انتقل إلى المحتوى

الخصائص/باب في تقاود السماع وتقارع الانتزاع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


تقاود السماع وتقارع الانتزاع
باب في تقاود السماع وتقارع الانتزاع

هذا الموضع كأنه أصل الخلاف الشاجر بين النحويين. وسنفرد له باباً. غير أنا نقدم ها هنا ما كان لائقاً به، ومقدمة للقول من بعده. وذلك على أضرب: فمنها أن يكثر الشيء فيسئل عن علته كرفع الفاعل، ونصب المفعول، فيذهب قوم إلى شيء، ويذهب آخرون إلى غيره. فقد وجب إذاً تأمل القولين واعتماد أقواهما، ورفض صاحبه. فإن تساويا في القوة لم ينكرا اعتقادهما جميعاً، فقد يكون الحكم الواحد معلولاً بعلتين. وسنفرد لذلك باباً. وعلى هذا معظم قوانين العربية. وأمره واضح، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه. ومنها أن يسمع الشيء، فيستدل به من وجه على تصحيح شيء أو إفساد غيره، ويستدل به من وجه آخر على شيء غير الأول. وذلك كقولك: ضربتك، وأكرمته، ونحو ذلك مما يتصل فيه الضمير المنصوب بالضمير قبله المرفوع. فهذا موضع يمكن أن يستدل اتصال الفعل بفاعله.
ووجه الدلالة منه على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن الكاف في نحو ضربتك من الضمير المتصل، كما أن الكاف في نحو ضربك زيد كذلك، ونحن نرى الكاف في ضربتك لم تباشر نفس الفعل، كما باشرته في نحو ضربك زيد، وإنما باشرت الفاعل الذي هو التاء، فلولا أن الفاعل قد مزج بالفعل وصيغ معه، حتى صار جزءاً من جملته، لما كانت الكاف من الضمير المتصل، ولاعتدت لذلك منفصلة لا متصلة. لكنهم أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل في نحو ضربتك -وإن لم تكن من نفس حروف الفعل- مجرى نون التوكيد التي يبنى الفعل عليها، ويضم إليها، في نحو لأضربنك. فكما أن الكاف في نحو هذا معتدة من الضمير المتصل وإن لم تل نفس الفعل، كذلك الكاف في نحو ضربتك ضمير متصل وإن لم تل نفس الفعل. فهذا وجه الاستدلال بهذه المسألة ونحوها على شدة اتصال الفعل بفاعله، وتصحيح القول بذلك. وأما وجه إفساده شيئاً آخر فمن قبل أن فيه رداً على من قال: إن المفعول إنما نصبه الفاعل وحده، لا الفعل وحده، ولا الفعل والفاعل جميعاً.
وطريق الاستدلال بذلك أنا قد علمنا أنهم إنما يعنون بقولهم: الضمير المتصل: أنه متصل بالعامل فيه لا محالة، ألا تراهم يقولون: إن الهاء في نحو مررت به، ونزلت عليه، ضمير متصل، أي متصل بما عمل فيه وهو الجار، وليس لك أن تقول: إنه متصل بالفعل، لأن الباء كأنها جزء من الفعل، من حيث كانت معاقبة لأحد أجزائه المصوغة فيه، وهي همزة أفعل، وذلك نحو أنزلته ونزلت به، وأدخلته ودخلت به، وأخرجته وخرجت به، لأمرين: أحدهما أنك إن اعتددت الباء لما ذكرت كأنها بعض الفعل، فإن هنا دليلاً آخر يدل على أنها كبعض الاسم، ألا ترى أنك تحكم عليها وعلى ما جرته بأنهما جميعاً في موضع نصب بالفعل، حتى إنك لتجيز العطف عليهما جميعاً بالنصب، نحو قولك: مررت بك وزيداً، ونزلت عليه وجعفراً، فإذا كان هنا أمران أحدهما على حكم والآخر على ضده، وتعارضا هذا التعارض، ترافعا أحكامهما، وثبت أن الكاف في نحو مررت بك متصلة بنفس الباء، لأنها هي العاملة فيها. وكذلك الهاء في نحو إنه أخوك، وكأنه صاحبك، وكأنه جعفر: هي ضمير متصل، أي متصل بالعامل فيه، وهذا واضح.

والآخر إطباق النحويين على أن يقولوا في نحو هذا: إن الضمير قد خرج عن الفعل، وانفصل من الفعل، وهذا تصريح منهم بأنه متصل أي متصل بالباء العاملة فيه، فلو كانت التاء في ضربتك هي العاملة في الكاف، لفسد ذلك، من قبل أن أصل عمل النصب إنما هو للفعل، وغيره من النواصب مشبه في ذلك بالفعل، والضمير بالإجماع أبعد شيء عن الفعل، من حيث كان الفعل موغلاً في التنكير، والاسم المضمر متناه في التعريف. بل إذا لم يعمل الضمير في الظرف ولا في الحال -وهما مما تعمل فيه المعاني- كان الضمير من نصب المفعول به أبعد، وفي التقصير عن الوصول إليه أفعد. وأيضاً فإنك تقول: زيد ضرب عمراً، والفاعل مضمر في نفسك، لا موجود في لفظك، فإذا لم يعمل المضمر ملفوظا به، كان ألا يعمل غير ملفوظ به أحرى وأجدر.

وأما الاستدلال بنحو ضربتك على شيء غير الموضعين المتقدمين، فأن يقول قائل: إن الكاف في نحو ضربتك منصوبة بالفعل والفاعل جميعاً، ويقول: إنه متصل بهما كاتصاله بالعامل فيه في نحو إنك قائم ونظيره. وهذا أيضاً وإن كان قد ذهب إليه هشام فإنه عندنا فاسد من أوجه: أحدها أنه قد صح ووضح أن الفعل والفاعل قد تنزلا باثني عشر دليلاً منزلة الجزء الواحد، فالعمل إذاً إنما هو للفعل وحده، واتصل به الفاعل فصار جزءاً منه، كما صارت النون في نحو لتضربن زيداً كالجزء منه حتى خلط بها، وبنى معها. ومنها أن الفعل والفاعل إنما هو معنى، والمعاني لا تعمل في المفعول به، إنما تعمل في الظروف.
ومن ذلك أن تستدل بقول ضيغم الأسدي:

إذا هو لم يخفني في ابن عمي
وإن لم ألقه الرجل الظلوم

على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء، ألا ترى أن "هو" من قوله "إذا هو لم يخفني" ضمير الشأن والحديث، وأنه مرفوع لا محالة. فلا يخلو رفعه من أن يكون بالابتداء كما قلنا، أو بفعل مضمر. فيفسد أن يكون مرفوعاً بفعل مضمر، لأن ذلك المضمر لا دليل عليه، ولا تفسير له، وما كانت هذه سبيله لم يجز إضماره.
فإن قلت: فلم لا يكون قوله "لم يخفني في ابن عمي الرجل الظلوم" تفسيراً للفعل الرافع لـ"هو"؟ كقولك: إذا زيد لم يلقني غلامه فعلت كذا، فترفع زيداً بفعل مضمر يكون ما بعده تفسيراً له.
قيل: هذا فاسد من موضعين: أحدهما أنا لم نر هذا الضمير على سريطة التفسير عاملاً فيه فعل محتاج إلى تفسير. فإذا أدى هذا القول إلى ما لا نظير له، وجب رفضه واطراح الذهاب إليه. والآخر أن قولك "لم يخفني الرجل الظلوم" إنما هو تفسير لـ"هو"، من حيث كان ضمير الشأن والقصة لا بد له أن تفسره الجملة، نحو قول الله عز وجل: «قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ»، فقولنا «الله أَحَدٌ» تفسير لـ"هو".
وكذلك قوله تعالى: «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ» فقولك: «لا تَعْمَى الأبْصَار» تفسير لـ"ها"، من قولك: فإنها من حيث كانت ضمير القصة. فكذلك قوله: "لم يخفني الرجل الظلوم" إنما هذه الجملة تفسير لـ"هو". فإذا ثبت أن هذه الجملة إنما هي تفسير لنفس الاسم المضمر بقي ذلك الفعل المضمر لا دليل عليه، وإذا لم يقم عليه دليل بطل إضماره، لما في ذلك من تكليف علم الغيب. وليس كذلك "إذا زيد قام أكرمتك" ونحوه، من قبل أن زيداً تام، غير محتاج إلى تفسير.
فإذا لم يكن محتاجاً إليه صارت الجملة بعده تفسيراً للفعل الرافع له، لا له نفسه.
فإذا ثبت بما أوردناه ما أردناه، علمت وتحققت أن "هو" من قوله "إذا هو لم يخفني الرجل الظلوم" مرفوع بالابتداء لا بفعل مضمر.
وفي هذا البيت تقوية لمذهب أبي الحسن في إجازته الرفع بعد إذا الزمانية بالابتداء في نحو قوله تعالى «إذَا السَّمَاء انشَقَّتْ» و «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ».
ومعنا ما يشهد لقوله هذا: شيء غير هذا، غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا، إنما الغرض إعلامنا أن في البيت دلالة على صحة مذهب أبي الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذي أنشدناه.

وفيه دليل آخر على جواز خلق الجملة الجارية خبراً عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها، ألا ترى أن قوله "لم يخفني الرجل الظلوم" ليس فيه عائد على هو، وكيف يكون الأمر إلا هكذا، ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف ولا يؤكد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه، وذلك لضعفه، من حيث كان مفتقراً إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامة ما يرد عليك من هذا الضرب، ألا ترى أن قول الله عز وجل «الله أَحَد» لا ضمير فيه يعود على "هو" من قبله.
واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازاً صحيحاً أن يستدل به على أمر ما، وأن يستدل به على ضده البتة. وذلك نحو مررت بزيد، ورغبت في عمرو، وعجبت من محمد، وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجر.
فأحد ما يدل عليه هذا الضرب من القول أن الجار معتد من جملة الفعل الواصل به، ألا ترى أن الباء في نحو مررت بزيد معاقبة الهمزة لنقل في نحو أمررت زيداً، وكذلك قولك أخرجته وخرجت به، وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه، كائنة من جملته، فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ينبغي أن يعتد أيضاً من جملة الفعل، لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه.
والآخر أن يدل ذلك على أن حرف الجر جار مجرى بعض ما جره، ألا ترى أنك تحكم لموضع الجار والمجرور بالنصب فيعطف عليه فينصب لذلك، فنقول: مررت بزيد وعمراً، وكذلك أيضاً لا يفصل بين الجار والمجرور، لكونهما في كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد. أفلا تراك كيف تقدر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين، وكل واحد منهما مقبول في القياس، متلقى بالبشر والإيناس.
ومن ذلك قول الآخر:

زمان علي غراب غداف
فطيره الشيب عني فطارا

فهذا موضع يمكن أن يذهب ذاهب فيه إلى سقوط حكم ما تعلق به الظرف من الفعل، ويمكن أيضاً أن يستدل به على ثباته وبقاء حكمه. وذلك أن الظرف الذي هو "علي" متعلق بمحذوف، وتقديره غداة ثبت علي أو استقر علي غراب، ثم حذف الفعل وأقيم الظرف مقامه. وقوله فطيره -كما ترى- معطوف. فأما من أثبت به حكم الفعل المحذوف فله أن يقول: إن طيره معطوف على ثبت أو استقر، وجواز العطف عليه أدل دليل على اعتداده وبقاء حكمه، وأن العقد عليه، والمعاملة في هذا ونحوه إنما هي معه، ألا ترى أن العطف نظير التثنية، ومحال أن يثنى الشيء فيصير مع صاحبه شيئين إلا وحالهما في الثبات والاعتداد واحدة.
فهذا وجه جواز الاستدلال به على بقاء حكم ما تعلق به الظرف، وأنه ليس أصلاً متروكاً، ولا شرعاً منسوخاً.
وأما جواز اعتقاد سقوط حكم ما تعلق به الظرف من هذا البيت فلأنه قد عطف قوله "فطيره" على قوله "علي" وإذا جاز عطف الفعل على الظرف قوي حكم الظرف في قيامه مقام الفعل المتعلق هو به، وإسقاطه حكمه وتوليه من العمل ما كان الفعل يتولاه، وتناوله به ما كان متناولاً له.
فهذان وجهان من الاستدلال بالشيء الواحد على الحكمين الضدين، وإن كان وجه الدلالة به على قوة حكم الظرف وضعف حكم الفعل في هذا وما يجري مجراه هو الصواب عندنا، وعليه اعتمادنا وعقدنا. وليس هذا موضع الانتصار لما نعتقده فيه، وإنما الغرض منه أن نرى وجه ابتداء تفرع القول، وكيف يأخذ بصاحبه، ومن أين يقتاد الناظر فيه إلى أنحائه ومصارفه.
ونظير هذا البيت في حديث الظرف والفعل من طريق العطف قول الله -عز اسمه-: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ» أفلا تراه كيف عطف الظرف الذي هو "له من قوة" على قوله "تبلى" وهو فعل، فالآية نظيرة البيت في العطف وإن اختلفا في تقدم الظرف تارة، وتأخره أخرى.
وهذا أمر فيه انتشار وامتداد، وإنما أفرض منه ومما يجري مجراه ما يستدل به ويجعل عياراً على غيره. والأمر أوسع شقة، وأظهر كلفة ومشقة، ولكن إن طبنت له، ورفقت به، أولاك جانبه، وأمطاك كاهله وغاربه، وإن خبطته وتورطته كدك مهله، وأوعرت بك سبله فرفقاً وتأملاً.