الرد على المنطقيين/19
بطلان جعلهم النبوة جزءا من الفلسفة
والمتكلمون اذا حصروا طرق العلم حصروا طرق مثلهم وامثالهم فيذكرون الحسيات والعقليات الضرورية والنظرية سواء كان ذلك الحصر مطابقا او ليس بمطابق لم يقصدوا ان يذكروا الطريق التي بها يعلم النبي ما يوحي اليه بل هذه الطريق خارجة عما يقدرون عليه هم وامثالهم من الطرق وليست من جنسها عندهم بخلاف المتفلسفة فان النبي عندهم من جنس غيره من الاذكياء الزهاد لكنه قد يكون افضل والنبوة عندهم جزء من الفلسفة وهذا هو الضلال العظيم فان الفلسفة كلها لا يصير صاحبها في درجة اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل فضلا عن درجتهم قبل ذلك فضلا عن درجة المؤمنين اهل القران كالصحابة والتابعين فضلا عن درجة واحد من الانبياء فضلا عن الرسل فضلا عن اولي العزم منهم بل عامة اذكياء الناس وازهد الناس ان يكون مشبها للتابعين باحسان للسابقين الاولين
فأما درجة السابقين الاولين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها احد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ - انه قال قد كان في الامم قبلكم محدثون فان يكن في امتي فعمر وفي حديث اخر ان الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه وقال على كنا نتحدث ان السكينة تنطق على لسان عمر وفي الترمذي وغيره لو لم ابعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر
ومع هذا فالصديق اكمل منه فان الصديق كمل في تصديقه للنبي فلا يتلقى الا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ احيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به لكن قلبه ليس معصوما فعليه ان يعرض ما القي عليه على ما جاء به الرسول فان وافقه قبله وان خالفه رده ولهذا قد رجع عمر عن اشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فاذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع اليها وترك ما راه والصديق انما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو اكمل من المحدث وليس بعد ابي بكر صديق افضل منه ولا بعد عمر محدث افضل منه
كون معيار الولايات عند العارفين هو لزوم الكتاب والسنة
ولهذا كان الشيوخ العارفون المستقيمون من مشايخ التصوف وغيرهم يأمرون اهل القلوب ارباب الزهد والعبادة والمعرفة والمكاشفة بلزوم الكتاب والسنة قال الجنيد بن محمد علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرا القران ويكتب الحديث لا يصلح له ان يتكلم بعلمنا وقال الشيخ ابو سليمان الداراني انه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا اقبلها الا بشاهدين الكتاب والسنة وقال ايضا ليس لمن الهم شيئا من الخير ان يفعله حتى يسمع فيه بأثر وقال ابو عثمان النيسابوري من امر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن امر الهوى على نفسه نطق بالبدعة فان الله يقول وان تطيعوه تهتدوا النور وقال اخر من لم يتهم خواطره في كل حال فلا تعده في ديوان الرجال
وقيل لابي يزيد البسطامي قد قدم شيخ من اصحابك فذهب ليزوره فراه قد بصق في القبلة فقال ارجعوا بنا هذا رجل لم يأتمنه الله على ادب من اداب الشريعة فكيف يأتمنه على سره وهذا الذي فعله ابو يزيد يستدل عليه بما في السنن سنن ابي داود وغيره ان رجلا كان اماما في مسجد من مساجد الانصار فان كل قبيلة كان لها مسجد فجاء النبي ﷺ - فراى بصاقا في القبلة فقال من فعل هذا فذكرا الامام فنهاهم ان يصلوا خلفه فلما جاء ليؤمهم منعوه وقالوا ان رسول الله ﷺ - نهانا ان نصلي خلفك فجاء اليه فذكر ذلك له فقال صدقوا انك آذيت الله ورسوله
وقال غير واحد من الشيوخ والعلماء لو رايتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الامر والنهي ومثل هذا كثير في كلام المشائخ والعارفين وائمة الهدى وافضل اولياء الله عندهم اكملهم متابعة للانبياء ولهذا كان الصديق افضل الاولياء بعد النبين فما طلعت شمس ولا غربت على احد بعد النبيين والمرسلين افضل من ابي بكر لكمال متابعته وهم كلهم متفقون على انه لا طريق للعباد الى الله الا باتباع الواسطة الذي بينهم وبين الله وهو الرسول
ولكن دخل في طريقهم اقوام ببدع وفسوق والحاد وهؤلاء مذمومون عند الله وعند رسوله وعند اوليا الله المتقين وهم صالحوا عباده مثل من يظن ان لبعض الاولياء طريقا الى الله بدون اتباع الرسول او يظن ان من الاولياء من يكون مثل النبي او افضل منه او انه يكون من هو خاتم الاولياء افضل من السابقين الاولين او اعلم بالله من خاتم الانبياء وامثال هذه المقالات التي تقولها من دخل فيهم من الملاحدة الضالين ومن هذا الوجه صار قوم متصوفون يتفلسفون
وتكلم ابن سينا في اشاراته على مقامات العارفين وقال الرازي في شرحه هذا الباب اجل ما في الكتاب فانه رتب علم الصوفية ترتيبا ما سبقه اليه من قبله ولا يلحقه من بعده وهذا الذي قاله الرازي قاله بحسب معرفته فانه لم يكن عارفا بطريق الصوفية العارفين المتبعين للكتاب والسنة ولعله قد راى من صوفية وقته وفيه من الجهالات والضلالات ما راى ان هذا الكلام احسن ما يرتب عليه طريقهم وقد ذكر في مقامات العارفين امر النبوة التي يثبتونها الفناء المذموم والفناء المحمود
وآخر ما انتهى إليه العارفون في تسليكه هو الفناء عما سوى الحق الذي أثبته والبقاء به وهذا لو كان سالكه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر ويفعل ما امر الله به وينتهي عما نهى الله عنه فيسلك سلوك اتباع الرسل لكانت هذه الغاية سلوكا ناقصا عند ائمة العارفين فان الفناء الذي اثبته انما هو الفناء عن شهود السوي وكذلك من اتبعه مثل ابن الطفيل المغربي صاحب رسالة حي بن يقظان وامثاله وهذا فناء عن ذكر السوى وشهوده وخطوره بالقلب وهذا حال ناقص يعرض لبعض السالكين ليس هو الغاية ولا شرطا في الغاية
بل الغاية الفناء عن عبادة السوي وهو حال ابراهيم ومحمد الخليلين ﷺ - فانه قد ثبت في الصحاح عن النبي ﷺ - من غير وجه انه قال ان الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا
وحقيقة هذا الفناء هو تحقيق الحنيفية وهو اخلاص الدين لله وهو ان يغني يفني بعبادة الله عن عبادة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالحب فيه والبغض فيه عن الحب فيما سواه والبغض فيه فلا يكون لمخلوق من المخلوقين لا لنفسه ولا لغير نفسه على قلبه شركة مع الله تعالى ولهذا امر ابراهيم الخليل بذبح ابنه فانه كان قد سأل الله ان يهبه اياه ولم يكن له ابن غيره
فان الذبيح هو اسمعيل على اصح القولين للعلماء وقول اكثرهم كما دل عليه الكتاب والسنة فقال الخليل رب هب لي من الصلحين الصافات قال الله فبشرنه بغلم حليم الصافات والغلام الحليم اسماعيل واما اسحاق فقال فيه فبشرنه بغلام عليم واسحاق بشرت به سارة ايضا لما غارت من هاجر والله ذكر قصته بعد قصة الذببح فانه لما ذكر قصة الذببح قال بعدها وبشرناه باسحق نبيا من الصلحين والمقصود هنا أن الله امر الخليل بذبح ابنه بكره امتحانا له وابتلاء ليخرج من قلبه محبة ما سوى الله ليتم كونه خليلا بذلك فهذا هو الكمال
واما مجرد شهوده الحق من غير فعل ما يحبه ويرضاه فهذا ليس بايمان ينجي من عذاب الله فضلا عن ان يكون هذا غاية العارفين
ثم الذي لا يشهد السوي مطلقا ان شهده عين السوي فهذا قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود وان كان ذلك لغيبته واعراضه عن شهود السوي فمن شهد ما سواه مخلوقا له اية له وشهد ما فيه من اياته كان اكمل ممن لم يشهد هذا وهؤلاء قد يبلغ بهم الامر الى ان يروا ان شهود الذات مجردة عين الصفات هو اعلى مقامات الشهود وهذا من جهلهم فان الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج وليس ذاك رب العالمين ولكن هم في انفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الانسان تارة علم الرب وتارة قدرته فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة فهذا في غاية النقص في معرفة الله والايمان به فكيف يكون هذا غاية ومنهم من ينظر هذا شرطا في السلوك وليس كذلك بل السابقون الاولون اكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره احد عندهم لذموه وعابوه
الفرق بين شهود الخلق وشهود الشرع
ومن جعل من الصوفية هذا الفناء غاية وقال انه يفني عن شهود فعل الرب حتى لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة فهذا غلط عند ائمة القوم واصحاب هذا الفناء يسمون هذا اصطلاما ومحوا وجمعا وكان الجنيد رضي الله عنه لما راى طائفة من اصحابه وصلوا الى هذا امرهم بالفرق الثاني وهو ان يفرقوا بين المأمور والمحظور وما يحبه الله وما يسخطه حتى يحبوا ما احب ويبغضوا ما ابغض والا فاذا شهدوا خلقه لكل شيء ولم يشهدوا الا هذا الجمع استوت الاشياء كلها في شهودهم لشمول الخلق والمشيئة والقدرة لكل شيء وهذا شهود لقدره لا لشرعه ودينه فلم يبق في قلوبهم حب لما يحبه وبغض لما يبغضه وموالاة لما يواليه ومعاداة لما يعاديه وكانوا ممن انكر عليهم سبحانه بقوله ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصلحت كالمفسدين في الارض ام نجعل المتقين كالفجار وقال فيهم ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصلحت سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون الجاثية وقال افنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم
ونفس ولاية الله مخالفة لعداوته واصل الولاية والعداوة الحب والبغض فأولياء الله هم الذين يحبون ما احب ويبغضون ما ابغض واعداؤه الذين ما يحب ويحبون ما يبغض وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوآدون من حآد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه المجادلة وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم المائدة وقال ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (آل عمران)
فمن لم يشهد بقلبه الا خلقه الشامل ومشيئته العامة وربوبيته الشاملة لكل شيء لم يفرق بين وليه وعدوه ولم تتميز عنده الفرائض والنوافل وغيرها وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابي هريرة عن النبي ﷺ - قال يقول الله من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الى عبدي بمثل ما افترضت عليه
ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لاعطينه ولئن استعاذني لاعذته وما ترددت عن شيء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه
فالناظر الى القدر لا يفرق بين مأمور ومحذور سواء كان فرضا او نفلا وهو مع هذا لا بد لنفسه ان تميل الى شيء وتنفر عن شيء فان خلو الحي عن الارادة مطلقا محال فان لم يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه احب ما تحبه نفسه وابغض ما تبغضه نفسه فيخرج عن الفرق الالهي النبوي الذي هو حقيقة قول لا اله الا الله وحقيقة دين الاسلام الى الفرق النفساني الشيطاني
ثم هؤلاء صاروا فرقا اما ابن سينا وامثاله من الملاحدة فانهم يأمرون بهذا مع سائر الحادهم من نفي الصفات وقدم الافلاك وانكار معاد الابدان وجعل النبوة تنال بالكسب كالذكاء والزهد وانما يفيض عليها فيض من العقل الفعال فيخرج من دين المسلمين واليهود والنصارى
بل الفناء المحمود عند العارفين هو تحقيق شهادة ان لا اله الا الله فلا يشهد لمخلوق شيئا من الالهية فيشهد انه لا خالق غيره ويشهد انه لا يستحق العبادة غيره ويتحقق بحقيقة قوله اياك نعبد واياك نستعين الفاتحة وقوله فاعبده وتوكل عليه هود والا فاذا شهدت انه المستحق للعبادة مع رؤيتك نفسك لم تشهد حقيقة اياك نستعين واذا شهدت حقيقة انه الفاعل لكل شيء ولم تشهد انه المستحق للعبادة دون ما سواه وان عبادته انما تكون بطاعة رسوله لم تشهد حقيقة اياك نعبد واذا تحققت بقوله اياك نعبد واياك نستعين تحققت بالفناء في التوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه قال الله تعالى واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا اله الا هو فاتخذه وكيلا المزمل
وقال تعال فاعبده وتوكل عليه هود وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق وقال تعالى قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب الرعد
ولهذا لما سلك ابن عربي وابن سبعين وغيرهما هذه الطريق الفاسدة اورثهم ذلك الفناء عن وجود السوي فجعلوا الموجود واحدا ووجود كل مخلوق هو عين وجود الحق وحقيقة الفناء عندهم ان لا يرى الا الحق وهو الرائي والمرئي والعابد والمعبود والذاكر والمذكور والناكح والمنكوح والامر الخالق هو الامر المخلوق وهو المتصف بكل ما يوصف به الوجود من مدح وذم وعباد الاصنام ما عبدوا غيره وما ثم موجود مغاير له البتة عندهم وهذا منتهي سلوك هؤلاء الملحدين
فحقيقته قول فرعون لان فرعون كان في الباطن عالما بأن ما يقوله باطل وكان جاحدا مريدا للعلو والفساد ولهذا جحد وجود الصانع بالكلية واما هؤلاء فجهال ضلال يحسبون ان ما يقولونه هو حقيقة اثبات الرب وتعظيمه وهو في الحقيقة قول فرعون فان فرعون ما كان ينكر وجود هذا العالم ولا ينكر ان الموجودات تشترك في مسمى الوجود وانما كان ينكر ان لهذا الوجود خالقا مباينا له ولهذا امر ببناء ليكذب موسى بزعمه ان للعالم آلها فوقه قال تعالى وقال فرعون يهامن ابن لي صرحا لعلي ابلغ الاسباب أسباب السموات فأطلع الى اله موسى واني لا ظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء علمه وصد عن السبيل وما كيد فرعون الا في تباب الغافرة وقال تعالى وقال فرعون يأيها الملا ما علمت لكم من اله غيري فأوقد لي يهامن على الطين فاجعل لي صرحا لعلى اطلع الى اله موسى واني لا ظنه من الكذبين واستكبر هو وجنوده في الارض بغير الحق وظنوآ انهم الينا لا يرجعون فأخذنه وجنوده فنبذنهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلنهم ائمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين القصص
واكثر هؤلاء الملاحدة القائلين بوحدة الوجود يقولون ان فرعون اكمل من موسى وان فرعون صادق في قوله انا ربكم الاعلى لان الوجود فاضل ومفضول والفاضل يستحق ان يكون رب المفضول ومنهم من يقول مات مؤمنا وان تغريقه كان ليغتسل غسل الاسلام فانهم مع قولهم بأن الوجود واحد قد يقولون اما بقول بعضهم ان الثبوت غير الوجود وان ماهيات الممكنات ثابتة وان وجود الحق قاض عليها كما يقول ذلك ابن عربي وغيره واما ان يفرق بين المطلق والمعين كما يقوله صاحبه القونوي وابن سبعين قوله قريب من هذا وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وانما ذكروا هنا لان هؤلاء هم آخر مراتب فلاسفة الصوفية الذين يقولون انهم اهل التحقيق والعرفان وكل من سواهم عندهم ناقص بالنسبة اليهم وقد رايت من هؤلاء غير واحد
وهم يرتبون الناس طبقات ادناها عندهم الفقيه ثم المتكلم ثم الفيلسوف ثم الصوفي أي صوفي الفلاسفة ثم المحقق ويجعلون ابن سينا وامثاله من الفلاسفة في الثانية وابا حامد وامثاله من الصوفية من العشرة ويجعلون المحقق هو الواحد
ولهذا ذكر ابن عربي في الفتوحات له اربع عقائد الاول عقيدة ابي المعالي وامثاله مجردة عن الحجة ثم هذه العقيدة بحجتها ثم عقيدة الفلاسفة ثم عقيدة المحققين وذلك ان الفيلسوف يفرق بين الوجود والممكن والواجب وهؤلاء يقولون الوجود واحد والصوفي الذي يعظمه هؤلاء هو الصوفي الذي عظمه ابن سينا وبعده المحقق
وهؤلاء ليسوا مسلمين ولا يهودا ولا نصارى بل كثير من المشركين احسن حالا منهم وهؤلاء ائمة النظار المتفلسفة وصوفيتهم وشيعتهم كان من اسباب تسلطهم وظهورهم هو بدع اهل البدع من الجهمية والمعتزلة والرافضة ومن نحا نحوهم في بعض الاصول الفاسدة فان هؤلاء اشتركوا هم واولائك الملاحدة في اصول فاسدة يجعلونها قضايا عقلية صادقة وهي باطلة كاذبة مخالفة للشرع والعقل
مقالات للفلاسفة لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين
ثم أراد هؤلاء المتكلمون الرد عليهم في إلحادهم الظاهر الذي يظهر فيه فخالفتهم للمسلمين مثل القول بقدم العالم وانكار علم الله بالجزئيات والقول بانكار المعاد وهذه الثلاثة هي التي يكفرهم بها ابو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وطائفة يقولون ان سائر اقوالهم الباطلة هي البدع التي ذهب اليها بعض اهل الكلام كانكار الصفات وليس الامر كما قاله هؤلاء بل مقالاتهم التي لم يذهب اليها احد من طوائف المسلمين لا اهل البدعة ولااهل السنة كثيرة مثل قولهم في النبوات والملائكة وكلام الله وقولهم في الشفاعة وانكار مشيئة الله وقدرته وليس هذا من لوازم القول بقدم العالم بل في القائلين بذلك من يقول ان الله يفعل بمشيئته وقدرته كأحد القولين الذين ذكرهما ابو البركات واختاره وكذلك ما يقولونه في الملائكة انها مجرد ما يتخيل في النفوس او انها العقول وان الواحد منها ابدع كل ما سواه وان العقل الفعال هو المدبر لكل ما تحت الفلك وان الوحي على الانبياء انما يجيء منه وانه منتهى معاد الانفس
فانكارهم لقدرة الله ومشيئته اعظم من انكارهم لعلمه بالجزئيات فان كثير من الناس كان لا يعرف ذلك ولكن يعلم ان الله قادر خلق الاشياء بمشيئته كما في الصحيحين عن ابن معسود قال اجتمع عند البيت ثلثة نفر قرشيان وثقفى او ثقفيان وقرشى كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم أترون الله يسمع ما نقول فقال الثاني يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا فقال الثالث إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا اخفينا فأنزل الله وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولآ ابصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخسرين فصلت وهؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والارض بمشيئته وقدرته وكذلك كان بعض أحداث من المسلمين قد يجهل هذه المسئلة فيقول يا رسول الله مهما يكتم الناس يعلمه الله فيقول له النبي ﷺ - نعم ولم يكن هؤلاء يجهلون أن الله خلق كل شئ بمشيئته وقدرته بل كان هذا من أظهر الأمور وأعرفها عند عامة المسلمين بل وعامة المشركين الذين كانوا يعبدون الاصنام وهم كفار وهم مشركون وهم الذين قاتلهم النبي ﷺ - وهم اول من يتناوله ذم القرآن للمشركين ومع هذا فكانوا مقرين بأن الله خلق السموات والارض وما بينهما وخلق كل شئ بقدرته ومشيئته فكانوا احسن حالا من هؤلاء الفلاسفة في الاقرار بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه وانه خلق الاشياء بمشيئة وقدرته
فان هؤلاء حقيقة قولهم أنه لم يخلق شيئا ومتقدموهم كأرسطو وأتباعه على انه علة يتحرك الفلك للتشبه بها فليس هو عندهم لا موجبا بالذات ولا فاعلا بالمشيئة وأما ابن سينا وأمثاله ممن يقول إنه موجب بذاته فهم يقولون ما يعلم جماهير العقلاء أنه مخالف لضرورة العقل إذ يثبتون مفعولا ممكنا يمكن وجوده ويمكن عدمه وهو مع هذا قديم أزلى لم يزل ولا يزال وهو مفعول معلول لعلة فاعلة لم يزل مقارنا لها في الزمان فكل من هذين القولين مما خالفوا فيه جماهير العقلاء من الاولين والاخرين حتى سلفهم كأرسطو ونحوه فانهم لم يقولوا بهذا ولا بهذا بل أولئك يقولون إن الفلك قديم أزلى بنفسه ليس له مبدع ولكن يتحرك للتشبه بالعلة الاولى فهو مفتقر إليها من هذه الجهة لا من جهة أنها مبدعة له وحقيقة قوله أنها شرط في وجود العالم مع وجوبه بنفسه فيجعلون الواجب بنفسه مفتقرا الى غيره وهذا مما ينكره متأخروهم كابن سينا وامثاله
وكذلك القائلون بالعلة الموجبة كابن سينا وابن رشد والسهروردى وغيرهم حقيقة قولهم أنه شرط في وجود الممكنات لا مبدع لها ولا فاعل فانهم لا يثبتون للحوادث محدثا اصلا في نفس الامر إذ الفلك عندهم ممكن له مبدع وهو متحرك باختياره كما يتحرك الانسان باختياره وله نفس فلكية كما للانسان نفس وليس عندهم فوقه شئ يحدث عنه شئ
وإن قالوا إنه معلول فقولهم في الفلك أقبح من قول القدرية في أفعال الحيوان فان القدرية يقولون إن الله خلق الحيوان بقدرته ومشيئته فجعل له قدرة تصلح للضدين فهو يحدث إرادته وأفعاله بقدرته ومشيئته وهؤلاء لا يجعلون الفلك مخلوقا في الحقيقة وإن قالوا هو معلول ولو جعلوه مخلوقا فعندهم هو متحرك حركة إختيارية نفسانية بمشيئة وقوة فيه وليس فوقه شئ يحدث هذه الحركة ولا يفعلها وإنما الفلك متحرك للتشبه بالاول لاستخراج أيونه وأوضاعه إذ هى غاية كماله
وإن قالوا إن حركته تصدر عن الاول فكلام لا حقيقة له فانهم وكل عاقل يعلم أن الشئ البسيط الذي هو على حال واحدة أزلا وأبدا لا يحدث عنه شئ فضلا عن حوادث مختلفة ويعلمون أن المتغيرات لا تصدر عن بسيط ألبتة وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على ان الكفر الذي يوجد فيهم قولا وفعلا أعظم من كفر اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين هم أول من بعث إليه النبي ﷺ - ونزل فيه القرآن بكفره واستحقاقه النار
الشفاعة الشركية المنفية والشفاعة الشرعية الثابتة
ومن ذلك ان أولئك المشركين كانوا يجعلون ما يشركون به شفعاء يشفعون لهم الى الله والله يقبل شفاعتهم وهو سؤالهم ودعاؤهم بقدرته ومشيئته كما ذكر الله ذلك في مواضع من كتابه فقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعآؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الارض يونس
ولهذا نفى الله شفاعة احد إلا باذنه في غير موضع من القرآن بقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه (البقرة) وقوله وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع (الأنعام) وقال وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحيوة الدنيا وذكر به أن تبسل اى تحبس وتحبس وتؤخذ وترتهن نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين ابسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (الأنعام) وقال الله الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا شفيع افلا تتذكرون السجدة وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحنه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظلمين الانبياء وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سباء وقال تعالى وكم من ملك في السموات لا تغنى شفعتهم شيئا إلا من بعد أن بأذن الله لمن يشاء ويرضى النجم
فهذه الشفاعة التي نفاها القرآن تتضمن نفى ما كان يقوله مشركوا العرب وأمثالهم من المشركين وهى من جنس شرك النصارى ونحوهم من الضلال المنتسبين إلى الاسلام حيث يعتقدون في الملائكة او الانبياء أو الشيوخ انهم شفعاء لهم عند الله كما يشفع الشفعاء الى ملوك الدنيا ويضربون لله مثلا فيقولون من أراد أن يتقرب الى ملك عظيم فلا ينبغى له ان يأتيى اليه اولا بل يتقرب الى خاصته وهم يرفعون حوائجه ويقربونه اليه قال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى الزمر أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ذكر سبحانه هذا بعد قوله تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا انزلنا اليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذب كفار الزمر
وقال في هذه السورة أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهدي الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن ارادني الله بضر هل هن كشفت ضرة أو أرادنى برحمة هل هن ممسكت رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون الزمر وقال فيها قل إنى امرت أن اعبد الله مخلصا له الدين وامرت لان اكون اول المسلمين الزمر وقال فيها قل أفغير الله تأمرونى أعبد ايها الجهلون ولقد اوحى اليك وإلى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخسرين بل الله فاعبدوكن من الشكرين الزمر
تفسير قوله تعالى اولئك الذين يدعون يبتغون الاية
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا الاسراء
روى ابن ابي حاتم وغيره بأسانيد ثابتة عن شعبة عن السدي سمع ابا صالح عن ابن عباس في قول الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة هو عيسى وامه وعزير والملائكة وكذلك في تفسير عطية عن ابن عباس قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا وعن اسرائيل عن السدي عن ابي صالح عيسى وعزير والملائكة وكذلك في تفسير أسباط عن السدي قال ذكروا انهم اتخذوا الالهة وهو حين عبدوا الملائكة والمسيح وعزيرا قال الله أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن مسعود قال كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك الاخرون بعبادتهم فنزلت أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته الى اخر الاية وكذلك روى ابن ابي حاتم وغيره إن ابن شوذب عن مطر الوراق قال انزلها الله في حى من العرب كانوا يعبدون حيا من الجن وفي تفسير مقاتل إن المشركين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هى تشفع لنا عند الله فلما ابتلوا بالقحط سبع سنين قيل لهم ادعوا الذين زعمتم
والاية تتناول كل من دعى غير الله وذلك المدعو يبتغى الى الله الوسيلة اى القربى والزلفى ويرجو رحمة الله ويخاف عذابه وهذا يدخل فيه الملائكة والانبياء والصالحون الانس والجن وقد قرأ طائفة اولئك الذين تدعون فبين ان الذين يدعونهم المشركون هم يتقربون الى الله ويرجونه ويخافونه فكيف يجوز دعاؤهم وهذا كقوله أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دونى اولياء الكهف
حصر اقسام المدعوين من دون الله ونفى كل واحد منهم
وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سبأ فذكر سبحانه الاقسام الممكنة فان المشرك الذي يدعو غير الله ويرجوه ويخافه إما أن يجعله مالكا أو شريكا أو ظهيرا أو شفيعا وهكذا كل من طلب منه امر من الامور إما أن يكون مالكا مستقلا به وإما أن يكون شريكا فيه وإما أن يكون عونا وظهيرا لرب الامر وإما أن يكون سائلا محضا وشافعا الى رب الامر فاذا انتفت هذه الوجوه امتنعت الاستغاثة به
ولهذا كان الناس بعضهم مع بعض من الملوك وغيرهم فيما يتسأءلونه لا يخرجون عن هذه الاقسام إما إن يكون لكل منهما ملك متميز عن الاخر فيطلب من هذا ما في ملكه ومن هذا ما في ملكه وإما أن يكون أحدهما شريكا للاخر فيطلب منه ما يطلب من الشريك وإما ان يكون أحدهما من أعوان الاخر وانصاره وظهرانه كأعوان الملوك فهو محتاج اليهم فيطلب منهم ما يحتاج اليه وإذا انتفت هذه الوجوده لم يبق إلا مجرد طلب محض وسؤال من غير حاجة بالمسئول الى السائل الشافع
والمشركون بالله كل منهم في نوع من هذه الانواع منهم من اثبت فاعلا مستقلا غير الله لكن لم يثبتوه مماثلا له لا في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله وهذا كالمجوس الذين أثبتوا قديما شريرا يستقل بفعل الشر وكذلك القائلون منهم انه خلق الشر والقدرية من جميع الامم أثبتوا غير الله يحدث أشياء ينفرد باحداثها دون الله وإن كان الله خالقا له ولهذا قال السلف القدرية مجوس هذه الامة
والقائلون بقدم العالم كلهم لا بد لهم من إثبات غير الله فاعلا اما ارسطو وأتباعه فان الفلك عندهم بحركته هو المحدث للحركات وما يتولد عنها ثم من أثبت له شريكا من العقول والنفوس جعله مستقلا باحداث شئ وذاك مستقلا باحداث شئ ومن قال منهم بالعلة المشبهة بها ومن قال بالموجب بالذات فان الطائفتين لا يثبتون في الحقيقة ان الله احدث شيئا ولا خلقه
والله سبحانه نفى ان يكون لغير ملك أو شرك في الملك او يكون له ظهير فانه سبحانه هو وحده خالق كل شئ وربه ومليكه وهذا هو مذهب اهل السنة المثبتين للقدر القائلين بأن الله خالق كل شئ بمشيئته وقدرته لكن السلف والائمة وأتباعهم يثبتون قدره العبد وفعله ويثبتون الحكمة والاسباب وجهم ومن اتبعه من اهل الكلام ينفون ذلك كله كما قد بسط في موضعه
تفسير قوله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية
ولم يثبت سبحانه إلا الشفاعة لكن اثبت شفاعة مفيدة ليست هي الشفاعة التي يظنها المشركون فقال تعالى ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير سبا وقد جاءت الاحاديث الصحيحة والاثار عن الصحابة والتابعين تخبر بما يوافق تفسيرهذه الاية من حال الملائكة مع الله كما وصفهم تعالى في الاية الاخرى فقال بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ففي الحديث الصحيح الذي رواه احمد والبخاري وغيرهما عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابي هريرة يبلغ به النبي ﷺ - قال ان الله اذا قضى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيسمعها مسترقو السمع وهم هكذا ووصف سفيان بيده فأقامها منحرفة فربما ادرك الشهاب المسترق قبل ان يرمى بها الى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه فيرمى بها الى الذي يليه ثم يرمى بها الى الذي يليه الى الذي يليه ثم يلقيها الى الارض فتلقى على لسان الساحراو لسان الكاهن فيكذب عليها مائة كذبة فيقولون قد اخبر يوم كذا وكذا بكذا وكذا فوجدنا حقا للكلمة التي سمعت من السماء
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن الزهرى عن علي بن الحسين عن عبدالله بن عباس حدثني رجل من الانصار انهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله ﷺ - رمى بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله ﷺ ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية قالوا كنا نقول ولد عظيم او مات عظيم قال فانه لا يرمى بها لموت احد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى امرا سبحه حمله العرش ثم سبحه اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل السماء الدنيا ثم يقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ما ذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير فيقولون كذا وكذا فيخبر اهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر اهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه الى أوليائهم فيلقون الى اوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون
وكذلك في الحديث الاخر المعروف من رواية نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن ابي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله ﷺ - إذا اراد الله ان يوحى بأمره تكلم بالوحي فاذا تكلم اخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله فاذا سمع بذلك اهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون اول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما اراد فيمضي به جبريل على الملئكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ما ذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهى جبريل بالوحى إلى حيث امره الله من السماء والارض وقد رواه ابن ابي حاتم والطبري وغيرهما
وقوله فزع عن قلوبهم أي ازال عنها الفزع وكذلك قال غير واحد من السلف جلى عن قلوبهم وهذا كما يقال قرد البعير إذا ازال عنه القراد ويقال تحرج وتحوب وتأثم وتحنث إذا أزال عنه الحرج والحوب والاثم والحنث
وروى ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن محمد الواسطي ثنا يزيد بن هارون عن شريك عن يزيد بن ابي زياد عن مقسم عن ابن عباس في قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم قال كان إذا نزل الوحي كان صوته كوقع الحديد على الصفوان قال فيصعق اهل السماء حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالت الرسل الحق وهو العلى الكبير وقال عن الحادث الدمشقي ثنا أبى عن عن جعفر بن ابي المغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قال تنزل الامر الى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة فيفزع له جميع اهل السموات فيقولون ما ذا قال ربكم ثم يرجعون الى انفسهم فيقولون الحق وهو العلى الكبير
ويروى من تفسير عطية عن ابن عباس حتى إذا فزع عن قلوبهم الاية قال لما اوحى الله الى محمد دعا الرسول من الملئكة ليبعثه بالوحي سمعت الملئكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا ان الله لا يقول إلا حقا وانه منجزة قال ابن عباس وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا فلما سمعوه خروا سجدا فلما رفعوا رؤسهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير
وباسناده من تفسير قتادة رواية عبد الرزاق عن معمر عنه حتى إذا فزع عن قلوبهم قال لما كانت الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد ﷺ - فنزل الوحى مثل صوت الحديد فأفزع الملئكة ذلك فقال الله حتى إذا فزع الملائكة والنبيين اربابا فهو كافر مع ان المشركين إنما كانوا يتخذونهم شفعاء ويتقربون بهم الى الله زلفى فاذا كان هؤلاء الذين دعوا مخلوقا ليشفع لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيسأله ويرغب اليه بلا إذنه وقد جعلهم الله مشركين كفارا مأواهم جهنم فكيف بشرك هؤلاء الفلاسفة وما يثبتونه من الشفاعة فانهم يجوزون دعاء الجواهر العلوية الشمس والقمر والكواكب وكذلك الارواح التي يسمونها العقول والنفوس ويسميها من انتسب الى اهل الملل الملائكة وهؤلاء المشركون قد تنزل عليهم أرواح تقضى بعض مطالبهم وتخبرهم ببعض الامور وهم لا يميزون بين الملائكة والجن بل قد يسمون الجميع ملائكة وارواحا ويقولون روحانية الشمس روحانية عطارد روحانية الزهرة وهى الشيطان والشيطانة التي تضل من اشرك بها كما ان لنفس الاصنام وهي التماثيل المصنوعة على اسم الوثن من الانبياء والصالحين او على اسم كوكب من الكواكب أو روح من الارواح والاصنام ايضا لها شياطين تدخل فيها وتكلم أحيانا بعض المشركين وقد تترايا احيانا فيراها بعض الناس من السدنة وغيرهم
فالمشركون من الفلاسفة القائلين بقدم العالم هم اعظم شركا وما يدعونه من الشفاعة لالهتم أعظم كفرا من مشركى العرب فانهم لا يقولون إن الشفيع يسأل الله والله يجيب دعوته كما يقوله المشركون الذين يقولون إن الله خالق بقدرته ومشيئته فان هؤلاء عندهم انه لا يعلم الجزئيات ولا يحدث شيئا بمشيئته وقدرته وإنما العالم فاض عنه
فيقولون إذا توجه الداعى الى من يدعوه كتوجه الى الموتى عند قبورهم وغير قفبورهم وتوجهه الى الارواح العالية فانه يفيض عليهم ما يفيض من ذلك المعظم الذي دعاه واستغاث به وخضع له من غير فعل من ذلك الشفيع ولا سؤال منه لله تعالى كما يفيض شعاع الشمس على ما يقابلها من الاجسام الصقيلة كالمرآة وغيرها ثم ينعكس الشعاع من ذلك الجسم الصقيل الى حائط أو ما ء وهذا قد ذكره غير واحد من هؤلاء كابن سينا ومن اتبعه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره
وهؤلاء يزورون القبور الزيارة المنهى عنه بهذا القصد فان الزيارة الشرعية مقصودها مثل مقصود الصلوة على الجنازة يقصد بها السلام على الميت والدعاء له بالمغفرة والرحمة وأما الزيارة المبتدعة التي هى من جنس زيادة المشركين فمقصودهم بها طلب الحوائج من الميت أو الغائب إما ان يطلب الحاجة منه او يطلب منه ان يطلبها من الله وإما ان يقسم على الله به ثم كثير من هؤلاء يقول إن ذلك المدعو يطلب تلك الحاجة من الله او أن الله يقضيها بمشيئته واختياره للاقسام على الله بهذا المخلوق وأما أولئك الفلاسفة فيقولون بل نفس التوجه الى هذه الروح يوجب ان يفيض منها على المتوجه ما يفيض كما يفيض الشعاع من الشمس من غير ان تقصد هى قضاء حاجة احد ومن غير ان يكون الله يعلم بشئ من ذلك على اصلهم الفاسد
فتبين ان شرك هؤلاء وكفرهم اعظم من شرك مشركى العرب وكفرهم وأن اتخاذ هؤلاء الشفعاء الذين يشركون بهم من دون الله اعظم كفرا من اتخاذ اولئك
ليس توسط البشر عند الحنفاء كتوسط العلويات عند الفلاسفة
ولهذا كانت مناظرة كثير من أهل الكلام لهم مناظرة قاصرة حيث لم يعرف أولئك حقيقة ما بعث الله به رسله وانزل به كتبه وما ذمه من الشرك ثم يكشفون بنور النبوة ما عند هؤلاء من الضلال كما ناظرهم الشهر ستانى في كتاب الملل و(النحل) لما ذكر فصلا في المناظرة بين الحنفاء وبين الصابئة المشركين فان الحنفاء يقولون بتوسط البشر وأولئك يقولون بتوسط العلويات فأخذ يبين أن القول بتوسط البشر أولى من القول بتوسط العلويات ومعلوم انه إذا اخذ التوسط على ما يعتقدونه في العلويات كان قولهم اظهر فكان رده عليهم ضعيفا لضعف العلم بحقيقة دين الاسلام، فان الحنفاء ليس فيهم من يقول باثبات البشر وسائط في الخلق والتدبير والرزق والاحياء والاماتة وسماع الدعاء وإجابة الداعي بل الرسل كلهم وأتباع الرسل متفقون على انه لا يعبد إلا الله وحده فهو الذي يسأل ويعبد وله يصلى ويسجد وهو الذي يجيب دعاء المضطرين ويكشف الضر عن المضرورين ويغيث عباده المستغيثين ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الفاطر وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فاليه تجئرون (النحل)
وليس عند الحنفاء ان احدا غير الله يستقل بفعل شئ بل غايته أن يكون سببا والاثر لا يحصل إلا به وبغيره من الاسباب وبصرف الموانع والله تعالى هو الذي يخلق بتأثير الاسباب وبدفع الموانع مع خلقه سبحانه ايضا لهذا السبب لكن المقصود انه ليس في الوجود ما يستقل باحداث شئ ولا ثم شئ يوجب كل اثر إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
والرسل هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ رسالاته وامره ونهيه ووعده ووعيده كما قال تعالى وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين (الأنعام) والكهف وقال إنا أرسلناك شهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا الاحزاب فاخبر انه ارسله شاهدا كما قال لكيون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس الحج وقال فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء وقال وكذلك جعلنكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة) ولما دفن النبي ﷺ شهداء احد قال اما انا فشهيد على هؤلاء وقوله مبشرا ونذيرا بالوعد والوعيد وداعيا الى الله باذنه بالامر والنهى
وقال تعالى وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن الهه يعبدون الزخرف وقال ولقد بعثنا في كل امة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضللة (النحل) وقال تعالى ومأ أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه انه لا اله إلا انا فاعبدون الانبياء وقد اخبر الله عن اول الرسل نوح عليه السلام ومن بعده من الرسل انهم قالوا لقومهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره (الأعراف) وقال نوح ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول غنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله اعلم بما في انفسهم إنى إذا لمن الظالمين هود وكذلك قال لخاتم الرسل قل لا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك إن أتبع إلا ما يوحى الى (الأنعام)
فتوسط البشر بالرسالة مثل توسط الملك بالرسالة كما قال تعالى الله يصطفى من الملئكة رسلا ومن الناس الحج وقال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم امين التكوير فهذا جبريل ثم قال وما صاحبكم بمجنون التكوير وقوله وما صاحبكم كقوله في الاية الاخرى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى النجم
استطراد: الحكمة في إرسال الرسول البشري الى البشر دون الملكى
فقوله صاحبكم تنبيه على نعمته على البشر واحسانه اليهم إذ بعث اليهم من يصحبهم ويصحبونه بشرا مثلهم فانهم لا يطيقون الاخذ عن الملك كما قال تعالى وقالوا لولا انزل عليه ملك ولوانزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون ولو جعلنه ملكا لجعلنه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (الأنعام)
وروى ابن ابي حاتم عن ابي زرعة عن منجاب بن الحرث عن بشر بن عمارة عن ابي روق عن الضحاك عن ابن عباس ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر لأهلكناهم ثم لا ينظرون لا يؤخرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا يقول لو اتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لانهم لا يستطيعون النظر الى الملئكة وكذلك قال غيره من المفسرين وللبسنا عليهم قالوا لخلطنا ولشبهنا عليهم ما يخلطون ويشبهون على انفسهم حتى يشكوا فلا يدروا املك هو او ادمى
فبين سبحانه انه لو أنزل ملكا لم يمكنهم ان يروه إلا في صورة بشر كما كان جبريل يأتى النبي ﷺ - إذا رآه الناس في صورة دحية الكلبى او في صورة اعرابي لما اتاه وسأله عن الاسلام والايمان والاحسان وكذلك لما اتوا إبراهيم ولوطا ورأتهم سارة وقم لوط لم يأتوا إلا في صورة رجال وكذلك لما اتى جبريل مريم علهيا السلام لينفخ فيها اتاها في صورة رجل قال تعالى فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلما زكيا مريم وإذا كانوا لا يستطيعون ان يروا الملك إلا في صورة رجل فلو جاءهم لقالوا هذا بشر ليس بملك واشتبه الامر واختلط والتبس الامر عليهم فلم تكن هذه شبهة تنقطع بانزال ملك
وهذا كما قال في السورة الاخرى ويسئلونك عن الروح قل الروح من امر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ولئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى اكثر الناس إلا كفورا الى قوله وما منع الناس ان يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الارض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا الاسراء
وايضا في قوله صاحبكم بيان انه عربي بعث بلسانهم كما قال ومآ ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ابراهيم وقد قال تعالى لقد جآءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم التوبة
قيل المراد من انفس العرب فالخطاب لهم
وقيل من انفس بني ادم فهو بشر لا ملك ولا جني لان الخطاب لجميع الخلق الذين ارسل اليهم لا سيما وهذه في سورة براءة وهي من اخر القران نزولا وقيل ان هذه الاية اخر ما نزل وقد نزلت بعد دعوة الروم والفرس والقبط وهو بالمؤمنين من هؤلاء كلهم رؤف رحيم ولا ريب انه ﷺ من الانس ومن العرب افضل الانس ومن قريش افضل العرب ومن بني هاشم افضل قريش والانفس يراد بهم جنس الانسان كما قال تعالى لولآ اذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنت بأنفسهم خيرا النور فقوله صاحبكم مثل قوله من انفسكم ومثل قوله اكان للناس عجبا ان اوحينآ الى رجل منهم ان انذر الناس يونس
وقوله سبحاني ربي هل كنت الا بشرا رسولا الاسراء لم يقصد بهذا اللفظ تفضيل الملك عليه كما توهمه بعض الناس كما ان قوله ان اوحينا الى رجل منهم وقوله سبحان ربي هل كنت الا بشرا رسولا لم يقصد به ان غيره افضل منه
استطراد آخر: كون الرسول مبلغا للقرآن عن الله لا محدثا له
وقال سبحانه وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطن رجيم التكوير فالرسول هنا هو الرسول الملكي جبريل وقال في السورة الاخرى انه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من احد عنه حجزين الحاقة فالرسول هنا محمد ﷺ وأضافه الى هذا الرسول تارة والى هذا تارة لان كلا من الرسولين بلغه واداه ولفظ الرسول يتضمن مرسلا ارسله فكان في اللفظ ما يبين ان الرسول مبلغ له عن غيره لا ان الرسول احدث شيئا منه كما توهمه بعض الناس وظن ان اضافته الى رسول يقتضى انه هو الذي احدث القران العربي فانه قد اضافه الى هذا تارة والى هذا تارة فلو كان المراد الاحداث لتناقض الخبران
ولانه اضافه اليه باسم رسول لم يقل انه لقول ملك ولا قول بشر بل قد كفر من قال انه قول البشر في قوله ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا الى قوله انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم ادبر واستكبر فقال ان هذا الا سحر يؤثر ان هذا الا قول البشر ساصليه سقر المدثر
والكلام الذي توعد بسقر من قال انه قول البشر هو الكلام الذي اضافه الى رسول من البشر تارة والى رسول من الملئكة تارة لان المراد هناك انه بلغه والذي كفره قال انه انشأه وانه كلام نفسه سواء كان المراد المعنى او اللفظ او كلاهما فان الذي لعنه الله هو الذي قال ان هذا الا قول البشر
فمن قال ان هذا القران قول البشر فهو من جنس قوله من بعض الوجوه ولهذا قال تعالى وان احد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه التوبة فأخبر ان ما يسمعه المستجير هو كلام الله والمستجير يسمعه بصوت القارىء والصوت صوت القارى والكلام كلام الباري كما قال النبي ﷺ - زينوا القران بأصواتكم وقال لله اشد اذنا الى الرجل الحسن الصوت بالقران من صاحب القينة الى قينته
وكذلك ذكر في غير موضع ان الصوت المسموع من العبد هو صوت العبد كما قال تعالى يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض الحجرات وقال ان الذين يغضون اصواتهم عند رسول الله اولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الحجرات وقال لقمن لابنه واقصد في مشيك واغضض من صوتك ان انكر الاصوات لصوت الحمير لقمان
وفي سنن ابي داود عن جابر ان النبي ﷺ - كان يقول في الموسم الا رجل يحملني الى قومه لابلغ كلام ربي فان قريشا قد منعوني ان ابلغ كلام ربي
فرسل الله وسائط في تبليغ رسالاته كما قال تعالى يأيها الرسول بلغ مآ انزل اليك من ربك المائدة وقال تعالى الا من ارتضى من رسول فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم الجن وقال تعالى عن نوح ولكني رسول من رب العلمين ابلغكم رسلات ربي (الأعراف) وكذلك قال هود (الأعراف)
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ - انه قال بلغوا عني ولو اية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار وفي السنن عن زيد بن ثابت وابن مسعود ان النبي ﷺ - قال نضر الله امرا سمع منا حديثا فبلغه الى من يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه الى من هو افقه منه وفي الصحيحين عن النبي ﷺ - انه قال في حجة الوداع ليبلغ الشاهد الغائب فرب من مبلغ اوعى من سامع
والمقصود هنا ان الحنفاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له وهم مسلمون وجميع الانبياء واممهم كانوا مسلمين مؤمنين ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران) لان الدين عند الله الاسلام (آل عمران) في كل زمان ومكان وقد اخبر الله عن نوح وابراهيم واسرائيل وغيرهم الى الحواريين انهم كانوا مسلمين ونوح اول رسول بعث الى اهل الارض كما ثبت ذلك في الحديث المتفق على صحته حديث الشفاعة عن النبي ﷺ فمن جعل ما يثبته الحنفاء من توسط البشر او توسط الملئكة من جنس ما يثبته المشركون واخذ يفاضل بين البشر والملئكة لم يكن عارفا بدين الاسلام
بل قول الحنفاء هو ما قاله الله تعالى في كتابه حيث قال ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربايين بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم ان تتخذوا الملئكة والنبين اربابا ايأمركم بالكفر بعد اذ انتم مسلمون (آل عمران) فمن اتخذ هؤلاء او هؤلاء اربابا كما يقول من يجعلهم وسائط في العبادة والدعاء ونحو ذلك فهو كافر
وصاحب الكتب المضنون بها قد جعل الملئكة والنبيين وسائط وجعل هذه شفاعتهم موافقة للفلاسفة كما تقدم من ان هذا القول شر من قول مشركي العرب
وجاء بعده صاحب كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم فذكر فيه الشرك الصريح من عبادة الكواكب والجن والشياطين ودعواتها وبخورها وخواتيمها واصنامها التي تجعل لها على مذهب المشركين الكلدانيين والكشدانيين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل وبنى على ذلك القول بقدم العالم وان لا سبب لحدوث الحوادث الا مجرد حركة الفلك كما يقوله هؤلاء القائلون بقدم العالم الذين هم شر من مشركي العرب
وكذلك ذكر في تفسير حديث المعراج ما هو مبني على اصول هؤلاء الذين هم اكفر الكفار كقوله ان الانبياء الذين رآهم النبي ﷺ - هم الكواكب فآدم القمر ويوسف الزهرة ونحو هذا الهذيان وان المعراج انما هو رؤية قلبه الوجود كما يذكر ابن عربي وغيره مثل هذا المعراج ويثبتون لانفسهم اسراء ومعراجا
وهذه خيالات تلقيها الشياطين مناسبة لما يعتقدونه من الالحاد على عادة الشياطين في إضلال بني آدم فانما يضلونهم بما يقبلونه منهم وما يوافق اهواءهم
والحمد لله رب العالمين
الرد على المنطقيين | |
---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 |