انتقل إلى المحتوى

الخصائص/باب في مقاييس العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


مقاييس العربية
باب في مقاييس العربية

وهي ضربان: أحدهما معنوي، والآخر لفظي. وهذان الضربان وإن عما وفشوا في هذه اللغة، فإن أقواهما وأوسعهما هو القياس المعنوي، ألا ترى أن الأسباب المانعة من الصرف تسعة: واحد منها لفظي، وهو شبه الفعل لفظاً، نحو أحمد، ويرمع، وتنضب، وإثمد، وأبلم، وبقم، وإستبرق، والثمانية الباقية كلها معنوية، كالتعريف، والوصف، والعدل، والتأنيث، وغير ذلك. فهذا دليل.
ومثله اعتبارك باب الفاعل والمفعول به، بأن تقول: رفعت هذا لأنه فاعل، ونصبت هذا لأنه مفعول. فهذا اعتبار معنوي لا لفظي. ولأجله ما كانت العوامل اللفظية راجعة في الحقيقة إلى أنها معنوية، ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفراً، فإن "ضرب" لم تعمل في الحقيقة شيئاً، وهل تحصل من قولك ضرب إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء على صورة فعل، فهذا هو الصوت، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل.
وإنما قال النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي، ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه، كمررت بزيد، وليت عمراً قائم، وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به كرفع المبتدأ بالابتداء. يرفع الفعل لوقوعه موقع الاسم، هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة ؟؟؟؟؟؟؟؟ ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي، لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامة اللفظ للفظ، أو باشتمال المعنى على اللفظ. وهذا واضح.
واعلم أن القياس اللفظي إذا تأملته عارياً من اشتمال المعنى عليه، ألا ترى أنك إذا سئلت عن "إن" من قوله:

ورج الفتى للخير ما إن رأيته
على السن خيراً لا يزال يزيد

فإنك قائل: دخلت على "ما" -وإن كانت "ما" ههنا مصدرية-؛ لشبهها لفظاً بما النافية التي تؤكد بإن من قوله:

ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم
تخالج الأمر إن الأمر مشترك

وشبه اللفظ بينهما يصير "ما" المصدرية إلى أنها كأنها "ما" التي معناها النفي، أفلا ترى أنك لو لم تجذب إحداهما إلى أنها كأنها بمعنى الأخرى لم يجز لك إلحاق "إن" بها.
فالمعنى إذاً أشيع وأسير حكماً من اللفظ، لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي، ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور حكم اللفظي. فاعرف ذلك.
واعلم أن العرب تؤثر من التجانس والتشابه وحمل الفرع على الأصل، ما إذا تأملته عرفت منه قوة عنايتها بهذا الشأن، وأنه منها على أقوى بال، ألا ترى أنهم لما أعربوا بالحروف في التثنية والجمع الذي على حده، فأعطوا الرفع في التثنية الألف، والرفع في الجمع الواو، والجر فيهما الياء، وبقي النصب لا حرف له فيماز به، جذبوه إلى الجر فحملوه عليه دون الرفع، لتلك الأسباب المعروفة هناك، فلا حاجة بنا هنا إلى الإطالة بذكرها، ففعلوا ذلك ضرورة، ثم لما صاروا إلى جمع التأنيث حملوا النصب أيضاً على الجر، فقالوا ضربت الهندات "كما قالوا مررت بالهندات"، ولا ضرورة هنا لأنهم قد كانوا قادرين على أن يفتحوا التاء، فيقولوا: رأيت الهندات، فلم يفعلوا ذلك مع إمكانه وزوال الضرورة التي عارضت في المذكر عنه، فدل دخولهم تحت هذا -مع أن الحال لا تضطر إليه- على إيثارهم واستحبابهم حمل الفرع على الأصل، وإن عرى من ضرورة الأصل. وهذا جلي كما ترى.
ومن ذلك حملهم حروف المضارعة بعضها على حكم بعض، في نحو حذفهم الهمزة في نكرم، وتكرم، ويكرم، لحذفهم إياها في أكرم، لما كان يكون هناك من الاستثقال، لاجتماع الهمزتين في نحو أؤكرم، وإن عريت بقية حروف المضارعة -لو لم تحذف- من اجتماع همزتين، وحذفهم أيضاً الفاء من نحو وعد، وورد، في يعد، ويرد لما كان يلزم -لو لم تحذف- من وقوع الواوين ياء، وكسرة، ثم حملوا على ذلك ما لو لم يحذفوه بين ياء وكسرة، نحو أعد، وتعد، ونعد، لا للاستثقال، فإذا جاز أن يحمل حروف المضارعة بعضها على بعض -ومراتبها متساوية، وليس بعضها أصلاً لبعض- كان حمل المؤنث على المذكر؛ لأن المذكر أسبق رتبة من المؤنث، أولى وأجدر.
ومن ذلك مراعاتهم في الجمع حال الواحد؛ لأنه أسبق من الجمع، ألا تراهم لما أعلت الواو في الواحد، أعلوها أيضاً في الجمع، في نحو قيمة وقيم، وديمة وديم، لما صحت في الواحد صححوها في الجمع، فقالوا: زوج وزوجة، وثور وثورة.

فأما ثيرة ففي إعلال واوه ثلاثة أقوال: أما صاحب الكتاب فحمله على الشذوذ، وأما العباس فذكر أنهم أعلوه ليفصلوا بذلك بين الثور من الحيوان وبين الثور، وهو القطعة من الأقط، لأنهم لا يقولون فيه إلا ثِوَرة بالتصحيح لا غير. وأما أبو بكر فذهب في إعلال ثيَرة إلى أن ذلك لأنها منقوصة من ثيارة، فتركوا الإعلال في العين أمارة لما نووه من الألف، كما جعلوا تصحيح نحو اجتوروا، واعتونوا، دليلاً على أنه في معنى ما لابد من صحته وهو تجاوروا، وتعاونوا. وقد قالوا أيضاً: ثيرة قال:

صدر النهار يراعي ثيرةً رتعا


وهذا لا نكير له في وجوبه لسكونه عينه.
نعم وقد دعاهم إيثارهم لتشبيه الأشياء بعضها ببعض أن حملوا الأصل على الفرع، ألا تراهم يعلون المصدر لإعلال فعله، ويصححونه لصحته. وذلك نحو قولك: قمت قياماً، وقاومت قواماً. فإذا حملوا الأصل الذي هو المصدر على الفرع الذي هو الفعل فهل بقي في وضوح الدلالة على إيثارهم تشبيه الأشياء المتقاربة بعضها ببعض شبهة! وعلى ذلك أيضاً عوضوا في المصدر ما حذفوه في الفعل، فقالوا: أكرم يكرم، فلما حذفوا الهمزة في المضارع أثبتوها في المصدر، فقالوا: الإكرام، فدل هذا على أن هذه المثل كلها جارية مجرى المثال الواحد، ألا تراهم لما حذفوا ياء فرازين عوضوا منها الهاء في نفس المثال، فقالوا فرازنة. وكذلك لما حذفوا فاء عدة، عوضوا منها نفسها التاء. وكذلك أينق في أحد قولي سيبويه فيها: «لما حذفوا عينها عوضوا منها الياء في نفس المثال».
فدل هذا وغيره مما يطول تعداده على أن المثال، والمصدر، واسم الفاعل، كل واحد منها يجري عندهم وفي محصول اعتدادهم مجرى الصورة الواحدة، حتى إنه إذا لزم في بعضها شيء لعلة ما أوجبوه في الآخر، وإن عرى في الظاهر من تلك العلة، فأما في الحقيقة فكأنها فيه نفسه، ألا ترى أنه إذا صح أن جميع هذه الأشياء على اختلاف أحوالها تجري عندهم مجرى المثال الواحد، فإذا وجب في شيء منها حكم فإنه لذلك كأنه أمر لا يخصه من بقية الباب، بل هو جار في الجميع مجرى واحداً لما قدمنا ذكره من الحال آنفاً.
واعلم أن من قوة القياس عندهم، اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب، نحو قولك في قوله: كيف تبني من ضرب، مثل جعفر: ضربب هذا من كلام العرب، ولو بنيت مثله ضيرب، أو ضورب، أو ضروب، أو نحو ذلك لم يعتقد من كلام العرب، لأنه قياس على الأقل استعمالاً والأضعف قياساً. وسنفرد لهذا الفصل باباً فإن فيه نظراً صالحاً.