الخصائص/باب في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني
اعلم أن هذا الباب من أشرف فصول العربية وأكرمها وأعلاها وأنزهها. وإذا تأملته عرفت منه وبه ما يؤنقك ويذهب في الاستحسان له كل مذهب بك. وذلك أن العرب كما تعنى بألفاظها فتصلحها وتهذبها وتراعيها وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى وبالأسجاع التي تلتزمها وتتكلف استمرارها فإن المعاني أقوى عندها وأكرم عليها وأفخم قدراً في نفوسها.
فأول ذلك عنايتها بألفاظها. فإنها لما كانت عنوان معانيها وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع لها في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد ألا ترى أن المثل إذا كان مسجوعا لذ لسامعه فحفظه فإذا هو حفظه كان جديراً باستعماله ولو لم يكن مسجوعاً لم تأنس النفس به ولا أنقت لمستمعه وإذا كان كذلك لم تحفظه وإذا لم تحفظه لم تطالب أنفسها باستعمال ما وضع له وجيء به من أجله. وقال لنا أبو علي يوماً: قال لنا أبو بكر: إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه. وكذلك الشعر: النفس له أحفظ وإليه أسرع ألا ترى أن الشاعر قد يكون راعياً جلفاً أو عبداً عسيفاً تنبو صورته وتمج جملته فيقول ما يقوله من الشعر فلأجل قبوله وما يورده عليه من طلاوته وعذوبة مستمعه ما يصير قوله حكماً يرجع إليه ويقتاس به، ألا ترى إلى قول العبد الأسود:
وقول نصيب:
وقول الآخر:
فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها وحموا حواشيها وهذبوها وصقلوا غروبها وأرهفوها فلا ترين أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ بل هي عندنا خدمة منهم للمعاني وتنويه بها وتشريف منها. ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه وتزكيته وتقديسه وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى عليه وجواره بما يعطر بشره ولا يعر جوهره كما قد نجد من المعاني الفاخرة السامية ما يهجنه ويغض منه كدرة لفظه وسوء العبارة عنه.
فإن قلت: فإنا نجد من ألفاظهم ما قد نمقوه وزخرفوه ووشوه ودبجوه ولسنا نجد مع ذلك تحته معنى شريفاً بل لا نجد قصداً ولا مقارباً ألا ترى إلى قوله:
فقد ترى إلى علو هذا اللفظ ومائه وصقاله وتلامح أنحائه ومعناه مع هذا ما تحسه وتراه: إنما هو: لما فرغنا من الحج ركبنا الطريق راجعين وتحدثنا على ظهور الإبل. ولهذا نظائر كثيرة شريفة الألفاظ رفيعتها مشروفة المعاني خفيضتها.
قيل: هذا الموضع قد سبق إلى التعلق به من لم ينعم النظر فيه ولا رأى ما أراه القوم منه وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر وخفاء غرض الناطق. وذلك أن في قوله "كل حاجة" ما يفيد منه أهل النسيب والرقة وذوو الأهواء والمقة ما لا يفيده غيرهم ولا يشاركهم فيه من ليس منهم ألا ترى أن من حوائج منى أشياء كثيرة غير ما الظاهر عليه والمعتاد فيه سواها لأن منها التلاقي ومنها التشاكي ومنها التخلي إلى غير ذلك مما هو تال له ومعقود الكون به. وكأنه صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه بقوله في آخر البيت:
أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي أنضيناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان وما هو لاحق به وجار في القربة من الله مجراه أي لم يتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت من التعريض الجاري مجرى التصريح.
وأما البيت الثاني فإن فيه:
وفي هذا ما أذكره لتراه فتعجب ممن عجب منه ووضع من معناه. وذلك أنه لو قال: أخذنا في أحاديثنا ونحو ذلك لكان فيه معنى يكبره أهل النسيب، وتعنو له ميعة الماضي الصليب. وذلك أنهم قد شاع عنهم واتسع في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الأليفين والفكاهة بجمع شمل المتواصلين، ألا ترى إلى قول الهذلي:
وقال آخر:
قال الآخر:
وقال المولد:
الأبيات الثلاثة. فإذا كان قدر الحديث - مرسلاً - عندهم هذا على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله " بأطراف الأحاديث ". وذلك أن قوله " أطراف الأحاديث " وحياً خفياً ورمزاً حلواً ألا ترى أنه يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون من التعريض والتلويح والإيماء دون التصريح وذلك أحلى وأدمث وأغزل وأنسب من أن يكون مشافهة وكشفاً ومصارحة وجهراً وإذا كان كذلك فمعنى هذين البيتين أعلى عندهم وأشد تقدماً في نفوسهم من لفظهما وإن عذب موقعه وأنق له مستمعه.
نعم وفي قوله:
من الفصاحة ما لا خفاء به. والأمر في هذا أسير، وأعرف وأشهر.
فكأن العرب إنما تحلى ألفاظها وتدبجها وتشيها وتزخرفها عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلا بها إلى إدراك مطالبها وقد قال رسول الله ﷺ: «إن من الشعر لحكماً وإن من البيان لسحرا». فإذا كان رسول الله ﷺ يعتقد هذا في ألفاظ هؤلاء القوم التي جعلت مصايد وأشراكاً للقلوب وسبباً وسلماً إلى تحصيل المطلوب عرف بذلك أن الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم -لا شك - أشرف من الخادم.
والأخبار في التلطف بعذوبة الألفاظ إلى قضاء الحوائج أكثر من أن يؤتى عليها أو يتجشم للحال نعت لها ألا ترى إلى قول بعضهم وقد سأل آخر حاجة فقال المسئول: إن علي يميناً ألا أفعل هذا. فقال له السائل: إن كنت - أيدك الله - لم تحلف يميناً قط على أمر فرأيت غيره خيراً منه فكفرت عنها له وأمضيته فما أحب أن أحنثك وإن كان ذلك قد كان منك فلا تجعلني أدون الرجلين عندك. فقال له: سحرتني وقضى حاجته. وندع هذا ونحوه لوضوحه ولنأخذ لما كنا عليه فنقول: مما يدل عىل اهتمام العرب بمعانيها وتقدمها في أنفسها على ألفاظها أنهم قالوا في شمللت وصعررت وبيطرت وحوقلت ودهورت وسلقيت وجعبيت: إنها ملحقة بباب دحرجت. وذلك أنهم وجدوها على سمتها: عدد حروف وموافقة بالحركة والسكون فكانت هذه صناعة لفظية ليس فيها أكثر من إلحاقها ببنائها واتساع العرب بها في محاوراتها وطرق كلامها. والدليل على أن فعللت وفعيلت وفوعلت وفعليت ملحقة بباب دحرجت مجيء مصادرها على مثل مصادر باب دحرجت. وذلك قولهم: الشمللة والبيطرة والحوقلة والدهورة والسلقاة والجعباة. فهذا ونحوه كالدحرجة والهملجة والقوقاة والزوزاة. فلما جاءت مصادرها الرباعية والمصادر أصول للأفعال حكم بإلحاقها بها ولذلك استمرت في تصريفها استمرار ذوات الأربعة. فقولك: بيطر يبيطر بيطرة كدحرج يدحرج دحرجة ومبيطر كمدحرج. وكذلك شملل يشملل شمللة وهو مشملل. فظهور تضعيفه على هذا الوجه أوضح دليل على إرادة إلحاقه. ثم إنهم قالوا: قاتل يقاتل قتالاً ومقاتلة وأكرم يكرم إكراماً وقطع يقطع تقطيعاً فجاءوا بأفعل وفاعل وفعل غير ملحقة بدحرج وإن كانت على سمته وبوزنه كما كانت فعلل وفيعل وفوعل وفعول وفعلى على سمته ووزنه ملحقة. والدليل على أن فاعل وأفعل وفعل غير ملحقة بدحرج وبابه امتناع مصادرها أن تأتي على مثال الفعللة ألا تراهم لا يقولون: ضارب ضاربة ولا أكرم أكرمة ولا قطع قطعة فلما امتنع فيها هذا - وهو العبرة في صحة الإلحاق - علم أنها ليست ملحقة بباب دحرج. فإذا قيل: فقد تجيء مصادرها من غير هذا الوجه على مثال مصادر ذوات الأربعة ألا تراهم يقولون: قاتل قيتالاً وأكرم إكراماً {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} فهذا بوزن الدحراج والسرهاف والزلزال والقلقال قال: سرهفته ما شئت من سرهاف قيل: الاعتبار بالإلحاق بها ليس إلا من جهة الفعللة دون الفعلال وبه كان يعتبر سيبويه. ويدل على صحة ذلك أن مثال الفعللة لا زيادة فيه فهو بفعلل أشبه من مثال الفعلال والاعتبار بأصول أشبه منه وأوكد منه بالفروع. فإن قلت: ففي الفعللة الهاء زائدة قيل: الهاء في غالب أمرها وأكثر أحوالها غير معتدة من حيث كانت في تقدير المنفصلة. فإن قيل: فقد صح إذاً أن فاعل وأفعل وفعّل - وإن كانت بوزن دحرج - غير ملحقة به فلم لم تلحق به قيل: العلة في ذلك أن كل واحد من هذه المثل جاء بمعنى. فأفعل للنقل وجعل الفاعل مفعولاً نحو دخل وأدخلته وخرج وأخرجته. ويكون أيضاً للبلوغ نحو أحصد الزرع وأركب المهر وأقطف الزرع ولغير ذلك من المعاني. وأما فاعل فلكونه من اثنين فصاعداً نحو ضارب زيد عمراً وشاتم جعفر بشراً. وأما فعّل فللتكثير نحو غلّق الأبواب وقطّع الحبال وكسّر الجرار. فلما كانت هذه الزوائد في هذه المثل إنما جيء بها للمعاني خشوا إن هم جعلوها ملحقة بذوات الأربعة أن يقدر أن غرضهم فيها إنما هو إلحاق اللفظ باللفظ نحو شملل وجهور وبيطر فتنكبوا إلحاقها بها صوناً للمعنى وذباً عنه أن يستهلك ويسقط حكمه فأخلوا بالإلحاق لما كان صناعة لفظية ووقروا المعنى ورجبوه لشرفه عندهم وتقدمه في أنفسهم. فرأوا الإخلال باللفظ في جنب الإخلال بالمعنى يسيراً سهلاً وحجماً محتقراً. وهذا الشمس إنارة مع أدنى تأمل. ومن ذلك أيضاً أنهم لا يلحقون الكلمة من أولها إلا أن يكون مع الحرف الأول غيره ألا ترى أن " مَفعلاً " لما كانت زيادته في أوله لم يكن ملحقاً بها نحو: مَضرب ومَقتل. وكذلك " مِفعل " نحو: مِقطع ومِنسج وإن كان مَفعل بوزن جعفر ومِفعل بوزن هِجرع. يدل على أنهما ليسا ملحقين بهما ما نشاهده من ادغامهما نحو مسد ومرد ومتل ومشل. ولو كانا ملحقين لكانا حري أن يخرجا على أصولهما كما خرج شملل وصعرر على أصله. فأما محبب فعلم خرج شاذاً كتهلل ومكوزة ونحو ذلك مما احتمل لعلميته. وسبب امتناع مَفعل ومِفعل أن يكونا ملحقين - وإن كانا على وزن جعفر وهِجرع - أن الحرف الزائد في أولهما وهو لمعنى وذلك أن مَفعلاً يأتي للمصادر نحو ذهب مذهباً ودخل مدخلاً وخرج مخرجاً. ومِفعلاً يأتي للآلات والمستعملات نحو مِطرق ومِروح ومِخصف ومئزر. فلما كانت الميمان ذواتى معنى خشوا إن هم ألحقوا بهما أن يتوهم أن الغرض فيهما إنما هو الإلحاق حسب فيستهلك المعنى المقصود بهما فتحاموا الإلحاق بهما ليكون ذلك موفراً على المعنى لهما. ويدلك على تمكن المعنى في أنفسهم وتقدمه للفظ عندهم تقديمهم لحرف المعنى في أول الكلمة وذلك لقوة العناية به فقدموا دليله ليكون ذلك أمارة لتمكنه عندهم. وعلى ذلك تقدمت حروف المضارعة في أول الفعل إذ كن دلائل على الفاعلين: من هم وما هم وكم عدتهم نحو أفعل ونفعل وتفعل ويفعل وحكموا بضد " هذا لِلّفظ " ألا ترى إلى ما قاله أبو عثمان في الإلحاق: إن أقيَسه أن يكون بتكرير اللام فقال: باب شمللت وصعررت أقيس من باب حوقلت وبيطرت وجهورت. أفلا ترى إلى حروف المعاني: كيف بابها التقدم وإلى حروف الإلحاق والصناعة: كيف بابها التأخر. فلو لم يعرف سبق المعنى عندهم وعلوه في تصورهم إلا بتقديم دليله وتأخر دليل نقيضه لكان مغنياً من غيره كافياً. وعلى هذا حشوا بحروف المعاني فحصنوها بكونها حشواً وأمنوا عليها ما لا يؤمن على الأطراف المعرضة للحذف والإجحاف. وذلك كألف التكسير وياء التصغير نحو دارهم ودريهم وقماطر وقميطر. فجرت في ذلك - لكونها حشواً - مجرى عين الفعل المحصنة في غالب الأمر المرفوعة عن حال الطرفين من الحذف ألا ترى إلى كثرة باب عدة وزنة وناس والله في أظهر قولي سيبويه وما حكاه أبو زيد من قولهم لاب لك وويلِمّهِ ويا با المغيرة وكثرة باب يد ودم وأخ وأب وغَد وهَن وحِر واست وباب ثُبة وقُلة وعِزَة وقلة باب مُذ وسَه: إنما هما هذان الحرفان بلا خلاف. وأما ثُبة ولِثة فعلى الخلاف. فهذا يدلك على ضنهم بحروف المعاني وشحهم عليها: حتى قدموها عناية بها أو وسطوها تحصيناً لها. فإن قلت: فقد نجد حرف المعنى آخراً كما نجده أولاً ووسطاً. وذلك تاء التأنيث وألف التثنية وواو الجمع على حده والألف والتاء في المؤنث وألفا التأنيث في حمراء وبابها وسكرى وبابها وياء الإضافة كهني فما ذلك قيل: ليس شيء مما تأخرت فيه علامة معناه إلا لعاذر مقنع. وذلك أن تاء التأنيث إنما جاءت في طلحة وبابها آخراً من قبل أنهم أرادوا أن يعرفونا تأنيث ما هو وما مذكره فجاءوا بصورة المذكر كاملة مصححة ثم ألحقوها تاء التأنيث ليعلموا حال صورة التذكير وأنه قد استحال بما لحقه إلى التأنيث فجمعوا بين الأمرين ودلوا على الغرضين. ولو جاءوا بعلم التأنيث حشواً لانكسر المثال ولم يعلم تأنيث أي شيء هو. فإن قلت: فإن ألف التكسير وياء التحقير قد تكسران مثال الواحد والمكبر وتخترمان صورتيهما لأنهما حشو لا آخر. وذلك قولك دفاتر ودفيتر وكذلك كليب وحجير ونحو ذلك قيل: أما التحقير فإنه أحفظ للصورة من التكسير ألا تراك تقول في تحقير حبلى: حبيلى وفي صحراء: صحيراء فتقر ألف التأنيث بحالها فإذا كسرت قلت: حبالى وصحارى وأصل حبالى حبال كدعاو وتكسير دعوى فتغير علم التأنيث. وإنما كان الأمر كذلك من حيث كان تحقير الاسم لا يخرجه عن رتبته الأولى - أعني الإفراد - فأقر بعض لفظه لذلك وأما التكسير فيبعده عن الواحد الذي هو الأصل فيحتمل التغيير لا سيما مع اختلاف معاني الجمع فوجب اختلاف اللفظ. وأما ألف التأنيث المقصورة والممدودة فمحمولتان على تاء التأنيث وكذلك علم التثنية والجمع على حده لاحق بالهاء أيضاً. وكذلك ياء النسب. وإذا كان الزائد غير ذي المعنى قد قوي سببه حتى لحق بالأصول عندهم فما ظنك بالزائد ذي المعنى وذلك قولهم في اشتقاق الفعل من قلنسوة تارة: تقلنس وأخرى: تقلسى فأقروا النون وإن كانت زائدة وأقروا أيضاً الواو حتى قلبوها ياء في تقلسيت. وكذلك قالوا: قَرنُوة فلما اشتقوا الفعل منها قالوا قرنيت السقاء فأثبتوا الواو كما أثبتوا بقية حروف الأصل: من القاف والراء والنون ثم قلبوها ياء في قرنيت. هذا مع أن الواو في قرنوة زائدة للتكثير والصيغة لا للإلحاق ولا للمعنى وكذلك الواو في قلنسوة للزيادة غير الإلحاق وغير المعنى. وقالوا في نحوه: تعفرت الرجل إذا صار عفريتاً فهذا تفعلت وعليه جاء تمسكن وتمدرع وتمنطق وتمندل ومخرق وكان يسمى محمداً ثم تمسلم أي صار يسمى مسلماً و " مرحبك الله ومسهلك " فتحملوا ما فيه تبقية الزائد مع الأصل في حال الاشتقاق كل ذلك توفية للمعنى وحراسة له ودلالة عليه. ألا تراهم إذ قالوا: تدرع وتسكن وإن كانت أقوى اللغتين عند أصحابنا فقد عرضوا أنفسهم لئلا يعرف غرضهم: أمن الدرع والسكون أم من المدرعة والمسكنة وكذلك بقية الباب. ففي هذا شيئان: أحدهما حرمة الزائد في الكلمة عندهم حتى أقروه إقرار الأصول. والآخر ما يوجبه ويقضى به: من ضعف تحقير الترخيم وتكسيره عندهم لما يقضى به ويفضي بك إليه: من حذف الزوائد على معرفتك بحرمتها عندهم. فإن قلت: فإذا كان الزائد إذا وقع أولاً للإلحاق فكيف ألحقوا بالهمزة في ألَندد وألَنجج والياء في يلَندد ويلَنجج والدليل على الإلحاق ظهور التضعيف قيل: قد قلنا قبل: إنهم لا يلحقون الزائد من أول الكلمة إلا أن يكون معه زائد آخر فلذلك جاز الإلحاق بالهمزة والياء في ألندد ويلندد لما انضم إلى الهمزة والياء والنون. وكذلك ما جاء عنهم من إنقحل - في قول صاحب الكتاب - ينبغي أن تكون الهمزة في أوله للإلحاق - بما اقترن بها من النون - بباب جِردَحل. ومثله ما رويناه عنهم من قولهم: رجل إنزَهوٌ وامرأة إنزَهوة ورجال إنزهوون ونساء إنزهوات إذا كان ذا زهو فهذا إذاً إنفعل. ولم يحك سيبويه من هذا الوزن إلا إنقحلا وحده وأنشد الأصمعي - رحمه الله -: لما رأتني خَلَقاً إنقَحلا ويجوز عندي في إنزهوٍ غير هذا وهو أن تكون همزته بدلاً من عين فيكون أصله عِنزَهو: فِنعلو من العزهاة وهو الذي لا يقرب النساء. والتقاؤهما أن فيه انقباضاً وإعراضاً وذلك طرف من أطراف الزهو قال: إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا وإذا حملته على هذا لحق بباب أوسع من إنقحل وهو باب قِندأو وسِندأو وحِنطأو وكِنتأو. فإن قيل: ولم لما كان مع الحرف الزائد إذا وقع أولاً زائد ثان غيره صارا جميعاً للإلحاق وإذا انفرد الأول لم يكن له قيل: لما كنا عليه من غلبة المعاني للألفاظ على ما تقدم. وذلك أن أصل الزيادة في أول الكلمة إنما هو للفعل. وتلك حروف المضارعة في أفعلُ ونفعلُ وتفعلُ ويفعلُ وكل واحد من أدلة المضارعة إنما هو حرف واحد فلما انضم إليه حرف آخر فارق بذلك طريقه في باب الدلالة على المعنى فلم ينكر أن يصار به حينئذ إلى صنعة اللفظ وهي الإلحاق. ويدلك على تمكن الزيادة إذا وقعت أولاً في الدلالة على المعنى تركهم صرف أحمد وأرمل وأزمل وتنضب ونرجس معرفة لأن هذه الزوائد في أوائل الأسماء وقعت موقع ما هو أقعد منها في ذلك الموضع وهي حروف المضارعة. فضارع أحمد أركب وتنضب تقتل ونرجس نضرب فحمل زوائد الأسماء في هذا على أحكام زوائد الأفعال دلالة على أن الزيادة في أوئل الكلم إنما بابها الفعل. فإن قلت: فقد نجدها للمعنى ومعها زائد آخر غيرها وذلك نحو ينطلق وأنطلق وأحرنجم ويخرنطم ويقعنسس. قيل: المزيد للمضارعة هو حرفها وحده فأما النون فمصوغة في حشو الكلمة في الماضي نحو احرنجم ولم تجتمع مع حرف المضارعة في وقت واحد كما التقت الهمزة والياء مع النون في ألنجج ويلندد في وقت واحد. فإن قلت: فقد تقول: رجل ألد ثم تلحق النون فيما بعد فتقول: ألندد فقد رأيت الهمزة والنون غير مصطحبتين. قيل: هاتان حالان متعاديتان وذلك أن ألد ليس من صيغة ألندد في وأما ألندد فهمزته مرتجلة مع النون في حال واحدة ولا يمكنك أن تدعي أن احرنجم لما صرت إلى مضارعه فككت يده عما كان فيها من الزوائد ثم ارتجلت له زوائد غيرها ألا ترى أن المضارع مبناه على أن ينتظم جميع حروف الماضي من أصل أو زائد كبيطر ويبيطر وحوقل ويحوقل وجهور ويجهور وسلقى ويسلقي وقطع ويقطع وتكسر ويتكسر وضارب ويضارب. فأما أكرم يكرم فلولا ما كره من التقاء الهمزتين في أؤكرم لو جيء به على أصله للزم أن يؤتى بزيادته فيه كما جيء بالزيادة في نحو يتدحرج وينطلق. وأما همزة انطلق فإنما حذفت في ينطلق للاستغناء عنها بل قد كانت في حال ثباتها في حكم الساقط أصلاً فهذا واضح. ولأجل ما قلناه: من أن الحرف المفرد في أول الكلمة لا يكون للإلحاق ما حمل أصحابنا تهلل على أن ظهور تضعيفه إنما جاز لأنه عَلَم والأعلام تغير كثيراً. ومثله عندهم محبب لما ذكرناه. وسألت يوماً أبا علي - رحمه الله - عن تجفاف: أتاؤه للإلحاق بباب قرطاس فقال: نعم واحتج في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألف معها. فعلى هذا يجوز أن يكون ما جاء عنهم من باب أُملود وأُظفور ملحقاً بباب عُسلوج ودُملوج وأن يكون إطريح وإسليح ملحقاً بباب شِنظيز وخنزير. ويبعد هذا عندي لأنه يلزم منه أن يكون باب إعصار وإسنام ملحقاً بباب حِدبار وهِلقام وباب إفعال لا يكون ملحقاً ألا ترى أنه في الأصل للمصدر نحو إكرام وإحسان وإجمال وإنعام وهذا مصدر فعل غير ملحق فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له. وكأن هذا ونحوه إنما لا يجوز أن يكون ملحقاً من قبل أن ما زيد على الزيادة الأولى في أوله إنما هو حرف لين وحرف اللين لا يكون للإلحاق إنما جيء به لمعنى وهو امتداد الصوت به وهذا حديث غير حديث الإلحاق ألا ترى انك إنما تقابل بالملحق الأصل وباب المد إنما هو الزيادة أبداً فالأمران على ما ترى في البعد غايتان. فإن قلت على هذا: فما تقول في باب إزمَول وإدرَون أملحق هو أم غير ملحق وفيه - كما ترى - مع الهمزة الزائدة الواو زائدة قيل: لا بل هو ملحق بباب جردحل وحنزقر. وذلك أن الواو التي فيه ليست مداً لأنها مفتوح ما قبلها فشابهت الأصول بذلك فألحقت بها. فإن قلت: فقد قال في طومار: إنه ملحق بقسطاس والواو كما ترى بعد الضمة أفلا تراه كيف ألحق بها مضموماً ما قبلها. قيل: الأمر كذلك وذلك أن موضع المد إنما هو قبيل الطرف مجاوراً له كألف عماد وياء سعيد وواو عمود. فأما واو طومار وياء ديماس فيمن قال دياميس فليستا للمد لأنهما لم تجاورا الطرف. وعلى ذلك قال في طومار: إنه ملحق لما فلو بنيت على هذا من " سألت " مثل طومار وديماس لقلت: سوءال وسيئال. فإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الحرفين قبلها ولم تحتشم ذلك فقلت: سوال وسيال ولم تجرهما مجرى واو مقروءة وياء خطيئة في إبدالك الهمزة بعدهما إلى لفظهما وادغامك إياهما فيها في نحو مقروة وخطية. فلذلك لم يقل في تخفيف سوءال وسيئال: سُوّال ولا سِيّال. فاعرفه. فإن قيل: ولم لم يتمكن حال المد إلا أن يجاور الطرف قيل: إنما جيء بالمد في هذه المواضع لنعمته وللين الصوت به. وذلك أن آخر الكلمة موضع الوقف ومكان الاستراحة والأون فقدموا أمام الحرف الموقوف عليه ما يؤذن بسكونه وما يخفض من غلواء الناطق واستمراره على سنن جريه وتتابع نطقه. ولذلك كثرت حروف المد قبل حرف الرويّ - كالتأسيس والردف - ليكون ذلك مؤذناً بالوقوف ومؤدياً إلى الراحة والسكون. وكلما جاور حرف المد الروي كان آنس به وأشد إنعاماً لمستمعه. نعم وقد نجد حرف اللين في القافية عوضاً عن حرف متحرك أوزنة حرف متحرك حذف من آخر البيت في أتم أبيات ذلك البحر كثالث الطويل وثاني البسيط والكامل. فلذلك كان موضع حرف اللين إنما هو لما جاور الطرف. فأما ألف فاعل وفاعال وفاعول ونحو ذلك فإنها وإن كانت راسخة في اللين وعريقة في المد فليس ذلك لاعتزامهم المد بها بل المد فيها - أين وقعت - شيء يرجع إليها في ذوقها وحسن النطق بها ألا تراها دخولها في " فاعل " لتجعل الفعل من اثنين فصاعداً نحو ضارب وشاتم فهذا معنى غير معنى المد وحديث غير حديثه. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح تصريف أبي عثمان وغيره من كتبي وما خرج من كلامي. فإن قلت: فإذا كان الأمر كذا فهلا زيدت المدات في أواخر الكلم للمد فإن ذلك أنأى لهن وأشد تمادياً بهن قيل: يفسد ذاك من حيث كان مؤدياً إلى نقض الغرض وذلك أنهن لو تطرفن لتسلط الحذف عليهن فكان يكون ما أرادوه من زيادة الصوت بهن داعياً إلى استهلاكه بحذفهن ألا ترى أن ما جاء في آخره الياء والواو قد حفظن عليه وارتبطن له بما زيد عليهن من التاء من بعدهن وذلك كعفرية وحدرية وعفارية وقراسية وعلانية ورفاهية وبُلهنية وسُحفنية وكذلك عرقوة وترقوة وقلنسوة وقمحدوة. فأما رباع وثمان وشناح فإنما احتمل ذلك فيه للفرق بين المذكر والمؤنث في رباعية وثمانية وشناحية. وأيضاً فلو زادوا الواو طرفاً لوجب قلبها ياء ألا تراها لما حذفت التاء عنها في الجمع قلبوها ياء قال: أهل الرياط البيض والقلنسي وقال المجنون: وبيض القلنسي من رجال أطاول حتى تقُضّي عرقي الدُلي وأيضاً فلو زيدت هذه الحروف طرفاً للمد بها لانتقض الغرض من موضع آخر. وذلك أن الوقف على حرف اللين ينقصه ويستهلك بعض مده ولذلك احتاجوا لهن إلى الهاء في الوقف ليبين بها حرف المد. وذلك قولك: وازيداه وواغلامهموا وواغلام غلامهيه. وهذا شيء اعترض فقلنا فيه ولنعد. فإن قيل زيادة على مضى: إذا كان موضع زيادة الفعل أوله بما قدمته وبدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو استفعل وباب زيادة الاسم آخراً بدلالة اجتماع ثلاث زوائد فيه نحو عِنظيان وخِنذيان وخُنزوان وعُنفوان فما بالهم جعلوا الميم - وهي من زوائد الأسماء - مخصوصاً بها أول المثال نحو مفعل ومفعول ومِفعال ومُفعِل وذلك الباب على طوله. قيل: لما جاءت لمعنى ضارعت بذلك حروف المضارعة فقدمت وجعل ذلك عوضاً من غلبة زيادة الفعل على أول الجزء كما جعل قلب الياء واواً في التقوى والبقوى عوضاً من كثرة دخول الواو على الياء. وعلى الجملة فالاسم أحمل للزيادة في آخره من الفعل وذلك لقوة الاسم وخفته فاحتمل سحب الزيادة من آخره. والفعل - لضعفه وثقله - لا يتحامل بما يتحامل به الاسم من ذلك لقوته. ويدلك على ثقل الزيادة في آخر الكلمة أنك لا تجد في ذوات الخمسة ما زيد فيه من آخره إلا الألف لخفتها وذلك قبعثرى وضبغطرى وإنما ذلك لطول ذوات الخمسة فلا ينتهي إلى آخرها إلا وقد ملت لطولها. فلم يجمعوا على آخرها تماديه وتحميله الزيادة عليه. فإنما زيادتها في حشوها نحو عضرفوط وقرطبوس ويستعور وصهصليق وجعفليق وعندليب وحنبريت. وذلك أنهم لما أرادوا ألا يخلوا ذوات الخمسة من الزيادة كما لم يخلوا منها الأصلين اللذين قبلها حشوا بالزيادة تقديماً لها كراهية أن ينتهي إلى آخر الكلمة على طولها ثم يتجشموا حينئذ زيادة هناك فيثقل أمرها ويتشنع عليهم تحملها. فقد رأيت - بما أوردناه - غلبة المعنى للفظ وكون اللفظ خادماً له مشيداً به وأنه إنما جيء به له ومن أجله. وأما غير هذه الطريق: من الحمل على المعنى وترك اللفظ - كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإضمار الفاعل لدلالة المعنى عليه وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه وحذف الحروف والأجزاء التوام والجمل وغير ذلك حملاً عليه وتصوراً له وغير ذلك مما يطول ذكره ويمل أيسره - فأمر مستقر ومذهب غير مستنكر.