان منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل لا في صورة الدليل ولا في مادته ولا يحتاج ان يوزن به المعاني بل ولا يصح وزن المعاني به على ما هو عليه وإن كان فيه ما هو حق فلا بد في كلام كل مصنف من حق بل فيه امور باطلة إذا وزنت بها العلوم افسدتها

ودعواهم انه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن ان يزل في فكره دعوى كاذبة بل من أكذب الدعاوي

والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق وزعموا ان التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها فدكروا لمنطقهم اربع دعاوي دعوتان سالبتان ودعوتان موجبتان

ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق وان التصديقات لا تنال بغير ما ذكروه فيه من الطريق وهاتان الدعوتان من أظهر الدعاوي كذبا وأدعوا ان ما ذكروه من الطريق يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصورة وهذا ايضا باطل وقد تقدم البينة على هذه الدعاوي الثلاثة وسياتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي امثل من غيرها وهى دعواهم ان برهانهم يفيد العلم التصديقى

فان قالوا إن العلم التصديقي او التصوري ايضا لا ينال بدونه فهم ادعوا ان طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة إلا من الطريقين اللتين ذكروهما ما ذكروه من الحد وما ذكروه من القياس وادعوا ان ما ذكروه من الطريقين يوصلان الى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم بمعنى ان ما يوصل لا بد ان يكون على الطريق الذي ذكروه لا على غيره فما ذكروه آلة قانونية به توزن الطرق العلمية ويميز به بين الطريق الصحيحة والفاسدة فمراعاة هذا القانون يعصم الذهن ان يزل في الفكر الذي ينال به تصور او تصديق

هذا ملخص دعاويهم وكل هذه الدعاوي كذب في النفي والاثبات فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطل ولا ما اثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي ادعوه فيه وإن كان في طرقهم ما هو حق كما ان في طرق غيرهم ما هو باطل فما احد منهم ولا من غيرهم يصنف كلاما إلا ولا بد ان يتضمن ما هو حق ما معهم من الحق أقل مما مع اليهود والنصارى والمشركين

فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة الى مجموع ما معهم اكثر مما مع هؤلاء من الحق بل ومع المشركين عباد الاصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة الى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعلمية الاخلاق والمنازل والمداين

ولهذا كان اليونان مشركين كفارا يعبدون الكواكب والاصنام شرا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير ولولا ان الله من عليهم بدخول دين المسيح اليهم فحصل لهم من الهدى والتوحيد وما استفادوه من دين المسيح ما داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين

ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا على دين مركب من حنيفية وشرك بعضه حق وبعضه باطل وهو خير من الدين الذي كان عليه اسلافهم

وقد قيل إن آخر ملوكهم كان صاحب المجسطى بطلميوس

والمشهور المتواتر ان ارسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب ان هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيرا له كما ذكر ذلك ابن سينا وامثاله من الجهال باخبار الامم

مقالات سخيفة للمتفلسفة والمتصوفة في الانبياء المرسلين

ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم ان ارسطو كان هو الخضر خضر موسى

وهؤلاء منهم من يفضل الفلاسفة على الانبياء في العلم ويقول إن هارون كان أعلم من موسى وإن عليا كان أعلم من النبي - كما يزعمون ان الخضر كان أعلم من موسى وأن عليا وهارون والخضر كانوا فلاسفة يعلمون الحقائق العقلية العلمية اكثر من موسى وعيسى ومحمد لكن هؤلاء كانوا في القوة العلمية اكمل ولهذا وضعوا الشرائع العلمية

وهؤلاء يفضلون فرعون على موسى ويسمونه أفلاطن القبطي وقد يقولون إن صاحب مدين الذي تزوج موسى بنته هو أفلاطن اليوناني استاذ ارسطو ويقولون إن موسى كان أعلم من غيره بالسحر وإنه استفاد ذلك من حموه إذ كان عندهم ليست المعجزات إلا قوى نفسانية أو طبيعية أو فلكية من جنس السحر ولكن موسى كان مبرزا على غيره في ذلك، إلى أمثال ذلك من المقالات التي تقولها الملاحدة المتفلسفة المنتمون الى الاسلام في الظاهر من متشيع ومتصوف كابن سبعين وابن عربي وأصحابه

ولهم من هذا الجنس ما يطول حكايته مما يدل على انهم من اجهل الناس بالمعقول والمنقول ولم يكفهم جهلهم بما جاءت به النبوات حتى ضموا الى ذلك الجهل بأخبار العالم وأيام الناس والجهل بالعقليات

فان أفلاطن استاذ ارسطو كان قبل المسيح بأقل من اربعمائة سنة وذلك بعد موسى بمدة طويلة تزيد على فكيف يتعلم منه

إيطال القول بحياة الخضر

وقولهم إن الخضر هو ارسطو من اظهر الكذب البارد والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل والذين يقولون انه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطا لا ريب فيه

وسبب غلطهم انهم يرون في الاماكن المنقطعة وغيرها من يظن انه من الزهاد ويقول انا الخضر وقد يكون ذلك شيطانا قد يتمثل بصورة آدمي

وهذا مما علمنا في وقائع كثيرة حتى في مكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ راسه راس الجبل وقال انا الخضر وانا نقيب الاولياء وقال للرجل الرائي انت رجل صالح وانت ولي الله ومد يده الى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب اليه فناوله اياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل ومثل هذه الحكاية كثير

وكل من قال انه راى الخضر وهو صادق اما ان يتخيل له في نفسه انه راه ويظل ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من ارباب الرياضات واما ان يكون جنيا يتصور له بصورة انسان ليضله وهذا كثير جدا قد علمنا منه ما يطول وصفه واما ان يكون راى انسيا ظن انه الخضر وهو غالط في ظنه فان قال له ذلك الجني او الانسي انه الخضر فيكون قد كذب عليه لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الاقسام الثلاثة

واما الاحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن احد من الصحابة انه راى الخضر ولا اجتمع به لانهم كانوا اكمل علما وايمانا من غيرهم فلم يكن يمكن الشيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون انه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وانما هو شيطان جاء اليهم فيضلهم

ولو كان الخضر حيا لوجب عليه ان يأتي الى النبي - فيؤمن به ويجاهد معه كما اخذ الله الميثاق على الانبياء واتباعهم بقوله واذ اخذ الله ميثاق النبين لما اتيتكم من كتب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه (آل عمران) والخضر قد اصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد واصحابه

وهو ان كان نبيا فنبينا افضل منه وان لم يكن نبيا فأبو بكر وعمر افضل منه وهذا مبسوط في موضعه

حقيقة شخصيات أرسطو والاسكندر وذي القرنين

وكلامنا هنا في ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات كقولهم إن أرسطو وزير ذي القرنين المذكور في القرآن لأنهم سمعوا انه كان وزير الاسكندر وذو القرنين يقال له الاسكندر

وهذا من جهلهم فان الاسكندر الذي وزر له ارسطو هو ابن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب الى ارض القدس لم يصل الى السد عند من يعرف اخباره وكان مشركا يعبد الاصنام وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الاصنام، وذو القرنين كان موحدا مؤمنا بالله وكان متقدما على هذا ومن يسميه الاسكندر يقول هو الاسكندر بن دارا

ولهذا كان هؤلاء المفلسفة إنما راجوا على ابعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض وكجهال المتصوفة وأهل الكلام وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والايمان إما كفارا وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك وكذلك إنما ينفقون دائما على اعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين

مزيد الكلام على تحديدهم الاستدلال بمقدمتين فقط

وكلامنا الان فيما احتجوا به على انه لا بد في الدليل من مقدمتين لا اكثر ولا اقل وقد عرف ضعفه

ثم إنهم لما علموا ان الدليل قد يحتاج الى مقدمات وقد يكفى فيه مقدمة واحدة قالوا إنه ربما ادرج في القياس قول زائد أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد او صحيح كبيان المقدمتين ويسمونه المركب قالوا ومضمونه اقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد إلا ان المطلوب منها بالذات ليس إلا واحدا قالوا وربما حذفت إحدى القدمات إما للعلم بها او لغرض فاسد وقسموا المركب الى مفصول و موصول كما تقدم

فيقال هذا اعتراف منكم بان من المطالب ما يحتاج الى مقدمات و منها ما يكفى فيه مقدمة واحدة ثم قلتم ان ذلك الذى يحتاج الى مقدمات هو فى معنى اقيسة متعددة فيقال لكم اذا ادعيتم ان الذى لا بد منه انما هو قياس واحد يشتمل على مقدمتين وان ما زاد على ذلك هو في معنى اقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات فقولوا ان الذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وان ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات فانما هو لبيان تلك المقدمة

وهذا اقرب الى المعقول فانه اذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو ثبوت الحكم للمحكوم عليه وهو ثبوت الخبر للمبتدا او المحمول للموضوع الا بوسط بينهما هو الدليل فالذي لا بد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فقد يحتاج اليه وقد لا يحتاج اليه

واما دعوى الحاجة الى القياس الذي هو المقدمتان للاحتياج الى ذلك في بعض المطالب فهو كدعوى الاحتياج في بعضها الى ثلاث مقدمات واربع وخمس للاحتياج الى ذلك في بعض المطالب وليس تقدير عدد باولى من عدد وما يذكرونه من حذف احدى المقدمتين لوضوحها او للتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة

ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها في بيان المطلوب او مقدمتين او ثلاثة لا تكفي طولب بالتمام الذي يحصل به الكفاية واذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة حتى يتم الاستدلال كمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص حين قال هذا حرام فقيل له لم قال لانه نبيذ مسكر فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع ممن يعلم ان كل مسكر حرام اذا سلم له تلك المقدمة

وان منعه اياها وقال لا نسلم ان هذا مسكر احتاج الى بيانها بخبر من يوثق بخبره او بالتجربة في نظيرها وهذا قياس تمثيل وهو مفيد لليقين فان الشراب الكثير اذا جرب بعضه وعلم انه مسكر علم ان الباقي منه مسكر لان حكم بعضه مثل بعض وكذلك سائر القضايا التجربية كالعلم بأن الخبز يشبع والماء يروي وامثال ذلك انما مبناها على قياس التمثيل بل وكذلك سائر الحسيات التي علم انها كلية انما هو بواسطة قياس التمثيل

وان كان ممن ينازعه في ان النبيذ المسكر حرام احتاج الى مقدمتين الى اثبات ان هذا مسكر والى ان كل مسكر خمر فيثبت الثانية بأدلة متعددة كقول النبي - كل مسكر خمر وكل شراب اسكر فهو حرام وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل يقال له البتع وشراب يصنع من الذرة يقال له المزر وكان قد اوتي جوامع الكلم فقال كل مسكر حرام وهذه الاحاديث في الصحيح وهي واضعافها معروفة عن النبي - تدل على انه حرام كل شراب اسكر

فان قال انا اعلم انه خمر لكن لا اسلم ان الخمر حرام او لا اسلم انه حرام مطلقا اثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا

مزيد البيان ان المقدمة الواحدة قد تكفي

ومما يبين لك ان المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب ان الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه كما تقدم بيانه ولما كان الحد الاول مستلزما للاوسط والاوسط للثالث ثبت ان الاول مستلزم للثالث فان ملزوم الملزوم ملزوم ولازم اللازم لازم فالحكم لازم من لوازم الدليل لكن لم يعرف لزومه اياه الا بوسط بينهما والوسط ما يقرن بقولك لانه

و هذا مما ذكره المنطقيون ابن سينا وغيره ذكروا الصفات اللازمة للموصوف وان منها ما يكون بين اللزوم وردوا بذلك على من فرق من اصحابهم بين الذاتي واللازم للماهية بأن اللازم ما افتقر الى وسط بخلاف الذاتي فقالوا له كثير من الصفات اللازمة لا يفتقر الى وسط وهي البينة اللزوم والوسط عند هؤلاء هو الدليل

واما ما ظنه بعض الناس ان الوسط هو ما يكون متوسطا في نفس الامر بين اللازم القريب واللازم البعيد فهذا خطا ومع هذا يتبين حصول المراد على التقديرين فنقول

اذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج الى دليل يتوسط بينهما فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له واذا كان بينهما وسط فذاك الوسط اذا كان لزومه للملزوم الاول ولزوم الثاني له بينا لم يفتقر الى وسط ثان

وان كان احد الملزومين غير بين بنفسه احتاج الى وسط وان لم يكن واحد منهما بينا احتاج الى وسطين وهذا الوسط هو حد تكفي فيه مقدمة واحدة

فاذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر فقيل لانه قد صح عن النبي - أنه قال كل مسكر خمر او كل مسكر حرام فهذا الوسط وهو قول النبي - لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر له الى وسط ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر الى وسط فان كل احد يعلم انه اذا حرم كل مسكر حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه وكل مؤمن يعلم ان النبي - اذا حرم شيئا حرم

ولو قال الدليل على تحريمه انه مسكر فالمخاطب ان كان يعرف ان ذلك مسكر والمسكر محرم سلم له التحريم ولكنه كان غافلا عن كونه مسكرا او جاهلا بكونه مسكرا

وكذلك اذا قال لانه خمر فان اقر انه خمر ثبت التحريم واذا اقر بعد انكاره فقد يكون كان جاهلا فعلم او غافلا فذكر فليس كل من علم شيئا كان ذاكرا له

الخلاف في ان العلم بالمقدمتين كاف في العلم بالنتيجة ام لا

ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين هل هو كاف في العلم بالنتيجة ام لا بد من التفطن لامر ثالث وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره قالوا لان الانسان قد يكون عالما ب ان البغلة لا تلد ثم يغفل عن ذلك ويرى بغلة منتفخة البطن فيقول اهذه حامل ام لا فيقال له اما تعلم انها بغلة فيقول بلى ويقال له اما تعلم ان البغلة لا تلد فيقول بلى قال فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد

ونازعه الرازي وغيره وقالوا هذا ضعيف لان اندراج احدى المقدمتين تحت الاخرى ان كان مغايرا للمقدمتين كان ذلك مقدمة اخرى لا بد فيها من الانتاج ويكون الكلام في كيفية التيامها مع الاوليين كالكلام في كيفية التيام الاوليين ويفضى ذلك الى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات وان لم يكن ذلك معلوما مغايرا للمقدمتين استحال ان يكون شرطا في الانتاج لان الشرط مغاير للمشروط وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطا واما حديث البغلة فذلك انما يمكن اذا كان الحاضر في الذهن احدى المقدمتين فقط اما الصغرى واما الكبرى واما عند اجتماعهما في الذهن فلا نسلم انه يمكن الشك اصلا في النتيجة

قلت وحقيقة الامر ان هذا النزاع لزمهم في ظنهم الحاجة الى مقدمتين فقط

وليس الامر كذلك بل المحتاج اليه هو ما به يعلم المطلوب سواء كانت مقدمة او اثنتين او ثلاثا والمغفول عنه ليس بمعلوم حال الغفلة فاذا تذكر صار معلوما بالفعل وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تحبل وهذه المقدمة كان زاهلا عنها فلم يكن عالما بها العلم الذي يحصل به الدلالة فان المغفول عنه لا يدل حين ما يكون مغفولا عنه بل انما يدل حال كونه مذكورا اذ هو بذلك يكون معلوما علما حاضرا

والرب تعالى منزه عن الغفلة والنسيان لان ذلك يناقض حقيقة العلم كما انه منزه عن السنة والنوم لان ذلك يناقض كمال الحياة والقيومية فان النوم اخو الموت ولهذا كان اهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون وكانوا يلهمون التسبيح كما يلهم احدنا النفس

والمقصود هنا ان وجه الدليل العلم بلزوم المدلول له سواء سمي استحضارا او تفطنا او غير ذلك فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول له علم انه دال عليه وهذا اللزوم ان كان بينا له والا فقد يحتاج في بيانه الى مقدمة او ثنتين او ثلاثة او اكثر

والاوساط تتنوع بتنوع الناس فليس ما كان وسطا مستلزما للحكم في حق هذا هو الذي يجب ان يكون وسطا في حق الاخر بل قد يحصل له وسط اخر

فالاوساط هو الدليل وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم وهما المحكوم والمحكوم عليه فان الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكما له والاواسط التي هي الادلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية كما اذا كان الوسط خبر صادق فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا

واذا راى الناس الهلال وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس فأشاعوا ذلك في البلد فكل قوم يحصل لهم العلم بخبر من غير المخبرين الذين اخبروا غيرهم

والقران والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم لا سيما في القرن الثاني والثالث فهؤلاء هم مقرئون ومعلمون وهؤلاء مقرئون ومعلمون وهؤلاء هم وسائط وهم الاواسط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله وهم الذين دلوهم على ذلك باخبارهم وتعليمهم

وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل او الحس اذا نبه عليها منه وارشد اليها مرشد فذلك ايضا مما يختللف ويتنوع ونفس الوسائط العقلية تتنوع وتختلف

واما من جعل الوسط في اللوازم هو وسطا في نفس ثبوتها للموصوف فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه وبتقدير صحته فالوسط الذهني اعم من الخارجي كما ان الدليل اعم من العلة فكل علة يمكن الاستدلال بها على المعلول وليس كل دليل يكون علة في نفس الامر

وكذلك ما كان متوسطا في نفس الامر امكن جعله متوسطا في الذهن فيكون دليلا ولا ينعكس لان الدليل هو ما كان مستلزما للمدلول فالعلة المستلزمة للمعلول يمكن الاستدلال بها والوسط الذي يلزم الملزوم ويلزمه اللازم البعيد هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به

فتبين انه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة اذا لم يحتج الى غيرها وقد لا يمكن الا بمقدمات فيحتاج الى معرفتهن وان تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض

لا يلتزم الاستدلال بمقدمتين فقط الا اهل المنطق

ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين لا اكثر ولا اقل ويجتهد في رد الزيادة الى ثنتين وفي تكميل النقص بجعله مقدمتين الا اهل منطق اليونان ومن سلك سبيلهم دون من كان باقيا على فطرته السليمة او سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والانصار والتابعين لهم باحسان وسائر ائمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل

وكذلك اهل النحو والطب والهندسة لا يدخل في هذا الباب الا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل وما استفادوا بما تلقوه عنهم علما الا علما يستغني عن باطل كلامهم او ما يضر ولا ينفع لما فيه من الجهل او التطويل الكثير

ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين وتارة على مقدمات كانت طريقة نظار المسلمين ان يذكروا من الادلة على المقدمات ما يحتاجون اليه ولا يلتزمون في كل استدلال ان يذكروا مقدمتين كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم وسلوكهم في نظرهم لانفسهم ومناظرتهم لغيرهم تعليما وارشادا ومجادلة على ما ذكرت وكذلك سائر اصناف العقلاء من اهل الملل وغيرهم الا من سلك طريق هؤلاء

وما زال نظار المسلمين يعيبون طريق اهل المنطق ويبينون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق ويبينون انها الى افساد المنطق العقلي واللساني اقرب منها الى تقويم ذلك ولا يرضون ان يسلكوها في نظرهم ومناظرتهم لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه


الرد على المنطقيين
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19